العراق: عودة النازحين ممنوعة
المصدر: العربي الجديد
يتندّر أشقاؤنا السوريون عند ذكر أوضاع بلادهم بإطلاق تسمية "حارة كلمن إيدو إلو" عليها، وفق المثل الشعبي الذي أعاده إلى أذهانهم مسلسل "صح النوم" الكوميدي الذي أنتج في مطالع سبعينيات القرن الراحل، والذي ربما يجهل كثيرون اسم كاتبه نهاد قلعي، فيما يركزون على بطله دريد لحّام. وعلى أية حال، فان ما يهمّ هنا أن العراق قد ينافس سورية في جدارته بهذه التسمية، حيث لا هيبة للقانون، ولا حضور للنظام العام، وحيث السلطة موزّعة بين أطرافٍ وشخصياتٍ بعضُها غير منظور، وكل طرفٍ يمارس سلطته من غير حسيبٍ ولا رقيب.
هل ثمّة أدلة دامغة أكثر مما حدث ويحدُث بخصوص منطقة "جرف الصخر"، على بعد عشرات الكيلومترات من العاصمة بغداد، والتي اضطرّ معظم سكّانها إلى النزوح منها في فترة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولم يتمكّنوا من العودة بعد تحريرها بسبب إحكام قبضة إيران عليها من خلال "وكلائها" النافذين، ورجال مليشياتها الذين توغلوا فيها، وأقاموا متاريس وحصونا من حولها، واستولوا على مساكنها، كما أنشأوا فيها مقرّات وإدارات وسجونا، وسيطروا على معامل تابعة لهيئة التصنيع العسكري السابقة. الأكثر من ذلك، بنوا فيها معسكرات لتدريب مليشياتهم، ومستودعات ملأوها بأسلحة ثقيلة ومتوسّطة، ومسيّرات وصواريخ غنموها بعد إجبار قوات الجيش النظامي على الخروج، واستحوذوا على مزارع وبحيرات أسماك وشرعوا باستثمارها. وهناك من يؤكّد أن بعض رجال "الحرس الثوري" يقيمون هناك، وقد تحوّلت المدينة بفضلهم إلى قاعدة إيرانية متقدّمة، وتم ذلك كله بصمت حكومي عراقي مريب. وإذ فكرت وزيرة الهجرة والمهجرين إيفان فائق أن تزور المدينة للاطّلاع على أوضاعها، ولتسهيل عودة أهلها إليها باعتبار أن ذلك يدخل ضمن واجبات وزارتها، فوجئت بأنها غير مسموح لها بذلك، ونصحتها "قيادات سياسية" بترك الأمر!
وفي واقعة أخرى، تجرّأ "تحالف السيادة" الذي يشكّل جزءا من "ائتلاف إدارة الدولة"، يسمّيه بعضهم "إتلاف إدارة الدولة"، على المطالبة بعودة النازحين والمهجّرين إلى أماكن سكناهم تطبيقا لمنهاج حكومة محمد شيّاع السوداني المتفق عليه، جاءه الرد من قائد مليشيا حزب الله والحاكم بأمره في المنطقة، أبو علي العسكري، أن "تحقيق هذا الحلم دونه حلم إبليس بالعودة إلى الجنة"، ووافقه في الرأي زعيم مليشيا العصائب، قيس الخزعلي، الذي أسهب في شرح مبرّرات عدم السماح بإعادتهم في الوقت الحاضر بأنه من "متطلّبات الأمن القومي". وبالطبع، يعني الخزعلي أمن إيران التي "ينتمي" إليها!
فوجئت وزيرة الهجرة والمهجرين بأنه غير مسموح لها دخول منطقة "جرف الصخر"، ونصحتها "قيادات سياسية" بترك الأمر!
واستطرادا مع ما أشير إليه، يبدو أن رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني الذي وعد بحل المشكلة قد واجه الرد نفسه الذي عرضه زعماء المليشيات التي تحكم المنطقة، فهو لم يستطع أن يفي بوعده خلال المائة يوم الأولى من عمر حكومته، وها قد مضت المائة الثانية، وربما تجيء المئة الثالثة. والمشكلة سوف تظل في مكانها، يذكّرنا ذلك بوعد مماثل قطعه على نفسه رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي لكنه لم يستطع أن يفي به، وقد كلفه وعده هذا خسارته منصبه، وربما يكلفه أيضا عدم تسنمه منصب رئيس الحكومة مرّة أخرى، وهذا المصير قد يواجه السوداني نفسه.
ورغم أن المشكلة تبدو "عراقية" خالصة، إلا أن من يعرف أسرار ما وراء الأبواب المغلقة يكشف أن الأمر كله بيد طهران، وليس بيد بغداد. ويروي وزير سابق على "تويتر" حكاية المسؤول العراقي الرفيع الذي زار إيران، وعرض الأمر أمام مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي الذي رفض مناقشة الموضوع، وعاد المسؤول الرفيع بخفّي حنين.
في رصد مواز، ثمّة ما ساعد "وكلاء" إيران النافذين وزعماء مليشياتها الحاكمين في "جرف الصخر"، وفي غيرها من بقاع العراق المحرّرة، وهو أن ثوار تشرين الذين حملوا الأمل في عنفوان حراكهم تنكّبوا الطريق مرّة أخرى، واستسلموا سياسيا لما هو سائد، ولم يعودوا في وارد التصدّي للمشكلات المصيرية التي يعاني منها مواطنوهم، وفي المقدمة منها مشكلة وجود مليون نازح ومهجّر، التي دخلت دائرة التجاذب بين هذا الطرف وذاك، وهكذا أوشك الشر أن ينتصر، لأن "الرجال الطيبين"، بتعبير المفكر الأيرلندي أدموند بيرك، "لم يفعلوا شيئا، واكتفوا بالتفرّج على ما يحدُث والتزام الصمت".
ومع هذا كله، لا يزال اليوم ثمّة بقية صبر لدى أهالي جرف الصخر وسواها من بقاع البلاد الذين تعرّضوا لظلم مركب، وهم لا يتمنّون سوى أن يحيوا حياة طبيعية، أن يعودوا إلى مساكنهم، وأن تعاد إليهم مزارعهم وبساتينهم وبحيراتهم، لكن هناك من يأبى عليهم ذلك. ... والسؤال الذي يفرض نفسه: من يمكنه حل هذ اللغز؟ ومتى؟