الفساد وسرقة المكاسب الديمقراطية
انقضت سنة أخرى... لتهل علينا الذكرى السادسة لتغيير النظام، والعراق يشهد قفزات نوعية على أكثر من صعيد، سياسيا وامنيا واجتماعيا، مما جعل منه محط أنظار الكثير من دول العالم، كانت حتى وقت قريب تغض الطرف عن دعوات الانفتاح عليه خشية من أن تصطلي بنيرانه المستعرة التي كانت تعم البلاد.فحجم ما بذل من جهود خلال الفترة الماضية تكللت بالعديد من المنجزات النسبية على الأرض، سيما ما يتعلق بطوي صفحة الاقتتال الطائفي، عبر تفعيل مبادرات المصالحة الوطنية والحد من تدخلات دول الجوار السلبية، ونجاح محاولات ترسيخ مبدأ التعايش السلمي وإشاعة ثقافة الممارسة الديمقراطية في أوساط المجتمع، والتي انعكست جليا في الانتخابات البلدية الأخيرة.
فالحكومة العراقية استطاعت التعامل بنجاح في العديد من الملفات الشائكة والمستعصية عبر التوصل إلى حلول وتفاهمات ساهمت في الحد من ظاهرة الصراعات الأيدلوجية والاثنية وإرهاصاتها التي كادت أن تفتك بالبلاد والعباد.
لكن يبقى باب التساؤل مشرعا لأغلب المراقبين والمتابعين للشأن العراقي حول أسباب عجز الحكومة الواضح في معالجة ملفات الفساد الإداري والمالي المتفشية في مرافق الدولة العراقية دون رقيب، بعد أن أثبتت هيئة النزاهة فشلها في التصدي للمفسدين.
ولا يخفى عن الجميع ان الفساد المتفشي في اغلب مؤسسات الدولة كان ولا يزال احد الروافد الحيوية المغذية لعوامل العنف المباشر ومصدر تمويل ثري بالنسبة للجماعات المسلحة، فضلا عنه كونه وسيلة غير شرعية لدى بعض الاحزاب المشاركة في العملية السياسية، لتمويل نشاطاتها وإثراء بعض أعضائها دون مراعاة لحقوق بقية المواطنين.
ولا نريد في معرض حديثنا الاسهاب بذكر مجلس النواب وتقصير لجانه في عدم اضطلاعها بدورها الرقابي المسئول، بعد أن افرغت من محتواها الاساس، ليكون حسب رأي البعض دوره مقتصرا على وضع العصي في دواليب الحكومة.
فالتعيينات لأغراض سياسية والتساهل في تطبيق القانون، وما صاحب العمل التشريعي من وسائل ضغط وسوء تقييم وسلبية التكتلات السياسية وتأثيرها على الحكومة من خلال المقايضات السياسية وغيرها من العوامل الأخرى، انعكست ابتداء من ضعف الدور الرقابي على الأعمال وعدم وجود معايير واضحة للتعيين في الوظائف العامة أو القيادية، إلى سوء اختيار القيادات والأفراد، إضافة لعدم الالتزام بمبدأ العقاب وتطبيق القانون على المخالفين أو مستغلي العمل لمصالحهم الشخصية وضعف المسؤولية الإدارية عن الأعمال الموكلة أو المحاسبة عليها.
اما من منظور اجتماعي فان للخلل الذي اصاب المنظومة القيمية لدى افراد المجتمع العراقي دوافع رئيسية لتبدد العديد من القناعات الاخلاقية والوطنية في صفوف الكثير من افراده. وقد جاء هذا الخلل بسبب الافرازات السلبية التي سببتها الاصطفافات الجهوية والصراعات الفئوية حيث غاب مفهوم المواطنة ومصالح البلاد العليا.
وقد تسبب ذلك في ظهور نزعة انتهازية لدى الكثير ممن تصدى الى مواقع المسؤولية في العراق، ادت إلى استغلال الوظيفة العامة وموارد الدولة من أجل تحقيق مصالح فردية أو مجموعاتية أو حزبية على حساب الدور الأساسي للجهاز الحكومي، مما أثر ايضا في مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص لدى المواطنين وطالبي الخدمة العامة، فضلا عن تشابك الاختصاصات التنظيمية للوحدات الإدارية وغياب الأدلة الإجرائية المنظمة للعمل ووضوح السلطات والاختصاصات والمسؤوليات.
كل تلك المعطيات تمكننا من تشخيص العلة او اسباب تفشي هذا الوباء بالشكل الذي يتيح التصدي له وفق العديد من المعالجات الناجعة، عبر سلسلة اجراءات اصلاحية ابتداء بالعملية السياسية وقادتها اولا، نظرا لتبوء تلك الشخصيات والاحزاب السياسية السلطات التنفيذية والتشريعية في البلاد، باعتبار رجالاتها النخبة التي تقود المجتمع، بما يتيح ارضية مناسبة للانطلاق في التصدي لتلك الظاهرة بجدية.
لذا يترتب على الاحزاب كخطوة اولا في طريق الاصلاح ومكافحة الفساد الاداري والمالي اعادة تنظيم صفوفها وفق الاليات الديمقراطية بما يضمن الابتعاد عن الفردية وظاهرة الشخصنة او الاعتماد على الشخصيات المطلقة في قياداتها، فضلا عن اعتماد مبدأ الشفافية في الكشف عن حجم ميزانياتها المالية ومصادر التمويل، واخضاعها لمراقبة هيئة النزاهة.
كما يتحتم على الاحزاب السياسية ان تكون الجهة المبادرة لان تكون قدوة للاخرين عبر اتباع تلك الخطوات لابداء حرصها على خدمة المجتمع ومسؤوليتها في التصدي لمكافحة افة الفساد المستشرية.
ولا نغفل اعادة النظر باداء هيئة النزاهة وتذليل العقبات التي تقف حائلا دون تحقيق اهدافها والاخذ بنظر الاعتبار تامين الحصانة والحماية القانونية لافرادها.
كما يتحتم على الحكومة اعتماد الية قادرة على خلق وعي مجتمعي ايجابي لطي صفحات الماضي وسلبياته عبر تكريس مفهوم المواطنة، وحق الجميع بالمال العام وتساوي جميع العراقيين بالحقوق والواجبات والمسؤوليات، بغض النظر عن خلفياتهم القومية أو الدينية، او مراكزهم الاجتماعية.