العراق : في أعماق المجهول؟
هل ستنتصر سلطة العنف؟
الإعلام المضبب هو الذي يغلف القضية العراقية اليوم ويمنع انبثاق رؤية حقيقية ناصعة وواضحة وصريحة لما يجري هناك، فحرب الإعلام والإعلام المضاد ، الإعلام الذي يدعي الحياد والإعلام المنحاز، الإعلام الذي يقول أنه واقعي والإعلام التضليلي أو الكاذب والمزيٌف للحقائق أو المتلاعب بها لأغراض مستترة ، هي حرب مستعرة بلا هوادة ، ولا أحد يعرف من هو الصادق ومن هو الكاذب، من المحق والصائب ومن الشرير والضال. المواطن العراقي داخل وخارج العراق ، والمواطن العربي ،بل والإنسان أينما وجد ويهتم في الشأن العراقي، ضحية لهذه الثنوية المتناقضة التي تضرب بجذورها عميقاً وتعود بتاريخها إلى فجر الإنسانية واندلاع الصراع بين الخير والشر ، والله والشيطان، والأبيض والأسود ، النور والظلام الخ..
فبموازاة الجهد المضني الجاد والصادق في فرض القانون والأمن تتصاعد وتيرة أعمال العنف والعنف المضاد في كل أنحاء العراق وبالرغم من ذلك تدعي الحكومة أن الخطة الأمنية سائرة في طريقها المرسوم وقد بدأت بالفعل تعطي بعض الثمار بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من بدءها ، بينما يؤكد خصوم السلطة من كل حدب وصوب وبمختلف أصنافهم ، من إرهابيين وتكفيريين وفلول النظام الصدامي السابق، من مجرمين وقتلة ولصوص وقطاع طرق ومجرمي الحق العام الذي أطلق صدام حسين سراحهم قبل سقوطه المهين والميليشيات المسلحة ، أن السلطة الحالية زائلة لا محالة وهي موجودة على قيد الحياة بفضل القوات الأجنبية المحتلة وتحت حمايتها ، وتؤكد هذه الجماعات المسلحة المعادية للحكومة وللشعب العراقي في آن واحد، أن الأوضاع تزداد سوءاً ، بل وصلت إلى منعطفات خطيرة من خلال ازدياد حجم التدمير والخسائر البشرية بين صفوف المواطنين الأبرياء المدنيين ، ومن خلال اللجوء إلى أسلحة أكثر فعالية وفتكاً وأكثر خطورة مثل استخدام الغارات السامة داخل العبوات الناسفة والمتفجرات خاصة إذا انفجرت وسط مناطق آهلة ومزدحمة بالسكان المدنيين كالأسواق وكراجات السيارات ومحطات النقل البري والشوارع التجارية والساحات العامة التي يتجمع فيها العمال الباحثين عن عمل يومي كعمال البناء ، وكذلك بسبب ظهور نوع جديد من القذائف المضادة للدروع والدبابات والتي يخشاها الأمريكيون ويتهمون إيران بتصنيعها وتسليمها للعناصر المسلحة المعادية للنظام الحالي وللوجود الأمريكي المحتل كما تدعي لأن قوات الاحتلال تشكل بنظرها السد المنيع أمام استعادتها للسلطة بوسائل العنف، وكذلك وجود صواريخ سام 7 الفعالة في حرب العصابات وحرب الشوارع ، وبالتالي لا تتوانى تلك القوى المسلحة في تحدي النظام البديل عن النظام الدكتاتوري السابق وفي وضح النهار، أي تتحدى سلطة القانون وسلطة الجيش العراقي والجيوش الأجنبية المساندة له التي يفترض فيها أنها تسيطر على الشارع العراقي وتوفر الأمن فيه وتقلب معادلة العنف وترهب الإرهابيين بينما واقع الحال يشير إلى العكس وهو أن الإرهابيين والتكفيريين والصداميين هم الذين يسيطرون على الشارع العراقي ويحصرون الحكومة والأمريكيين في الثكنات والمنطقة الخضراء المحصنة والمحمية، وتنقل شاشات التلفزة الفضائية أخباراُ وأفلاماً عن تفجيرات وهجمات انتحارية وخطف لعناصر الشرطة وقوى الأمن وذبحهم كما حصل قبل أيام من خطف وإعدام 18 من عناصر قوات الانتشار السريع العراقية ذبحاً لعدم استجابة الحكومة العراقية لمطالب الخاطفين المجرمين بتسليم الرجال الذين أشيع ظلماً أنهم اغتصبوا المدعوة صابرين الجنابي واتضح فيما بعد أن قصتها مفبركة بكل حذافيرها ولم تكن سوى تمثيلية هزيلة وبائسة استثمرت من قبل هؤلاء المجرمين . وكذلك اختطاف ضابط كبير في الجيش العراقي ومستشار في وزارة الدفاع هو الفريق ثامر التكريتي الذي تم إطلاق سراحه بعد شن عملية عسكرية مضادة من قبل القوات العراقية وتم إنقاذ حياته من موت محتوم ، وغير ذلك من الأخبار الأليمة التي تتناقلها يومياً وكالات الأنباء.
