Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

العولمة حتمية تاريخية (1-2)

مقدمة

العولمة (Globalization) ظاهرة عالمية برزت بعد انتهاء الحرب الباردة وبانهيار النظام الاشتراكي وولادة النظام العالمي الجديد ذو القطب الواحد بقيادة الدولة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة الأمريكية. والعولمة في هذه الحالة لا ترتبط بالسياسة والاقتصاد فقط، وانما تشمل جميع الميادين الثقافية والعلمية والتقنية والإنتاجية والتجارية..الخ.

هناك هجوم شديد على العولمة وخاصة من قبل اليسار، رغم أن أئمة الاشتراكية وعلى رأسهم كارل ماركس، هم من الذين بشروا بالعولمة ولو تحت اسم آخر مثل (الأممية). وفي رأيي، أن الاسم لا يهم، وإنما المهم هو الجوهر. أعتقد أن العولمة بشكلها الجديد، هي مرحلة متقدمة من مراحل تطور المجتمع البشري والحضارة الإنسانية، وهي جزء لا يتجزأ من مسار حركة التاريخ، وقدر محتوم لا فكاك منه، وما حصل الآن هو أن العولمة تحققت في ظل الرأسمالية وبقيادتها، بدلاً من أن تتحقق تحت ظل الاشتراكية، ولعل هذا هو سبب معارضة اليسار للعولمة.

ناهض اليسار العالمي العولمة لأنها تحققت بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصار النظام الرأسمالي بزعامة أمريكا، الدولة العظمى، على النظام الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي. وهذا الانتصار يعتبر كارثة بالنسبة لليسار وللأيديولوجية الاشتراكية. فخلافاً لأيديولوجية اليسار الاشتراكية التي كانت تبشر بحتمية انتصارها على الرأسمالية بحكم التاريخ كما كانوا يثقفوننا في القرن العشرين، حصل العكس، أي تحولت الأنظمة الاشتراكية إلى رأسمالية. وأعتقد أن سبب انتصار النظام الرأسمالي هو أن المرحلة هي له، إذ مازال لديه الكثير ليقدمه للبشرية وبإمكانه تجديد شبابه، وإيجاد الحلول الناجعة لمشاكله إلى أن يستنفد ما عنده من مبررات وجوده.

والجدير بالذكر، وكما بينا في مناسبات سابقة، أن فشل الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفيتي وحلفائه من دول أوربا الشرقية، لا يعود إلى مناهضة أمريكا والمعسكر الرأسمالي لهما كما يعتقد البعض، ولا إلى مؤامرات دبرها غورباتشوف ويلتسن كما يدعي آخرون، بل سقطت الكتلة الاشتراكية لأنها فشلت في تحقيق الحرية والرفاه الاقتصادي لشعوبها كما وعدت بهما، وأفلست سياسياً واقتصادياً ومعنوياً، ولم تكن صالحة للبقاء وفق مبدأ الاختيار الطبيعي والبقاء للأصلح.



العولمة في التاريخ

العولمة ليست جديدة، بل هي قديمة قدم التاريخ، ولكن كانت على شكل بدائي في العصور الغابرة، ثم صارت حلماً تراود مخيلة بعض الأباطرة والفلاسفة في عهود الإمبراطوريات القديمة، فمعظم الأديان هي عالمية تحاول أن تجتذب البشر كلهم لاعتناقها، بينما تظهر العولمة اليوم بشكل جديد، وذلك لأن ظروف المرحلة الحضارية العالمية قد نضجت لها، ووفرت لها شروط ولادتها، فبرزت بحلة واقعية جديدة مدعومة بالعلم والتكنولوجيا المتطورة.

وفي هذا السياق قال الفيلسوف ورجل الدولة الروماني المعروف شيشرون (106 – 43 ق.م): " إن الناس جميعا اخوة، وخليق بنا أن نـُعدّ العالم كله مدينة مشتركة، وأسمى المبادئ الخلقية هي الولاء لهذا الكل، ولأن يكون الحافز له هو الضمير.." كما ويقول ماركوس أورليوس (الأمبراطور الروماني من 160– 180 م): "الناس كلهم أخوة، أخيارا كانوا أم أشرار، وكلهم أبناء الله ينتسبون إليه. وأنا ( الإمبراطور) تكون روما وطني، وبوصفي إنسانا يكون وطني هو العالم كله." (من مقال المستشار محمد سعيد العشماوى، الضمير والقانون (3) مواقع الانترنت، 18/11/2007).

كما وقال الفيلسوف الألماني المعروف عمانوئيل كانط (Immanuel Kant) ( أن السلام لا يتحقق على الأرض بشكل كامل إلا بعد أن يتحول العالم إلى فيدرالية دولية.) وأعتقد أن هذه الفيدرالية هي في طريقها إلىالتكوين. ففي أوائل القرن العشرين، وبُـعيد الحرب العالمية الأولى ولدت المنظمة الدولية باسم (عصبة الأمم) والتي ساهمت كثيراً في حل المشاكل الدولية بعد الحرب. وعصبة الأمم هذه تطورت خطوة أوسع إلى الأمام بعد الحرب العالمية الثانية فتحولت إلى (الأمم المتحدة) عام 1945 والتي تظم الآن 192 دولة، ومنها نشأ (مجلس الأمن الدولي) الذي يظم 15 عضواً، ويعتبر البعض الأمم المتحدة هي النواة للفيدرالية العالمية في المستقبل.



