Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الفرويدية أو مدرسة التحليل النفسي صرح سيكولوجي متجدد يثير الجدل دوما !!!


" خلق الله الإنسان من تراب والتحليل النفسي يرده إليه"
توماس ساز


د.عامر صالح

الفرويدية أو مدرسة التحليل النفسي,هو الاتجاه أو المدرسة السيكولوحية التي ارتبطت باسم العالم النمساوي سيجموند فرويد,الذي ولد في 6 مايو1856م بمدينة فريبورج بمقاطعة مورافيا, والتي تقع حاليا ضمن دولة التشيك. جاء والده من (غاليسيا), وهي المدينة البولندية التي كانت معقلا رئيسيا ليهود شرقي أوربا, وتزوج من والدته التي أنجبت له سبعة أبناء.كان والديه يهوديا الديانة, إلا إن فرويد كان ملحدا.رحلت أسرته إلى( برسلا) بألمانيا,ثم رحلوا إلى فينا حيث أمضى معظم حياته وبقي فيها إلى 1938 ثم غادرها إلى لندن ليقضي فيها أيامه الأخيرة مصابا بالسرطان في خده, وتوفي في 23 سبتمبر 1939.وقد كرس حياته في مجال البحث في ميدان الأمراض العصبية,والفلسفة,والطب النفسي ,وعلم النفس والتحليل النفسي.
لقد شغل فرويد نفسه في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالبحث المتعمق في الأسباب والعوامل التي تكمن وراء الاضطرابات السلوكية والأمراض النفسية التي كانت مستعصية عن الفهم والتفسير في ذلك الوقت.وقد بدأ فرويد بدراسة نفسه أولا,كأول مريض في تأريخ التحليل النفسي,إذ التزم بمعرفة نفسه أولا,وهو ما يقوله بنفسه في خطاب منه لفلس(خطاب رقم 67 بتاريخ 1897/8/14) إذ يقول" إن المريض الرئيسي الذي يشغلني حاليا إنما هو نفسي, وإن التحليل الذي أجريه الآن(على نفسي) إنما هو أصعب تحليل".
وقد وجه فرويد اهتماما خاصا لدراسة الحياة اللاشعورية والدوافع اللاشعورية التي تكمن وراء الكثير من مظاهر سلوك الإنسان,على الرغم من إنها قد تكون مجهولة له ولا يسلم بوجودها. وقد رفض فرويد اقتصار علماء النفس في دراساتهم النفسية على الشعور والأحوال الشعورية.وفي سبيل الكشف عن الرغبات والمخاوف والعقد اللاشعورية,ابتدع فرويد منهجا خاصا,إلا وهو منهج" التداعي الحر أو الطليق" الذي استطاع بإتباعه في جلساته التحليلية مع مرضاه أن يكتشف كثيرا من العوامل والأسباب الخفية اللاشعورية التي تكمن وراء اضطراباتهم وأمراضهم النفسية, وأن يجعل مرضاه الذين يتولى تحليلهم نفسيا يفرغون ما هو مكبوت في عقلهم الباطن من رغبات ودوافع وخبرات مؤلمة ومخاوف لاشعورية ويكشفون عن ذكريات طفولتهم. ولتدعيم منهج" التداعي الحر" في الكشف عن مكونات اللاشعور,كان فرويد يستخدم أيضا أسلوب " التنويم المغناطيسي " الذي وجد فيها أداة فعالة للكشف عن مكونات اللاشعور, حيث أن الشخص المنوم مغناطيسيا كثيرا ما يتذكر رغبات وخبرات لا يتذكرها عادة في حالة يقظته.كما كان يستخدم أيضا لنفس الغرض " تحليل وتفسير الأحلام ".وقد أعتبر الأحلام من أهم الطرق غير المباشرة للتعبير عن الرغبات المكبوتة في اللاشعور.فالأحلام عنده بمثابة عمليات رمزية تحقق بها الشخصية أما رغبات مكبوتة تتطلب الإشباع, أو ترجمة صريحة لما يعانيه الشخص في حياته اليومية من فشل وإحباط, أو عن أمنيات يصعب تحقيقها في الواقع المعاش.
