العراق: عام المخاطر والحلول؟
انتهى عام 2006 وبدأ عام جديد مليء بالوعود والتمنيات والأكاذيب. فالعراقيون يتحدثون عن خطط أمنية جديدة كأنها ستحدث معجزة بعد أن فشلت الخطط السابقة في إخراج العراق من عنق الزجاجة، والأمريكيون يتحدثون عن إستراتيجية جديدة، بعد أن أخفقت كافة استراتيجياتهم السابقة، وكأنها الإكسير السحري الذي سينقذ العراق من محنته بين ليلة وضحاها، وبدأ باليه الزيارات الرسمية وغير الرسمية، العلنية والسرية، المخطط لها والمفاجئة، بين المسؤولين العراقيين والأمريكيين والبريطانيين ، والجميع يعزف على لحن واحد يكرر بإلحاح ممل، أن الأزمة الأمنية لا تحل عسكرياً لأنها بالأساس مشكلة سياسية ولابد من إيجاد حل سياسي لها، فلماذا لم يجدوا هذا الحل السياسي لحد الآن ؟ يقول المثل أن السياسيين في العراق مختلفين وكل يغني على ليلاه ويدفع باتجاه التصعيد وهو إما لا يعي خطورة ما يقوم به أو لا يهمه ذلك.كانت مبادرة دونالد رامسفيلد الو داعية ملفتة للنظر وترسم نهاية لحقبة وبداية لحقبة جديدة بعد زيارته المفاجئة للعراق وتوديع قواته وتسليمه لمسؤولياته عبر مراسيم رسمية بحضور الرئيس بوش لخلفه روبير غيتس، الذي قام بزيارة للقوات الأمريكية في العراق بعد يومين من تسلمه لمنصبه الجديد لتحديد ورسم ملامح الإستراتيجية الجديدة التي يرغب بها ويتمناها سيد البيت الأبيض، ويرفع توصياته الميدانية بشأن أفضل وأنجع طريقة لإدارة الحرب في العراق وهي لا تعدو عن الرجوع إلى المربع الأول أو :" عادة حليمة لعادتها القديمة" كما يقول المثل أي المحافظة على النهج والاستمرار في الوجهة وخط السير المرسوم حتى بلوغ النصر القابع وراء المجهول . فبالرغم من اعتراف بوش بعدم تحقيق النصر ولكنه في نظره لم يتعرض لهزيمة ولن يتعرض لهزيمة وأن الانتصار أمر حتمي طال الزمن أم قصر ولا يتحدث الرئيس بوش مع زواره وضيوفه سوى عن " استراتيجية النصر المؤكد " الذي لم يتحقق بالسرعة التي كان يتمناها لآن الأعداء والخصوم نجحوا في عرقلة مخططاته لخلق عراق حر وديمقراطي مزدهر على حد تعبيره لذلك لا يريد الاستعجال في اتخاذ القرارات المصيرية، إذ أن الآراء التي حصدها من هنا وهناك متباينة ومتناقضة بيد أنه متأكد من أمر واحد ألا وهو رفضه القاطع لفكرة الانسحاب العاجل والفوري من العراق الذي له وقع الهزيمة النكراء لأنه لا يريد التخلي عن العراق وهو في قمة محنته وأوج تحدياته، من هنا ليس وارداً على الإطلاق الانسحاب قبل إتمام المهمة كما جاء على لسانه. لقد توصل بوش إلى هذا الاستنتاج بعد جولة من اللقاءات والمحادثات مع أركان إدارته ومع الكونغرس ذي الأغلبية الديمقراطية ومختلف القادة العراقيين كرئيس الوزراء السيد نوري المالكي والسيد عبد العزيز الحكيم رئيس كتلة الإتلاف الشيعي وطارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الإسلامي العراقي واستخلص بأن وزير دفاعه الجديد بحاجة إلى مزيد من الوقت لتحديد رؤيته العملية للخروج من المأزق العراقي والتأقلم مع تعقيدات هذا الملف وحيثياته لاسيما وأن استطلاعات الرأي الأخيرة التي نشرتها صحيفة الواشنطن بوست تقيد بأن 25% من الأمريكيين يعتقدون بأن بلدهم في طريقه لأن يخسر الحرب وأن 41% يقدرون بأن العراق اليوم فريسة لفوضى عارمة وحرب أهلية دامية ، وأن شعبية الرئيس بوش متدنية جداً حتى بلغت 36% . ومن تداعيات هذا الانحدار اضطرار بوش للتخلي عن أغلب مساعديه المتشددين من تيار المحافظين الجدد مع تمسكه بأفكارهم ورفضه التفاوض دون مقابل مع طهران ودمشق، وهي التوصية الواردة في مذكرة بيكر ـ هاملتون التي تدعو إلى سحب القوات الأمريكية تدريجياُ وتسريع تدريب وتأهيل وتجهيز القوات العراقية لكي تتسلم الملف الأمني في بلدها وانسحاب الجزء الأكبر من القوات من العراق بحلول عام 2008 .