لماذا العولمة حتمية تاريخية؟

يناهض العولمة قطاع واسع من المثقفين العرب، لسبب واضح وهو أنهم يتحدثون عن العالم ومسار التاريخ كما يرغبون ويتمنون أن يكون عليه هذا العالم، لا كما هو عليه في الواقع والاتجاه الذي يسير فيه. فلو تتبعنا مسار التاريخ منذ العصور الحجرية ولحد الآن لرأينا ما يلي:

أولاً، بعد أن ظهر الإنسان العاقل homo sapiens في سلم التطور البايولوجي، بدأت تشكيلة المشاعة البدائية. وكان البشر يعيشون على شكل تجمعات صغيرة، أي عصابات (Bands) كان عدد كل منها بين 20 إلى 30 شخصا، يتنقلون وراء الصيد وجمع الطعام Hunter-gatherers.

ثانياً، استمرت مرحلة الصيد وجمع الطعام في العصر الحجري الأول ملايين السنين، والثاني آلاف السنين، إلى أن ظهرت قرى لأول مرة في وادي الرافدين قبل حوالي سبعة آلاف سنة. ثم ظهرت القبيلة، والمشيخة، واتحاد مشايخ ومدن، ودولة المدينة city state ثم اتحدت بعض دويلات المدن عن طريق الحروب والاحتلال من قبل الأقوى إلى دول وإمبراطوريات... الخ.



لقد دام الإقطاع في أوربا نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة ولم يحصل أي تقدم ملحوظ في المجتمع البشري خلال هذه المرحلة، لأن الركود هو سمة ملازمة للمجتمع الزراعي الإقطاعي. وقد ولد النظام الرأسمالي من رحم المجتمع الإقطاعي في منتصف القرن السادس عشر الميلادي في أوربا واليابان في وقت واحد تقريباً، وخلال الخمسة قرون الأخيرة حصل كل هذا التطور المدهش بسبب طبيعة النظام الرأسمالي. فالديمقراطية وتطور العلوم والتكنولوجيا وغيرها كانت من نتاج الرأسمالية. وهذا لا يعني أن الرأسماليين هم ملائكة يحبون الديمقراطية وحريصون على حقوق الإنسان، وإنما لأن النظام الرأسمالي يعتمد على الربح وتراكم رأس المال، والأرباح لن تتحقق إلا بالمنافسة وتشجيع الاختراعات العلمية والتكنولوجية وحث العمال لزيادة الإنتاج، وهذا يتطلب منح الحقوق، في مختلف المجالات.

فما الذي حصل خلال القرنين الماضيين في العالم؟

كانت أوربا مقسمة إلى دويلات المدن في معظم أنحائها وفي حروب شبه دائمة. ومع الزمن، وبعد الثورة الفرنسية وحروب نابليون، برزت النزعة القومية ومعها الدولة القومية، فتوحدت دويلات ألمانيا بقيادة بسمارك، وإيطاليا بقيادة غاري بالدي، وهكذا ظهرت الأمة الألمانية والأمة الإيطالية، كذلك كانت فرنسا مقسمة إلى دويلات فتوحدت بعد الثورة. أما أمريكا فكانت مقسمة إلى دول (ولايات) توحدت بعد الحرب الأهلية (1861-1865) فظهرت الولايات المتحدة الأمريكية التي تظم الآن 50 دولة (ولاية). ومما يجدر ذكره أن الترجمة العربية –الولايات المتحدة- خطأ، لأن أمريكا هي اتحاد دول United States وليست ولايات provinces. على أي حال، لا يمكن التخلي عن هذا المصطلح العربي الشائع الآن، إذ كما يقول المثل (خطأ شائع خير من صحيح مهجور!!).

أما بعد الحرب العالمية الثانية وفي الخمسينات من القرن العشرين، فقد خطت الدول الأوربية خطوة أخرى نحو الوحدة فتم توقيع اتفاقية روما (Treaty of Rome) من قبل ست دول عام 1957 وإعلان السوق الأوربية المشتركة والتي تطورت خلال نصف قرن إلى الوحدة الأوربية التي تظم الآن 27 دولة، وهي مازالت في طور الإتساع المضطرد.

وما جري في أوربا ليس فريداً من نوعه، بل هناك اتحادات اقتصادية وتقارب سياسي واجتماعي وثقافي لدول أمريكا الشمالية، كما وهناك منظمة دول أمريكا اللاتينية، والوحدة الأفريقية، واتحاد دول جنوب شرقي آسيا، كذلك دول الكومونويلث المرتبطة ببريطانيا والتي تظم أكثر من أربعين دولة... وهناك مجلس التعاون الخليجي، وغيره من الاتحادات التي تتوسع وتتلاحم بإضطراد مع الزمن. ومن هنا نعرف أن العالم يسير نحو التلاقي والتقارب والوحدة العالمية.