وعن طريق استخدام فرويد لمنهج " التداعي الحر " و "التنويم المغناطيسي " وتطبيق المنهج العملي في تأويل الأحلام,وتطبيق المنهج الإكلينيكي والتحليلي في دراسة الشخصية التي هي في حقيقة الأمر دراسة للصراعات الموجودة بين المنظومات الثلاث داخل الشخصية وهي : ( ألهو: وهو مستودع الطاقة والغرائز, ويعمل وفق مبدأ اللذة, أي طلب اللذة العاجلة بأي وسيلة دون اعتبار لواقع أو التفكير في عواقب. وأن الطفل أول ولادته هو عبارة عن "هو" فقط. والأنا : وهو يعمل وفقا لمبدأ الواقع, أي الامتثال للظروف والقيود التي يفرضها عليه العالم الخارجي. وتكون مهمته الأساسية هي المحافظة على الشخصية وحمايتها مما يتعرض له من أخطار, وإشباع متطلباتها بشكل لا يتعارض مع الواقع وظروفه. والأنا الأعلى : وهو جانب من الأنا أصابه التعديل نتيجة اعتناق الشخص وامتصاصه للأوامر والنواهي والمثل العليا والمعايير التي تأتيه من أبويه ومن يقوم مقامهم في المجتمع. والأنا العليا يطالب الشخصية بالتزام المثل العليا والأخلاقيات في أفعالها وسلوكها وتصرفاتها ), أستطاع أن يكتشف كثيرا من مظاهر الحياة اللاشعورية وكثيرا من المفاهيم ذات العلاقة بالحياة اللاشعورية وبالاضطرابات النفسية , وذلك مثل مفاهيم :"اللاشعور" , " والكبت ", و"المقاومة", و"الصراع النفسي ", و "غرائز الحب" أو غريزة الحياة و "غريزة الموت " ومكونات الجهاز النفسي التي سبق ذكرها وهي : " ألهو" , و " الأنا ", و " الأنا الأعلى " , "وحيل الدفاع", و "عقدة اوديب " أو عقدة الأم و "عقدة الأب " , و" عقدة النقص", وغيرها من العقد, و " اللبيدو " التي يفسرها فرويد في بداية الأمر على أنها الطاقة التي تمثل الغرائز الجنسية وترتبط بها والتي تدفع الفرد الى الحب الذي يؤدي إلى التناسل والتي تختلف عن الطاقة التي تمثل غرائز الأنا. ولكنه في فترة لاحقة من حياته العلمية وسع من مفهوم مصطلح " اللبيدو " وأعتبره الطاقة التي تساعد غرائز الحياة على القيام بنشاطها, سواء الغرائز الجنسية منها أو غرائز الأنا.
كما استطاع فرويد عن طريق تطبيق المناهج والوسائل المذكورة سابقا أن يعالج كثيرا من ألاضطرابات والأمراض النفسية التي يعزوها في المقام الأول إلى الرغبات المكبوتة. ومن أبرز ألاضطرابات النفسية التي حاول فرويد اكتشافها وعلاجها هي ألاضطرابات ذات العلاقة بمرض " الهستيريا التحولية " مثل العمى الهستيري والشلل الهستيري اللذين لا يرجعان الى عطل عضوي في الدماغ بل يرجعان إلى رغبة الشخص لاشعوريا في التخلص من توتره النفسي وفي الهرب من الحالة الصعبة أو الموقف الصعب الذي يجد نفسه فيه, والى " تحول أو انقلاب " هذه الرغبة إلى اللاشعورية إلى عرض جسدي يتمثل كما أشرنا إليه من عمى أو شلل هستيري.
لقد أسهمت الفرويدية في تطور علم النفس الحديث وفي فهم وتفسير السلوك ألإنساني.أن فرويد لم يقتنع بالكشف عن واقعة ما, بل اهتم بمعنى هذه الواقعة بالنسبة للوجود ألإنساني عامة في السواء والمرض والانحراف وأي نشاط آخر وإبراز دلالة هذه الواقعة ضمن نظرية عامة, وهكذا استبان لفرويد منطق فريد حتى فيما يبدوا خلوا من المنظور وجاءت مدرسة فريدة في علم النفس والطب النفسي.ولم تكن القضية قضية مفاهيم يقدمها ذلك العلم الذي هز عرش ألإنسان ونرجسيته بل أعادة بناء هذه المفاهيم في نظرية متكاملة لفهم موضوعها الذي هو ألإنسان ذلك المتغير الذي لا حد لنشاطاته ولا أشد إعجازا منه ( على حد قول سوفكليس في مسرحية أوديب ملكا).