إلى هذا، يمكن الالتفات إلى سلوك ينطوي على مفارقة من جانب البيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ والمتمثل بعدم إتباع رغبات ومطالب الرأي العام ورفض فكرة الاستسلام خاصة وأن الحزب الديمقراطي ، وإن كان غير راغب بمساعدة بوش للخروج من ورطته في العراق، ناهيك عن أنه لا يود استفزاز جناحه اليساري الذي أبدى أسفه لغياب جدول زمني للانسحاب ، إلا أنه لا يستطيع المخاطرة بتحويل ملف العراق إلى رهان انتخابي جوهري حيث قد ينقلب ذلك إلى عامل مضاد سلبي سيكون من الصعب على الديمقراطيون التعامل معه بحذاقة.
لقد وصل إلى العراق إلى طريق مسدودة وتجاوز كافة الخطوط الحمر بالرغم من حقنات المورفين التخديرية لهذا المريض الذي بات يحتضر في غرف الإنعاش والعناية المركزة والمسمى العراق المحتل. والذي ينطبق عليه المثل القائل :" أنه عند سقوك النعجة تنهال السكاكين على رقبتها " أسطع مثال على ذلك التصريحات المؤذية والمستفزة التي صدرت عن المملكة العربية السعودية ، رغم التكذيبات الرسمية، ومفادها أن العربية السعودية لن تتخلى عن الأقلية السنية العراقية ولن تبقى مكتوفة الأيدي أمام ذبحهم على يد الشيعة في العراق في حال انسحاب القوات الأمريكية المحتلة واندلاع حرب أهلية ـ طائفية بين الشيعة والسنة وأن الرياض مستعدة لبذل ما لديها من مال وسلاح للقوى السنية لمواجهة القوى الشيعية المدعومة من إيران وهذا هو فحوى الرسالة التي حملها نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني عن الملك عبد الله إبان زيارته للمملكة العربية السعودية في نهاية نوفمبر وكذلك المقال الذي أصدره مستشار سياسي للنظام السعودي ويتحدث بنفس هذا الاتجاه . كما أن رئيس الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية جون نغروبونتي استمع لنفس النغمة من قبل السعوديين ومعارضتهم لأية تنازلات تقدمها الإدارة الأمريكية للإيرانيين خاصة بشأن الملف النووي الإيراني الذي يشكل خطرا على أمن الخليج برمته فنشاط إيران في مختلف المناطق العربية كما في لبنان وسورية وفلسطين وبعض دول الخليج ، والفوضى العارمة التي تعصف بالعراق وتستفيد منها إيران بكل تأكيد، تثير قلق العربية السعودية ويعتقد الزعماء السعوديون أنه في حالة تفكك وانقسام العراق إلى عدة دويلات لن يبق أمام السنة في العراق سوى اللجوء إلى تنظيمات إرهابية كتنظيم القاعدة لحماية أنفسهم ومصالحهم وهذا ما سيشكل خطراً داهماً على النظام السعودي بسبب تغلغل الإرهابيين التكفيريين داخل المملكة وقد تترجم هذا الاستياء السعودي من السياسة الأمريكية الشرق أوسطية بانسحاب السفير السعودي في واشنطن الأمير تركي الفيصل .
