القليل من الحرية ....نكاد أن نختنق
ليس غريبا رغم المعاناة التي يعيشها العراق هذه الأيام أن تجد فيه الكثير من الحالمين والرومانسيين والشباب الطموحين المتطلعين إلى بلوغ مراتب متقدمة في إشباع حاجات كثيرة يجدها المجتمع كمالية أو غير ضرورية مقارنة بما هو متاح أو مسموح به أو قد يكون تحقيقها خيالا لا يستند على أرض الواقع حيث الأمان المفقود والحرية المقيدة بالعنف والاستقرار شبه المستحيل ولكن مع ذلك فالكثير من العراقيين يتمنى اليوم أن يضيف إلى قائمة اللغات التي يجيدها لغات أخرى كالانكليزية والفرنسية أو يقضي أوقات الفراغ في العزف على آلة موسيقية أو مطالعة الانترنت وممارسة هوايات لا تدر الكثير من المال كالرسم والنحت والكتابة وغيرها . ولكن بسبب ضعف الإمكانيات وعدم وجود مهارات كافية وقلة الوقت المتاح لإشباع تلك الحاجات غير الأساسية والتي يضعها الكثير منا في نهاية سلم الأولويات مسبوقة في ذلك بالعمل والسعي وراء لقمة العيش وتحقيق نوع من الحضور الاجتماعي من خلال الاهتمام بالكثير من المظاهر والسلع الكمالية التي يهتم بها المجتمع ويجدها أكثر أهمية من إتقان لغة أجنبية أو العزف على آلة موسيقية كالملابس والسيارات والأثاث المنزلي وغيرها الكثير من صور الأنفاق الأخرى . فضلا عن افتقار البلد لأسس الخدمات العامة الواجب توفرها في تحقيق الإشباع للكثير من تلك الحاجات النوعية التي يعتقد الكثيرون منا خطأ بأنها كمالية فالكهرباء معدومة نهائيا وخدمة الانترنت غير متوفرة في الكثير من مناطق العراق وحتى لو توفرت فهي ضعيفة جدا ولا تفي بالغرض ولا تساعد على التواصل . أما لو تعلمت لغة أجنبية فلن تستطيع تجربة بعض كلماتها في الشارع لأنك بذلك تفتح على نفسك مئة لسان وتصبح شاذا أو غريبا عن أطوار المجتمع وسلوكيات أبنائه أما لو حاولت ممارسة الرياضة كالمشي في الشارع فربما لو مررت بأحد الأزقة مرتان فهذا يكفي لانطلاق الشائعات وإثارة التساؤلات من قبل سكان الحي أو ينفجر تحت أقدامك لغم أو عبوة ناسفة أو تطلق عليك ثكنة عسكرية وطنية كانت أو صديقة النار لأنك مشيت لمجرد المشي في بلد لا يعرف تجريد الأشياء من بعضها البعض وإنما خلف كل تصرف نية وفي انتظاره حساب وعقاب وكل حركة تثير ألف عين ورقيب ولكن رغم ذلك فالعراق مليء بالكثير من هؤلاء الخياليين الذين تجدهم يعملون ليل نهار لسد رمق العيش وإعالة عائلات لا يقل عدد أفرادها عن أصابع اليدين والقدمين معا ورغم كونهم لا يحققون نجاحا ماديا ملموسا فالأمل يدفعهم للاستمرار في إحراز نجاحات معنوية باهرة من خلال إشباع بعض حاجاتهم النوعية ومن اجل ذلك تجدهم باقين ومتجددين في كل يوم يدفعهم المجتمع وديناميكية الحياة على ولوج المصاعب واختبار كل المواقف . لا يحتاج كل ما يقومون به إلى شرح وليست بالضرورة النوايا هي من يحفزهم على الإبداع ولا تتحكم بتصرفاتهم الخطط المعدة مسبقا ولا ينتظرون عن كل مجهود أجرا ملموسا أو مكافأة رمزية .ألا يوجد في العالم الكثير من الناس يكدون ويعملون ويبدعون وينجزون دون مقابل مادي مهما كان ذلك العمل متواضعا فهم يقدمون عليه لأنه يحقق لهم السعادة التي يعجز المال وملحقاته تحقيقها لأي إنسان كأن يكون العمل المقدم نصيحة طبية مجانية أو توجيه ديني سليم أو حل لمعضلة بسيطة يقدمه أحدهم حتى لو لم يكن مستشارا أو خبيرا فنيا أو مهنيا ولكنه يأتي في الوقت المناسب فيثمر في نفوس المتلقين .