أن تأكيد الفرويدية على أهمية الحياة والدوافع والرغبات اللاشعورية في فهم وتفسير الكثير من مظاهر اضطرابات الفرد وتفسير سلوكه بصورة عامة هو مبدأ قد لا يختلف عليه الآن الأخصائيون من مختلف المجالات.وأن الثقل الذي وضعه فرويد لأهمية مرحلة الطفولة ولأهمية ما يحدث فيها من خبرات وأحداث مؤلمة وأحباطات تكبت في اللاشعور نتيجة لقمع المجتمع من حيث تأثيرها على حياة الطفل المستقبلية , تعتبر من الانجازات الهامة في ميدان علم النفس, والتي أسهمت في تطوير الأبحاث في علم نفس الطفولة.
ومن الأهمية بمكان تأكيد فرويد لوجود مجموعة من العقد كأجزاء قائمة في اللاشعور مشحونة بشحنة انفعالية قوية, ولتأثير هذه العقد في سلوك الشخص وأفعاله بدون معرفة منه بها. فالعقدة هي أنجاه لاشعوري لا يفطن المرء إلى وجوده , ولا يعرف أصله ومنشأه, وكل ما يشعر به هو آثار العقدة في شعوره وسلوكه. ومن علامات السلوك الصادر عن العقد أنه لا يتناسب عادة مع المنبه الذي أثاره.ومن منا من لا يخلو من هذه العقد!!!!.

كما أكد فرويد على أهمية الأحلام في الكشف عن الرغبات والأمنيات المكبوتة في اللاشعور, ولأهمية بعض الأفعال في الكشف عن الرغبات والميول والاتجاهات المكبوتة أيضا في في اللاشعور, وذلك مثل : أغلاط القراءة , وفلتات أو زلات اللسان , والنسيان الذي لا يحدث نتيجة لتقادم الزمن , والرسم , وما الى ذلك .
وقد أشار فرويد الى ديناميكية السلوك التي تعني أن الآثار التي تترتب على سلوك ما تؤثر في شكل ذلك السلوك مستقبلا, وتفسيره لشخصية الفرد وبيئته ومحصلة للخبرات العديدة التي مر بها في حياته المبكرة, وبخاصة ما كان منها في السنوات الخمس الأولى من حياته.ونعتقد أن هذا التصور يشكل الآن مدخلا مهما في الطب وعلم النفس لدراسة حالة المريض.
كما أكد فرويد على أهمية الانسجام وعدم التصادم بين أجهزة الشخصية الثلاثة : ألهو , الأنا , والأنا الأعلى, وتأكيده بوضوح أنه كلما كانت العلاقات منسجمة بين هذه الأجهزة كلما أدى ذلك إلى تكيف الفرد تكيفا سليما. أما في حالة تعارض هذه الأجهزة, فهناك احتمال لوقوع ألإنسان صريعا للاضطرابات النفسية.وفي ضوء هذا المفهوم فسر فرويد الكثير من المشكلات,ليست فقط ذات الطابع النفسي البحت,بل وذات الطابع الفلسفي أيضا,والذي تناولته مختلف الفلسفات, فعلى سبيل المثال لا الحصر,( اعتبر اغتراب الإنسان حصيلة لا مفر منها للحضارة . والحضارة عنده هي الحضارة الغربية دوما . وكان متشائما في نظرته للحضارة , لأن تطورها , حسب رأيه ,يؤدي بالضرورة وبشكل متزايد الى قمع الناس لغرائزهم ( الجنسية ) , وذلك لأن نمو الحضارة يعتمد بالضرورة على عملهم المتزايد وبالتالي عليهم أن يتعلموا ضبط غرائزهم وتأجيل أو إلغاء تلبيتها لفترات طويلة , مما قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية وشعور بالخواء والقنوط .وبذلك فإن الحضارة عند فرويد تؤدي لا محالة إلى الاغتراب والتعاسة.أن نبوءة فرويد هذه أثبتتها تقارير منظمة الصحة العالمية.فهي تؤكد أن نسبة الأمراض النفسي, وخصوصا الكآبة,قد بلغت الآن عشرة أمثال ما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة, هذا بالرغم من التطور الكبير الذي حصل مؤخرا في مجال تشخيص وعلاج الأمراض النفسية.) يمكن العودة هنا إلى مقال " طلال الربيعي, الماركسية والتحليل النفسي,الحوار المتمدن ".وبلغة أخرى ما نطلق عليه الإفرازات الجانبية لعملية التقدم الاجتماعي والحضاري بمظهرها السلبي.