نفس الغموض والضبابية يلف مواقف السياسيين المشاركين في العملية السياسية. فحتى الأطراف السياسية المشاركة في هذه العملية السياسية بكل تشعباتها وتنوعها وقادتها يتراشقون التهم ويعمقون الهوة بينهم ويرسخون مشاعر الريبة والشك وانعدام الثقة إن لم نقل الشعور بالتآمر بعضهم ضد البعض الآخر. فهناك نواب برلمانيون معروفون في مجلس النواب العراقي من جبهة التوافق على سبيل المثال لا الحصر يطعنون بالبرلمان وشرعيته وهم أعضاء فيه ويطعنون بالانتخابات ونزاهتها وشرعيتها وكانوا قد شاركوا فيها وحصلوا على مقاعد مهمة داخل البرلمان ، وعلى وزراء ومناصب رفيعة كنيابة رئاسة الجمهورية ونيابة رئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان ، وبالرغم من ذلك يمجدون الإرهاب باسم المقاومة ، ويشككون بجدية وفاعلية الخطة الأمنية ويكيلون التهم الكاذبة للقائمين بتنفيذ هذه الخطة ، كما اتضح من تصريحات النائب عن كتلة التوافق عبد الناصر الجنابي عبر بعض وسائل الإعلام والفضائيات وقبلة الحملة التي شنها النائب عن نفس الكتلة محمد الدايني عبر وسائل الإعلام ذاتها وفبركته فيلماً عن فرق الموت بالتعاون مع القناة البريطانية الرابعة عبر وثائق مزيفة وقرائن ملفقة وكذلك تصريحات واتهامات عدنان الدليمي في مؤتمر اسطنبول لنصرة الشعب العراقي وخلف العليان عبر مشاركاته الإعلامية في مختلف الفضائيات . وكذلك بعض المواقف السلبية من جانب نواب من القائمة العراقية التي يرأسها الدكتور أياد علاوي وتهديداتهم بالانسحاب من العملية السياسية وتقويضها . لذلك، وفي خضم الحملة العسكرية المسماة خطة فرض القانون ، تموج داخل البرلمان تحركات محمومة ومحاولات دؤوبة ومناورات مثيرة لتحييد وتهميش الأغلبية الحاكمة حالياً وتشكيل تركيبة سياسية جديدة تحظى برضا ودعم وتأييد العرٌاب الأمريكي ذاته ولكن برئاسة الدكتور أياد علاوي للمرة الثالثة ربما أو أي شخص آخر من قائمته ويتحالف معه عدد آخر من النواب حتى من داخل الائتلاف العراقي كحزب الفضيلة وبعض النواب من مجموعة المستقلين كجماعة قاسم داوود وغيرهم. تدور تلك المناورات العلنية والخفية على خلفية تحرك سياسي يتمثل بالإعداد لتنظيم مؤتمر لإحلال السلام في العراق تشارك فيه الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وبضمنها فرنسا وكذلك كل دول الجوار العراقي إضافة إلى مصر والباكستان والهند ودول مجلس التعاون الخليجي ولهذه الخطو مغزى كبير ودلالات عميقة لأن فشل هذا المؤتمر سيكون له تداعيات خطيرة ستنعكس سلباً على مصداقية السلطة لا سيما بعد نشر آراء لمجموعة من العسكريين الأمريكيين في الصحافة البريطانية أعلنوا فيها أن أمام أمريكا ستة أشهر لتحقيق الانتصار الموعود على الإرهاب في العراق وإلا ستواجه الولايات المتحدة الأمريكية إنهياراً شبيهاً بما شهدته في حرب فيتنام وتتعرض لهزيمة نكراء سبق أن ذاقت طعمها في فيتنام والصومال ولبنان. كما وصفت صحف انجليزية أخرى موافقة أمريكا الجلوس على طاولة واحدة تضم إيران وسوريا بأنها بمثابة برنامج مهين لكنه ضروري خاصة بعد أن أدركت واشنطن خطورة الموقف على الساحة العراقية وقدمت هذا التنازل المذل والمؤثر على هيبتها والساحق لغطرستها السابقة.
