العراق .. نظام مأزوم وشعب مهزوم
ليس هناك أحلى من نصر يحققه أي شعب كان ، لمّا تأتيه الفرصة التاريخية كي يعبر عن ارادته في اقامة نظام ديمقراطي على انقاض حقب طويلة من الحكم الشمولي الإستبدادي . وليس هناك احق من الشعب أن يكون مصدر السلطات وأن يرهن مواطَنة حرة على ارضه بيد ممثليه الصادقين الذين يتسلمون المسؤولية بجدارة وأمانة واخلاص .كان العراقيون على موعد مع هذا الإنجاز ، بعد أن جاد الأجنبي عليهم بفرصة التخلص من اعتى نظام دكتاتوري ، انتهت بسقوطه مرحلة مظلمة وطويلة من العنت والإستهتار والهمجية . بيد أن الشعب الذي تم انتشاله من نيوب نظام فاشي تنهش وتمزق به لمدة ثلاثة عقود ونيف ، لم يكن عند مستوى هذه المسؤولية الصعبة ، وهو في حالة غير صحية سببها الإصطفاف السياسي المشوه الذي ضرب طوقاً على القضية الوطنية ، واحتكرها لإركازها على دعائم طائفية حسب ما تمليه المناهج الحزبية ذات المنطلقات الدينية ، تلك ىالأحزاب التي شغلت الفراغ السياسي فورَ سقوط النظام ، وشرعت تتصرف وفق اجندة مؤدلجة ومسنودة من الخارج ، اضرت بالمسار الوطني الموحد المفترض حضوره ، لقطع الطريق أمام القوى المعادية المتمثلة بمخلفات النظام وبالتنظيمات الظلامية ومروجي ظاهرة الإرهاب التي عصفت بالبلاد .
تأسست دولة مهزوزة مشوهة تحميها الملشيات الضالعة في القتل والإجرام ، تتعاون معها اجهزة الإستخبارات الإيرانية ، في حملة تصفية العسكريين من الطيارين والمراتب العالية في الجيش العراقي المنحل ، ثم شملت تلك الحملة الإجهاز على العقول العراقية من اساتذة الجامعات والأطباء والعلماء في مسلسل رهيب لتدمير البلد . حصل كل هذا ولا زال ، والدولة التي ينخرها الفساد الإداري والمالي والجاثمة على مؤسسات تعج بنماذج من نفايات الشعب العراقي ، تقدم كشوفات عن تحسن الأوضاع الأمنية ، نسبة الى الهبوط المحسوس في تفخيخ السيارات وانفجار العبوات الناسفة في بغداد . وعلى هذا المقياس أُعتُبِرت سنة 2007 بداية اندحار الإرهاب وأشِّرَت درجة تحسن الوضع الأمني في بغداد بـ ( 75 % ) دون الأخذ بالحسبان ما يحدث في المحافظات الأخرى من حوادث دموية وعمليات القتل الإنفرادي التي تقع على الطرق وعلى اطراف المدن .
دخل العراق المدمى عامه الخامس ، ليستقبله بحمامات جديدة من الدم وفـي بغداد ( المحسنة أمنياً ) وجملة من هذه الحوادث هي : استشهاد اربعة عشر وجرح سبعة عشر بسيارة مفخخة في حي الكرادة ، استشهاد اربعة واصابة احد عشر بسيارة ملغومة في حي القاهرة ، اختطاف عشرة مواطنين في نفس الحي ، استشهاد قائد صحوة الأعظمية وثمانية من حمايته وجرح خمسة وعشرين ، قصف دور العبادة للمسيحيين من الأديرة والكنائس بالهاونات والمفخخات ، وهذا غيض من فيض مما سيقع في بغداد .