كما أبرز فرويد دور بعض" الحيل الدفاعية اللاشعورية" التي يلجأ إليها الفرد لاشعوريا في مواقف الفشل والإحباط والتوتر والصراع لإزالة توتره وصراعه أو التخفيف منهما على الأقل ,ولتحقيق تكيفه بالتالي مع الموقف, وذلك مثل حيل : التبرير , والإسقاط , والإبدال , ورد الفعل العكسي , والنكوص , والتقمص , والجمود , والكبت , وما إلى ذلك.
أما الانتقادات الموجهة الى الفرويدية فكانت من فريقين مختلفين تماما : الفريق الأول هو من أروقة البحث العلمي الذي عبرت عنه مدارس نفسية وفلسفية مختلفة , أما الفريق الثاني فكان من خارج دوائر البحث العلمي والمعرفي ,ولم يكن بالأحرى انتقادا بل هجوما لاذعا لا يستند في مجمله الى قوة الحجة , بل الى دوافع ذاتية منحازة. أما بالنسبة لانتقادات الفريق الأول فيمكن تلخيصها بالشكل الآتي :
* لقد بالغ فرويد بقيمة اللاشعور,حيث حاول إرجاع معظم نشاطات الناس إليه, مع أن الناس بطبيعتهم يميلون الى الفخر بقوة إرادتهم والى إظهار الحزم في تقرير سلوكهم شعوريا بأنفسهم.وقد وقفت مدارس نفسية وفلسفية موقفا نقديا صارما منه,ونشير هنا الى الموقف الماركسي من ذلك لأهميته التاريخية والعملية لاحقا, حيث اعتبرت موقف فرويد هذا لاعقلانيا ويجب رفضه لأنه يضعف دور العقل في التغيرات( ونقصد هنا بالعقل هو الجانب الشعوري الواعي منه),واعتبرت الفرويدية علما برجوازيا,لأنه خلاف منطق تفسير الصراع الطبقي وأسبابه التي تقرر سلوك الناس أفرادا وجماعات وبالتالي حياتهم النفسية, حسب الفهم الماركسي.وعلى خلفية هذا الموقف لاحقا تعرضت الفرويدية الى انحسار شديد في أوربا الشرقية( المعسكر الاشتراكي سابقا), وكانت كاتجاه سيكولوجي غير مرحب فيه( باستثناء بعض المحاولات هنا وهناك لأحياء تراثه). مع العلم أن الجانب الشعوري في حياة الإنسان لا يظهر منفصلا في النشاط اليومي عن الجانب اللاشعوري , ولكن المشكلة بين الفرقاء هو في تقرير مقدار المساهمة لكل منهما. مع العلم أن فرويد كان شغوفا بحب الماركسية وأهدافها العامة. وفي نهاية الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بدأ الاهتمام جديا في أوربا الشرقية بتراث فرويد ومدرسة التحليل النفسي عموما.
* مبالغة فرويد أيضا في تقدير الميول الجنسية, وإطالة الحديث عن تأثير هذه الميول في سلوك الإنسان وعن المراحل التي يمر بها نمو الغريزة الجنسية وما يرتبط بها من ميول, ونظرته الى هذه الميول على أنها قوى مسيطرة على الجانب الأكبر من اللاشعور.مع العلم أن فرويد تناول هذا الجانب بمعناه في التحليل النفسي والذي يقوم على الجانب الوجداني في الغريزة الجنسية لا التناسلي فقط في تعليل المرض وأهمية الخبرات الطفلية. إلا أن الاتجاهات التي ظهرت لاحقا من داخل الفرويدية حاولت أعادة تفسير الخطاب الفرويدي بهذا الخصوص محاولة وضع الفرد ضمن المنظومة الاجتماعية والتاريخية,وتعتبر محاولة الطبيب و المحلل النفسي الفرنسي لاكان(1981ـ1901) من المحاولات التي مهدت السبيل لإيجاد الصلة بين الماركسية والتحليل النفسي,حيث أعتبر لاكان أن النفس البشرية, الى حد كبير,نتاجا لمنظومة أو تركيبة اجتماعية وحضارية وتاريخية تمارس تأثيرها من خلال الأعراف التي تحملها اللغة الى الطفل أثناء نموه وتحدد شخصيته لاحقا. ولكن الكثير من هذه التقاليد والمعتقدات,حسب لاكان ينتقل الى ذهن الشخص دون وعي.علما أن لاكان لم يكن ماركسيا,بل كان مؤسس وإصلاحي مدرسة التحليل النفسي الفرنسية,وكان يقود حلقات تعليمية منذ عام 1951 وقد استمرت الى 29 عاما تحت عنوان " العودة الى الفرويدية " ,الا أنه وضع ثقلا خاصا حول دور اللغة ورمزيتها في عمليات التحليل النفسي.