في أحيان كثيرة قد يكون إشباع حاجة نوعية يتم من خلال التعبير عن النفس من خلال تصوير مشهد اجتماعي والمناداة بالحقوق الواجب توفرها لأي فرد في المجتمع وفي مقدمتها الحرية ذلك المجال الرحب الذي يسعى أليه كل إنسان . تلك السماء الواسعة التي يحلق فيها مرهفي الحس ورقيقي الإحساس . جميعنا بحاجة للتعبير وكل بطريقته جميعنا نتمنى أيجاد أذان صاغية ودقائق يهدرها الآخرون علينا كتلك التي تقضيها الآن في قراءة هذه السطور ونسعى في ذلك إلى المزيد من الأفاق الرحبة والواسعة التي توصل الكلمات إلى كل مكان .
ربما اليوم لا نملك في العراق كل تلك الخدمات الأساسية التي تطرقنا أليها مسبقا مضافا أليها افتقارنا لوسائل إعلامية حرة يسمح لها بأن تعبر بكل حرية عن كل الآراء الواردة لها. أو قد يكون الوضع الذي نعيشه هو من يفرض على تلك الوسائل الإعلامية جريدة مثلا أو موقع الكتروني أن لا يدرج في خططه سوى بعض الأفكار المقيدة بحدود وطنية أو طائفية جافة جدا تجعل كاتبها يتقيأ من هولة ما يكتبه مجبرا لكي يحوز على رضى تلك الوسائل وعلى مساحة عرض معينة تتوفر له بشروط أفضل من أن يحرم من التعبير أصلا في وسائل إعلامية محكومة بالخوف من الاتهام بالخيانة أو إثارة النعرات الطائفية والمشاكل الاجتماعية فيكون الملجأ الأخير هو الخوف على المجتمع وعلى البارزين فيه من سماع الحقائق وحجبها قدر المستطاع من خلال كبت الحريات وتحديدها وخصوصا الإعلامية متناسين بأن الكثير من الكتاب في العراق أيضا بحاجة إلى هواء الحرية وجوها المنعش والكثير منهم أنخرط في الكتابة ليس عرفانا بجميل جهة دفعت له مبلغا بسيطا ليرفه عن نفسه قليلا بل قد يكون الدافع وراء الولوج في أي موضوع هو ربما كلمة من عجوز خرفه كافية لتفتح له الباب إلى مقالة رائعة . أو دمعة طفل تمثل بالنسبة له دعوة جادة لكي يثير المشاكل والمتاعب الكلامية لأن أكثر الكتاب هم أسود في غابة الكلمات وضعفاء جدا أمام لغة السكين والمسدس فلا يجوز أن نحرم من حقنا الطبيعي في الحرية لأنها المجال الوحيد الذي يثبت وجود الإنسان ويساعده على الانطلاق مهما كان تخصصه النوعي وأيا كانت هواياته الخاصة ولا تنسى عزيزي القارئ بان في العراق أيضا الكثير من الكتاب يتنفسون من خلال الكلمات التي تقراها ويحلقون في قمة السعادة وكأنهم دخلوا إلى ملكوت الإنسانية عندما يسمعون إطراء أو مداخلة جادة أو حتى النقد الجائر فهو بالفعل يجرح الكاتب كأية آلة حادة ولكنه يفتح في كل جرح مسامات جديدة لكلمات بحرارة البركان تريد أن تخرج من فضائية القلم التي يجب أن تصل إلى كل مكان وبكل حرية لأننا مخلوقات لن تستمر دون أن تتنفس الحرية .