ليس أمام العراق خيار آخر، فإما الانتحار الجماعي أو المثابرة ومواصلة ما بدأته الحكومة في محاولة أخيرة لفرض القانون والأمن وتطهير العراق من العناصر الإجرامية والتخريبية إلى جانب ضرورة إيجاد الحل السياسي الملائم وتحقيق المصالحة الحقيقية بين مختلف مكونات الشعب العراقي . لذا فإن الخطة الأمنية مفتوحة المدى ومستمرة وبدأت تحقيق بعض النتائج الملموسة والاستمرار بشن الهجمات المباغتة والمميتة ضد أوكار الإرهابيين والميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة والصداميين الذين يريدون إشاعة الفوضى والدمار في العراق لنسف جهود الحكومة الحالية في تطبيع الأوضاع ، بالرغم من وقوع أضرار جانبية لا يمكن تفاديها وحصول بعض التجاوزات والانتهاكات المحدودة لبعض حقوق الإنسان كالاعتقالات الجماعية وبعضها عشوائية هناك وهناك وسقوط ضحايا أبرياء لهذه الأعمال العسكرية . لقد أدت الخطة الأمنية إلى اعتقال المئات من العناصر المخربة والمجرمين والإرهابيين التكفيريين والصداميين الذين يحنون للعودة إلى السلطة بعد إعدام زعيمهم إلى جانب الكثير من الأبرياء الذين شاءت أقدارهم أن يكونوا متواجدين في المكان والزمان غير المناسبين لسوء الحظ، كما تمت مصادرة أكداس من الأسلحة والمتفجرات والذخيرة التي أورثها لهم نظام صدام المقبور وأمدتهم بها جهات مشبوهة في دول الجوار . علينا أن نتوخى الموضوعية في تقويم الأوضاع في العراق فلا ينبغي استغلال الثغرات والأخطاء المرتكبة كما يفعل المنافسون أو الخصوم المناوئون لرئيس الوزراء من سياسيين ورؤساء كتل من داخل العملية السياسية وذلك لأغراض تعبوية يصاحبها الكثير من الضجيج الإعلامي بغية إحراج الحكومة وقذفها بتهم باطلة لتلويث سمعتها في وسائل الإعلام لدى الرأي العام العالمي والعربي في حين لم تستطع الحكومة العراقية لحد الآن السيطرة على تسلل العناصر الإرهابية التي تتنقل بحرية من وإلى العراق يومياً عبر الحدود المنفلتة المحيطة بالعراق ، ولا الرد على الحملات الإعلامية المجحفة المضادة لها .
المشكلة التي تواجهها الحكومة العراقية الحالية هي الاختراقات التي حدثت داخل أجهزتها الأمنية والعسكرية كالجيش والشرطة والاستخبارات من قبل عناصر مشبوهة ومجرمة من الإرهابيين والصداميين والتكفيريين والميليشيات حيث صاروا يمارسون جرائمهم تحت غطاء رسمي وبوسائل وإمكانات الدولة وآلياتها وباسمها بلا رادع ولا ضمير.