هذا هو حال العراق على الصعيد الدولي والإقليمي ولكن ما هو وضع العراق على الصعيد المحلي أو الداخلي؟ و كيف يعيش المواطن العراقي العادي في ظل الظروف التي يمر العراق بها في الوقت الراهن؟
عندما تطأ أقدام الزائر مدينة بغداد فإن أول ما سيشعر به على الفور أنها مدينة محتلة ومخربة وفي حالة يصعب شرحها ومع ذلك يحدث فيها في كل لحظة مايذكرنا بمأساتها ومعاناتها وصعوبة، بل أكاد أقول إستحالة العيش فيها . فالأمن غائب والقتل على الهوية مستباح، فالخدمات مفقودة والكهرباء غائبة والمياه ملوثة والأحياء الشعبية مهملة والمجاري معطلة والقمامة متراكمة في تلال في كل زاوية من زواياها ونفس المشاهد نلاحظها في باقي مدن ومحافظات العراق مع ما يترتب على مثل هذا المشهد من اشمئزاز ومخاطر صحية.وأسوأ ما فيها أنها مدينة خطرة في الليل والنهار إضافة إلى أنها يجثم فوق صدرها كابوس الاحتلال. والاحتلال الأمريكي يعني من بين أشياء أخرى كثيرة فضائح السجون وعمليات الاعتقال العشوائية والتعذيب والسجون وحالة الطواريء والإهانات والقتل التي يتعرض لها شعب بأكمله من قبل قوات الاحتلال . لم تعد بغداد وحدة جغرافية متناسقة ومنظَمة كما كان حالها عندما كانت عاصمة متماسكة. فبغداد اليوم تعني أيضاَ المنطقة الخضراء السيئة الصيت ، التي كانت جنة أرضية حكرا على رأس النظام السابق وعائلته وباتت اليوم رقعة معزولة أمريكية ـ عراقية زرعت في قلب المدينة يفترض أنها ترمز إلى ( عراق جديد).إلاَ أنه عراق بعيد جداَ عن العراق الواقعي الذي تسرح وتمرح في سمائه الطائرات والمروحيات وتزحم شوارعه الأرتال العسكرية والعناصر التكفيرية المسلحة والميليشيات حيث تكون فوهات المدافع والهاونات والسيارت المفخخة والعبوات الناسفة فيها موجهة إلى السكان باعتبارهم الأعداء المفترضين فالشعب محتل من قبل العناصر المسلحة من جهة وقوات الاحتلال الأجنبية وعناصر الشركات الأمنية المنفلتة من جهة أخرى والكل يجوب الشوارع والأحياء والمناطق المتوترة والآهلة بالسكان والطرق الرئيسية التي تربط بين المدن حيث يحوم الموت في كل لحظة.
الاحتلال يعني أيضاً مشاهد البنايات المهدمة والواجهات المدمرة والسيارات المحترقة على جانبي الطرق وفوق الأرصفة وبقايا السيارات المفخخة المتفجرة التي كانت تبحث عن أهدافها دون تمييز بين ما هو عسكري وما هو مدني، وآثار الرصاص والقذائف على واجهات المنازل والمحلات في الشوارع حيث يتمركز المسلحون المتمردون على بعد مائة متر من المنطقة الخضراء التي تضم بين جدرانها العالية مؤسسات الحكم والبرلمان الذي يشهد مسرحيات مؤلمة كان آخرها تهديد نائب رئيس البرلمان الكردي عارف طيفور النائب عن القائمة العراقية أسامة النجفي بالقتل والاغتيال والتصفية الجسدية بسبب موقفه السياسي من الاستفتاء في كركوك والأوضاع في ديالى والموصل والحال أن هذه المؤسسة التشريعية يفترض فيها أن تكون الرمز الديمقراطي للعملية السياسية في العراق فماذا حققت هذه العملية السياسية ـ الديمقراطية في العراق منذ ما يقارب الأربعة أعوام بعد سقوط نظام الطاغية صدام؟ لاشيء سوى الخراب التام الذي شمل جميع أنحاء العراق لغابة نهابة العام 2006 الذي كان عام المخاطر والدمار والدماء فهل يمكن أن يكون حال عام 2007 هو عام الحلول؟ نأمل ذلك.
د. جواد بشارة / باريس
Jawad_bashara@yahoo.com