* اعتماده في معظم آرائه التحليلية على البيانات التي حصل عليها من المرضى وعلى تحليل الحالات المرضية التي عرضت له,وليس من المنطق في شيء, وفقا لهذا الانتقاد, أن تتخذ أحكام المرض أحكاما للصحة.ونستطيع أن نقول هنا أن الحدود الفاصلة بين الصحة النفسية والمرض النفسي هي حدود نسبية ومرنة والاختلاف بينهما هو اختلاف بالكم وليست بالنوع ,ومن السهولة تبادل المواقع بين كلاهما في ظروف محددة عندما تختلف المقادير هنا وهناك.
* اعتماده شبه الكلي على منهج التداعي الحر والمنهج العيادي وإهماله للمنهج التجريبي في التحقق من صحة فروضه. ونعتقد هنا أن المنهج التجريبي هو ليست المنهج الوحيد في البحث العلمي,رغم أهميته الكبيرة للعلوم الطبية والنفسية ,بل هو أحد المناهج, وما نراه اليوم من تطور للعلوم الطبية والنفسية هو ثمرة تضافر معطيات مختلف المناهج,على سبيل المثال, هناك الملاحظة العلمية وتتبع سجلات المرضى,وهي تقنيات بحثية تستخدم اليوم على نطاق واسع في الطب وعلم النفس.
لقد تعرضت الفرويدية لاحقا على يدي فرويد أولا, الى التعديل ببعض المفاهيم ذات الصلة باللاشعور أو العقل الباطن وبالتحليل النفسي والعلاج النفسي , وأصبح هناك نوعان من الأفكار التي تنسب إلى فرويد: أفكاره القديمة المبكرة وأفكاره المتأخرة عن اللاشعور. ولاحقا الانقسامات التي ظهرت على أيدي مجموعة من علماء التحليل النفسي , والذين خالفوه وجهات نظره في اللاشعور وفي التحليل النفسي وفي حجم تأثير العوامل البيولوجية والدافع الجنسي في تشكيل سلوك الفرد,وكذلك اختلفوا معه في تفسير الكثير من القضايا ذات الطابع السيكوفلسفي , كالدين والحضارة والعادات والتقاليد والثقافة وغيرها.ومن مجموع أفكار هؤلاء نشأ ما يسمى " بمدرسة التحليل النفسي الجديدة " أو " اليسار الفرويدي ". وأبرز هؤلاء : ألفرد ادلر, وكارل يونج , وكرن هورني و اريك فروم وغيرهم.

أما انتقادات الفريق الثاني فهي انعكاس لعقلية بدائية متهيئة انفعاليا لقراءة الخطاب السيكولوجي الفرويدي من منظور أن كل يهودي هو صهيوني, وأن كل ما يأتي من اليهود هو ضارا جملة وتفصيلا وأن كان علميا, وأن الناس على أديان آبائهم تقع حتى وأن تبنت فلسفات أو أديان أخرى. أما أبرز ملاحظات هذا الفريق فهي باختصار شديد مايأتي:
* أن فرويد كان منتميا للحركة الصهيونية , وله علاقة شخصية بمؤسس هذه الحركة (تيودور هرتزل) ,ولا نعرف أدلتهم على ذلك, ولكنهم يعتبرون دليلهم على ذلك هو أن فرويد أهدى له أحد كتبه بتوقيع شخصي من فرويد, واعتبروا ذلك أحد الأدلة القاطعة !!!! لاتفاق الفرويدية مع الصهيونية!!!!.
* اعتبروا فرويد ومدرسة التحليل النفسي مدرسة إباحية تستهدف نشر الفساد في العالم لأنها تستند على الجنس في تفسير السلوك, وقد أستخدم اليهود ذلك مظلة وغطاء لنشر الفساد والرزيلة حسب أدعائهم!!!.