إلى جانب تقاعس أو عجز الحكومة عن تغيير الواقع العراقي اليومي المرير والمتردي الذي جوٌل حياة العراقيين إلى جحيم لا يطاق وأغرقهم في فقر مدقع ومعاناة لا تحتمل . فلم تفلح الحكومة بعد أربع سنوات من الحكم في توفير الكهرباء والوقود البيتي والبنزين بل ولم تفكر حتى في حلول وسطية كإنشاء مصافي نفطية صغيرة في كل محافظة ومدينة يمكنها تحويل النفط الخام إلى مشتقات نفطية زهيدة بدلاً من استيرادها بأسعار باهظة وبكميات لا تكفي الحاجة الحقيقية للاستهلاك الداخلي أو نصب محطات توليد كهرباء صغيرة في كل مدينة لتوفير حاجات تلك المدينة من الطاقة الكهربائية. ومازالت الحكومة تتخبط في الكثير من الملفات كاختيار نمط الاقتصاد المناسب للشعب العراقي في المرحلة الحالية أو التعامل مع عدد من القوانين كقانون الاستثمار وقانون النفط والغاز إذ لم تنجح في تسويق هذه القوانين وإقناع القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني بجدية وفعالية تلك القوانين وفائدتها للشعب العراقي وصيانتها لمصالحه العليا بالرغم من بث الكثير من الطعون والانتقادات والاتهامات حيالها بكونها ستؤدي إلى التفريط بثروات العراق لصالح الشركات الدولية والأمريكية وحرمان المواطن العراقي من حقوقه وتكبيل العراق بعقود مجحفة لعقود طويلة مقابل فتات وبالتالي يتعين على الحكومة التريث قبل البت نهائياً في تلك التشريعات الملزمة للعراق والشعب العراقي لأمد طويل . وبسبب قلة الكفاءات في مواقع المسؤولية الحساسة في الدولة لاسيما في السلك الدبلوماسي ، أثيرت في الآونة الأخيرة العديد من الأزمات التي أساءت لسمعة الحكومة منها مشكلة الفساد لاسيما في قضية الجوازات وإصدار الكثير منها لغير العراقيين لأكراد من تركيا وسوريا وإيران بينما يحرم منها العراقيين الحقيقيين المقيمين في المهجر، وانتشار آلاف الجوازات المزيفة من فئة (س) مما حدا ببعض الدولة إلى سحب الاعتراف بها ومنع التعامل معها وهذا سيعرض مئات الآلاف من العراقيين لكثير من المصائب والمحن والاضطراب داخل وخارج العراق فكيف يجوز لحكومة أن تلغي وثيقة سفر رسمية من دون أن توفر البديل القانوني المعترف به مسبقاً تاركة ملايين العراقيين خارج الوطن ممن هربوا من الموت يواجهون مشاكلهم العويصة والخطيرة الناجمة عن سحب الاعتراف بجوازاتهم سيما مع الدول المضيفة لهم .وهناك أزمات اجتماعية عاجلة تحتاج للحلول السريعة كتزايد عدد المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة وتزايد أعداد العاطلين عن العمل وتفاقم البطالة بين صفوف الشباب مما يدفعهم للارتماء في أحضان الإرهاب ولجوء الكثير من العائلات والأطفال إلى القمامة لتوفير لقمة العيش الملوثة بكل أنواع الجراثيم والمكروبات في بلد الخيرات . ولم تتمكن الحكومة إلى الآن من إيجاد حل لمشكلة المهجٌرين قسراً داخل العراق وتكدسهم داخل مخيمات تفتقر لأبسط وسائل العيش والحياة الكريمة وهذه أسوء صور لامتهان الكرامة الإنسانية .
وإزاء هذا الوضع البالغ التعقيد والسوء تطفو إلى السطح مشاريع بديلة تتمثل في تفكيك التكتلات السياسية الحالية وتشيع سيناريوهات مثل حكومة الإنقاذ الوطني أو الانقلاب العسكري أو تغيير خارطة التحالفات السياسية كما حصل مؤخرا من إعلان حزب الفضيلة انسحابه من الائتلاف الحكومي والعمل ككتلة مستقلة وهذا يعني أنها خطوة أولى نحو انسحابات أخرى متوقعة كانسحاب القائمة العراقية من الدولة والوزارة ، وكذلك انسحاب كتلة التوافق والبدء في مفاوضات جديدة لتشكيلات سياسية بديلة تكون أغلبية برلمانية أخرى تناط بها تشكيلة حكومة بديلة وقد شهدنا ملامح ذلك في الاجتماع الذي عقده اياد علاوي وعدنان الباججي مع مسعود البرزاني في أربيل مؤخرا والتقارب بين حزب الفضيلة وقائمة علاوي حسب مصادر موثوقة مما يعني أننا أما منعطف سياسي جديد لا يمكن حساب تداعياته في الوقت الحاضر .
د. جواد بشارة / باريس
Jawad_bashara@yahoo.com