التطور البايولوجي والتطور الاجتماعي

يعتقد علماء الاجتماع أن هناك نقاط تشابه بين التطور البايولوجي والتطور الاجتماعي. فكلاهما يسيران بشكل غير واعي وغير مقصود، وتحت تأثير البيئة الجغرافية، وهو نتيجة الصراع من أجل البقاء وفق المبادئ الداروينية، الاختيار الطبيعي والبقاء للأصلح. إلا إن التطور الاجتماعي يختلف عن التطور البايولوجي في نقطة مهمة جداً، وهي أن الأول يتشعب وتبرز له فروع جديدة كلما تطور مع الزمن، إذ تظهر أنواع species جديدة، أي أنه في حالة افتراق divergence مع الزمن أشبه بالشجرة كلما تمت ظهرت لها فروع أكثر. أما التطور الاجتماعي فهو في حالة تقارب وتلاقي convergence مع الزمن، أي تندمج القبائل وتتحول إلى شعوب، والشعوب إلى أمم. كذلك كانت هناك أكثر من عشرة آلاف لغة قبل آلاف السنين، اختفى معظمها، وبقى منها الآن نحو مائتي وعشرين لغة تقريباً، ولا بد أن حتى هذا العدد سيتقلص أكثر فأكثر مع الوقت إلى عدد محدود من اللغات كلما تقاربت الشعوب واختلطت مع بعضها البعض.

ومن كل ما تقدم، نعرف أن العالم يتجه نحو التلاقي والتقارب في جميع المجالات.



كذلك أود أن أوضح نقطة مهمة وهي، أن التطور الاجتماعي رغم أنه يجري دون وعي وبدون قصد في المراحل المتخلفة من التطور الاجتماعي والعقل البشري، إلا إن هذا التطور سيكون بشكل واع ومقصود في مرحلة متقدمة من الطور الحضاري، مصحوباً برقي العقل والفكر إلى مستويات عالية. ففي الوقت الحاضر اقتربت البشرية في الغرب من هذه المستويات العالية، إذ نشهد تدخل الطب الحديث في معالجة الأمراض وإطالة عمر الإنسان، وتدخل العلم في خلق أجنة الأنابيب المختبرية وتقرير جنس الجنين ومواصفاته، كذلك تدخل الإنسان في شؤون الطبيعة وتسخيرها لأغراضه. ففي مرحلة متطورة من الحضارة ورقي العقل، تستطيع القيادات السياسية الواعية وبتأثير من النخب المثقفة (الإنتلجنسيا) في الدول المتقدمة قيادة التطور الاجتماعي والتحكم بمسار التاريخ نحو الأفضل وفي صالح الإنسان وبشكل واعي ومقصود. وهذا ما يجري الآن في دول المركز، أي الدول الغربية الديمقراطية المتقدمة ذات التوجه المخطط وفق العلم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى الآن.



رأي المثقفين العرب المناهضين للعولمة

يمكن إيجاز موقف المثقفين العرب المناهضين للعولمة بما جاء في تلخيص لكتاب: (ما العولمة؟) وهو دراسة قيمة شارك فيها كل من الأستاذين: صادق جلال العظم وحسن حنفي، يمثلان موقفين مختلفين حول العولمة. أنقل هنا موقف الأستاذ حنفي الذي يمكن اعتباره موجزاً مكثفاً لموقف المثقفين العرب المضاد للعولمة كما ورد في ملخص الكتاب المنشور على مواقع الإنترنت، ما يلي:

[ يؤكد الدكتور حسن حنفي أن العولمة هي أحد أشكال الهيمنة الغربية والجديدة التي تعبر عن المركزية الأوروبية في العصر الحديث وهي تعبير عن مركزية دفينة في الوعي الأوروبي وتقوم على عنصرية عرقية وعلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة، فالغرب أفرز أشكالا جديدة للهيمنة عن طريق خلق مفاهيم وزعها خارج حدوده مثل العولمة، العالم ذي القطب الواحد، نهاية التاريخ، صراع حضاري والتي تقوي المركز، وبالمقابل هو ينحت مفاهيم أخرى مثل ما بعد الحداثة، ونهاية عصر الحداثة، والتصدير خارج المركز للأطراف، والغرب الذي أوجد هذه المفاهيم العقلانية يريد هدمها بما في الغرب من قوة على التجاوز يحاول منع الحضارات الأخرى من الوصول إليها والاستفادة منها وما صراع الحضارات إلا بهدف تحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح في الثروات والهاء الشعوب الهامشية بثقافات تقليدية. ويمضي حنفي في هذا الاتجاه ليصل إلى نتيجة مفادها " ان العولمة هي الماركة المسجلة والاسم الحركي للأمركة التي يعتبرها التعبير الحقيقي عن مركزية غربية دفينة في الهيمنة على العالم". (صادق جلال العظم وحسن حنفي، كتاب العولمة، مواقع الأنترنت). والجدير بالذكر أن موقف الأستاذ العظم هو على النقيض تماماً من موقف الأستاذ حنفي في هذا الصدد.

يتبع Opinions