* اعتبروا فرويدا عاشقا لليهودية !!! وغطائها النفسي في ممارسة الزنا والمحرمات وعلى خلفية ذلك كما يدعون أن إسرائيل تنتج كم هائل من الأفلام الجنسية. واعتبروا تفسيره للحرب والعدوان أحد مبررات اقتراف إسرائيل للجرائم ضد المسلمين في فلسطين وخارجها!!!!.
* وبرأيهم فأن أبرز عوامل انتشار الفرويدية هو أيمان فرويد بالدارونية التي أرجعت أصل الإنسان الى قرد!!!! وكذلك أيمان فرويد بالعلمانية التي قامت على الثورة ضد الكنيسة وضد كل المفاهيم الدينية!!!!,ثم نفسية اليهود التي تعشق الحرام!!!. يكفي لهذا الخلط بين اليهودية والعلمانية , ووضع فرويد في مكانة كما يحلو للمزاج أن يضعه فيها أن تعكس للقارئ مستوى هذه الانتقادات وجديتها!!!.
وفي هذا السياق ارتأيت أن أدفع المنتقدين من الفريق الثاني إلى مناظرة هادئة مع فرويد , وهو يبعد عنا في الزمان ما يقرب من ثمانين عاما,واقصد بذلك تأريخ الرسالة التي كتبها فرويد عام 1930 مخاطبا بها حاييم كوفلر,عضو " مؤسسة إعادة توطين اليهود في فلسطين "والتي أبدى فيه تحفظه على المشروع الصهيوني,والتي ظلت محجوبة عن الأنظار طيلة سبعين عاما ونيف. وقد تناقلتها بعض الصحف والمواقع العربية سنة 2003 ,ثم قامت الأستاذة رجاء بن سلامة لاحقا بترجمتها من النص الفرنسي .يقول فرويد في رسالته :" لا يمكنني النزول عند رغبتكم . لا يمكنني أن أقاوم تحفظي على لفت انتباه الجمهور إلى شخصي, لاسيما أن الظروف الحرجة الحالية لا تشجعني على ذلك. من يريد التأثير في الجموع عليه أن يقول لهم شيئا مدويا وباعثا على الحماسة, وهذا ما لا يسمح لي به رأيي المتحفظ على الصهيونية. أنني بلا ريب أتعاطف مع كل الجهود التي تبذل من تلقاء النفس , كما أنني فخور بجامعاتنا في أورشليم , وأبتهج عند رؤية الازدهار الذي تشهده منشآت مستوطنينا . لكنني من ناحية أخرى, لا أظن أن فلسطين تصبح يوما ما دولة يهودية , ولا أظن أن العالمين المسيحي والإسلامي على حد سواء سيبديان في يوم ما استعدادا لجعل أماكنهم المقدسة في عهدة يهود.كان من الأجدى, فيما يبدو لي ,بناء وطن يهودي على أرض غير مشحونة تاريخيا. لكنني أعرف أن فكرة عقلانية من هذا القبيل لا يمكن أن تستدر حماسة الجموع ولا معونة الأثرياء.وأقر أيضا,وبكل أسف,أن تعصب مواطنينا غير الواقعي يتحمل نصيبه من المسؤولية في إثارة الارتياب لدى العرب. لا يمكن لي أي تعاطف ممكن مع تدين مؤول بطريقة خاطئة,يحول جزء من حائط هيرودوت إلى شيء عتيق مقدس,ويتحدى بسبب هذا الشيء مشاعر سكان البلد.ولكم النظر فيما إذا كنت بمثل هذا الموقف النقدي,الشخص المؤهل لمواساة شعب يزعزعه أمل لا مبرر له."
أن دراسة غير متحيزة لنص الرسالة تؤكد أن فرويد لم يكن مناصرا للفكرة الصهيونية, ولم يكن مؤمنا بالعقيدة اليهودية , وكان منتقدا بوضوح لفكرة إقامة دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية, ورفضه لاستخدام مكانته العلمية لخدمة الأيديولوجيا ,ورفضه للنرجسية الجماعية التي أستسلم أليها الكثير من اليهود, ورفضه لمجاراة الانغلاق على الهوية ورفضه للأوهام التي تتبناها الجموع ,وللتعصب غير الواقعي , وللأمل " الذي لا مبرر له ". وكان أكثر ما كان يزعجه اعتبار التحليل النفسي علما يهوديا وخاصة بعد ترويج النازيين لهذه الفكرة.