فالتحسن الموسمي الذي طرأ على الملف الأمني في بغداد ، كان ملموساً ومرده كان في زيادة القوة الأمريكية وتركيزها في نقطة واحدة ، الأمر الذي دعى القوى المعادية التي تتقن اسلوب المناورة للإنسحاب الى أماكن أخرى وكما هو مشهود في نشاطاتها في الموصل وكركوك وديالى وغيرها من المحافظات ، وما حدث هذه الأيام في بغداد يشير الى أن الإرهابين يمارسون تكتيك الكر والفر واتخاذ محطات مضللة .
وإزاء هذه الحال ، نتصور بأن النظام الذي يراوح في مكانه وهو عاجز عن تحريك العملية السياسية باتجاه تفعيل المصالحة لإخـراج الدولـة ومؤسساتها مـن ربقـة المحاصصة والطائفية ، سيبقى عاجزاً عن إنقاذ العراق من مأزقه ، ونقولها بدون مواربة ، بأن كل مراهنة على انتخابات برلمانية لاحقة لتبديل تركيبة الدولة ، ستكون خاسرة طالما كانت الأحزاب الدينية تراهن على ولاءاتها وعلى آلياتها المركبة من منظومة الملشيات الكبيرة المسلحة ، ومن مراكز دينية صاحبة النفوذ الواسع في المواقع الرسمية ، وفي وسط جماهيري كبير من ابناء الطائفة الواحدة .
وما يزيد من ازمة النظام هو اسلوب المساومات الطارئة التي تفرضها مصالح الأحزاب السياسية المتنفذة وذلك في إقامة تحالفات ، تارة رباعية وتارة ثلاثية حسب ما تمليه مصالحها وليس مصلحة العملية السياسية بشكل عام .
وإذا كان الدواء الموصوف لمعالجة الوضع العراقي هو الصحوة العشائرية ، لكن في حالة تعثر العملية السياسية ، سيكون هذا الدواء بمثابة مسكِّن وقتي . يجب أن يفهم الشعب العراقي ماذا كان المقصود بمشروع المصالحة الوطنية الذي أُسدِلَ عليه الستار . هل كان مجرد شعار التهدئـة .؟
أما ما يخص الشعب المتعوب والمضلل ، نقول عنه بأنه لا زال يبحث عن هويته الوطنية بين اشكالات وتخبطات الوضع العام ، القائم على صراع يومي تتخلله أشكال التمزيق بنسيجه بالقتل على الهوية وبإشاعة الطائفية والعشائرية بصفوفه ، بالإضافة الى تعرضه الى هجمة واسعة من الأفكار الظلامية التي تمعن في تجهيله وجعله بعيداً عن قيم الحضارة والتمدن ، وخلق منه عنصراً متمرداً لا يفهم إلاّ لغة الدماء والقتل .
وعلى مدى أربع سنوات مليئة بعوامل الهدم الإجتماعي وإشاعة الشرذمة المنظمة بصفوف أبناء الوطن الواحد ، كانت النتيجة كارثية على الشعب بتفككه ويأسه وفقدان زمامه ، ووقوع طوابير من أبنائه تحت تأثير التجهيل وتعتيم الرؤية ، على يد مؤسسات دينية ورجالاتها المسيطرين والمنتفعين . وهم اليوم قادة حقيقيون لشرائح واسعة من الشعب ، بعد فقدانها مقومات التحامها كشعب عراقي ، لتصبح رهن القيادات الدينية والعشائرية والفئوية . ولا زالت مدارس الترويض على قتل الروح الوطنية مستمرة ، تستمد النجاح من نسبة الأمية العالية عند الجماهير ومستغلة حالة الفقر والبطالة وشدة الجزع بصفوف الشباب . ولما لم يجد هذا الشعب المنكوب لحد هذا اليوم قيادة سياسية موحدة في مركز السلطة تحميه من مخططات الأشرار وتعيد أمله في عراق آمن مستقر وموحد ، ستبقى ارادته الحرة كشعب خارج المعادلة السياسية المعقدة في وطنه .