أما المنتقدين من الفريق الثاني فأن موقف فرويد هذا لا يكفي بالنسبة لهم, بل لكي يحظى بثقتهم عليه التخلص التام من اليهود واليهودية وبطريقتهم الخاصة وعليه التبرؤ من والديه أولا. والنقاد في أوساط هذا الفريق لا يميزون بين الانتماء إلى الدين كدين والانتماء إليه باعتباره حضارة أو ثقافة أو ذاكرة. وقد وصلت انتقاداتهم لحد السخرية,فهم يطالبونه بإدانة ما حصل عام 1948 وهو المتوفى عام 1939 .أنها حالة جهل بكتابات وحياة العالم فرويد !!!.
لقد حلق نجم مدرسة التحليل النفسي بعيدا ابتداء من الحركات الإحيائية لتراثها السيكولوجي وانتهاء بظهور تيارات مختلفة من داخل مدرسة التحليل النفسي( يمينا ويسارا) , وكذلك الاعتماد المباشر وغير المباشر من قبل العديد من التيارات النفسية الحديثة على معطيات مدرسة التحليل النفسي .ولا يمكننا هنا إغفال عبارة وليم جيمس(عندما ألتقي فرويد في رحلته الأخيرة لأميركا عام 1909 ) بقوله : " إن أي تطور قادم لعلم النفس إنما هو رهبن بشكل حتمي بتلك البصائر الجديدة التي قدمها لنا فرويد". بل أن فرويد نفسه يكتب لفرينزي في حقبة مبكرة من مطلع القرن العشرين عام 1913 يقول له : " من الممكن يقينا أن ندفن بعد أن تغني لنا ترنيمة جنائزية , وقد تتغير بصائرنا , لكن العلم لن يتغير....أننا نملك الحقيقة, إنني متأكد من ذلك ,بعد خمس عشرة سنة ". وقد أكد إبرك كاندل عالم الفسيولوجيا والطب في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل عام 2000 أن " التحليل النفسي هو الصورة المتماسكة والأفضل لتصورنا عما يحدث في العقل ".
لقد أكتشف فرويد قيمة اللغة , بقدر ما أكتشف أن اللاشعور لغة في الإنسان وحال في وجوده . ولم يتوقف عن تقويم معرفته وتطوير نظريته ومفاهيمه مدركا أن الإنسان عدو لما يجهل وأن إزالة الجهل تتعارض مع قانون أقل الجهد الذي يحكم الطبيعة والأشياء . ولقد بلغت مؤلفات فرويد التي نشرت حتى الآن في طبعتها الانكليزية ثلاثة وعشرين مجلدا, عدا ما يكتشف من حين لآخر.
توفي فرويد عام 1939, ونحن الآن في الألفية الثالثة وهو حي يرزق!!! , لقد عاد فرويد وليس فقط في المجال النظري , بل أن هناك مبادرات عالمية تضم علماء وأخصائيين من علم الأعصاب والتحليل النفسي في الكثير من أنحاء العالم .وقد تشكلت الكثير من الاتحادات والشبكات وصارت تعرف بالجمعية الدولية للأعصاب والتحليل النفسي وتعقد هذه الجمعية مؤتمرا سنويا ولها نشراتها أيضا مثل علم نفس الأعصاب التحليلي . ويشارك فيها الكثير من الباحثين والعلماء. يقول كاندل بأن هؤلاء العلماء يؤسسون " هيكلا فكريا جديدا للطب النفسي". وفي هذا الإطار والهيكل الفكري الجديد , تلعب نظريات فرويد حول التنظيم العقلي نفس الدور الذي لعبته أفكار دارون في نظرية التطور. أي أن نظريات فرويد ستكون الإطار العام الذي تلتقي حوله التفاصيل في هذا التحالف الجديد. وفي الوقت نفسه يقوم الاختصاصيون في علوم الأعصاب بالكشف عن أدلة لبعض نظريات فرويد والكشف عن الميكانزم وراء العمليات العقلية التي وصفها. وتبقى الفرويدية مدرسة واتجاها سيكولوجيا متفردا من حيث المداخل لفهم الإنسان , وعلى مستوى فنيات هذه المدرسة في الممارسة الميدانية , وأيضا من حيث أثارتها للمتعة العقلية دوما .




Opinions