القوى الديمقراطية العراقية وحساب الشعب العسير !!
من جاء متأخراً عاقبه التاريخ, وبتعبير أدق, عاقبه الشعب, سواء أكان فرداً أم جماعة أم حزباً سياسياً أم نظاماً سياسياً, إذ أن التاريخ لا يعمل سوى تسجيل الأحداث التي تمر بها المجتمعات البشرية. والقوى الديمقراطية بكل تكويناتها ومكوناتها تواجه اليوم مرحلة جديدة تتميز بمجموعة من المؤشرات التي تستوجب الدراسة والتدقيق ثم الإقدام على اتخاذ الخطوات والإجراءات الضرورية لممارسة سياسة جديدة تستوجبها طبيعة المرحلة والمهمات التي يفترض أن تنهض بها. لقد برهنت نتائج الانتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات في العراق, ثم نتائج الانتخابات الأخيرة لبرلمان إقليم كردستان إلى حصول بداية جدية لتغيرات مهمة في فكر الناخب العراقي وفي الساحة السياسية العراقية, ولكنها لا تزال في بدايتها, وهي بحاجة إلى فترة أطول لتختمر وتتبلور ومن ثم تتحول إلى تجاه على نطاق أوسع.والأسئلة التي تواجهنا بإلحاح شديد هي: هل في مقدور القوى الديمقراطية, وبضمنها القوى العلمانية واللبرالية, إدراك حقيقة التغيرات الجارية في الواقع السياسي العراقي ؟ وهل هي قادرة على التصرف بعقلانية لصالح الغالبية العظمى من فئات المجتمع وفق ما يفرضه هذا الواقع المتغير تدريجاً ولكن بثبات نسبي؟ وهل ستجد كل هذه القوى الديمقراطية نفسها ملزمة على التفاعل المتبادل والتعاون والتنسيق لوضع برنامج يوحدها كقاسم مشترك أعظم لخوض الانتخابات القادمة؟
إنها أسئلة ليست سهلة في ظروف بلادنا الراهنة والتي تتميز بتفاقم فعل ظواهر سلبية كانت موجودة أصلاً, ولكنها أصبحت معرقلة لتحالفات سياسية مطلوبة كالرغبة الجامحة في الزعامة والبروز وتصدر كتل سياسية حتى لو كانت من ثلاثة أفراد, والرغبة في التفرد والانفراد, رغم كل الصواعق التي نزلت وتنزل على رؤوس البعض ممن يحاول التزعم ويرفض التحالف إلا حين يكون اسمه في الصدارة أو في الموقع الأول أو الثاني أو الثالث, أو وضع تحفظات على التعاون مع هذه الجماعة السياسة أو الحزب أو ذاك .. وهلمجرا. إنها المحنة التي تواجه المجتمع.
أذكر حادثة طريفة حصلت لجماعة قومية عراقية في دمشق تجسد حقيقة الوضع هناك وفي الوقت الحاضر أيضاً.
كانت هناك مجموعة قومية صغيرة جداً اختلف المسؤولون عنها في ما بينهم فانشق البعض على البعض الآخر. فقال أحدهم: كنا ثلاثة والآن أصبحنا "مجموعتين" مجموعة من اثنين مقابل مجموعة من شخص واحد, فلا هو قادر أن يحصل على شخص آخر, ولا أنا قادر في الحصول على شخص ثالث! ولكن أصبح لكل منهما حزباً سياسياً جديداً واسماً جديداً ومساعدة مالية من ليبيا ومن سوريا وربما من طرف ثالث, وعلى مدى سنين لم يزداد عددهم ولو بشخص واحد ولم ينقص!
القوى الديمقراطية في العراق تعاني اليوم من هذه الظاهرة التشرذمية التي تتوزع أصوات ناخبيها على عدد كبير من الكتل الصغيرة القزمية أو على أحزاب لا تزال ضعيفة, رغم كل الاحترام للفرد الواحد أو الكتلة الصغيرة أو الحزب. إلا أن هذا لن يخدم عملية التحول المنشودة صوب الديمقراطية, ولن ينهي الطائفية في العراق وهيمنتها على الجو والساحة السياسية العراقية رغم تفتت قواها.
خذوا مثالاً واحداً هو الحزب الوطني الديمقراطي, الذي أكن له الاحترام والتقدير. فهو حزب عريق بلغ عمره الآن 63 عاماً, وفي الحقيقة بلغ عمره ابتداءً من جماعة الأهالي أو الإصلاح الشعبي 76 عاماً بالتمام والكمال. وهذا الحزب يعاني اليوم من ضعف شديد رغم حاجة المجتمع لمثل هذا الحزب. وزاد بالطين بلة انقسامه إلى حزبين غير متعاونين بل متصارعين, مجموعة الأستاذ نصير الجادرجي ومجموعة الأستاذ هديب الحاج حمود. والخلاف بينهما لا يمس المبادئ بأي حال, وفق إطلاعي وتقديري, بل يمس المواقع! كم أتمنى عليهما أن يعيدا النظر بهذا الأمر وتسليم الأمر إلى شبيبة وليصبحا معاً رئيسين فخريين لهذا الحزب بغض النظر عن من هو الأول أو الثاني, بل نأخذ بمبدأ الحروف الأبجدية في ترتيب الأول والثاني مثلاً أو العمر. أنطلق في هذه الملاحظة من حرصي على هذا الحزب العتيد وعلى الفئات المتوسطة التي يمكنه تعبئتها لصالح التغيير الديمقراطي السلمي في العراق, وهو حرص يشمل كل القوى الديمقراطية في العراق. كما أن هناك جماعات انفصلت عن الحزب الشيوعي العراقي لأي سبب كان, وهو أمر ممكن, ولكن هذا لا يفترض أن يدفعها إلى عدم التعاون والتنسيق مع الحزب الشيوعي والاتفاق على قضايا مشتركة, وتبقى الخلافات على قضايا أخرى قائمة. كما يفترض أن لا يختزل الحزب الشيوعي وجودها ويعتبر هذه المجموعة أم تلك ممن خرجوا من الحزب, ولأي سبب كان, لا تستحق التعاون أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع بقية القوى الأخرى. أقول كل ذلك مجازاً لكي أبدد كل الحجج التي تدعي أن ليس هناك من يمكن التعاون معه, ومن هي تلك القوى الديمقراطية التي تريد منا التعاون معها, إنها مجرد رؤية نظرية ومن بعيد, وحين تكون في المعمعان السياسي العراقي الذي يدير رؤوس الناس ستجد مصاعب ذلك. أدرك مصاعب التعاون والتنسيق ولي تجاربي الشخصية في الخارج, ولكن لا ينبغي لهذا أن يبعدنا عن بذل الجهود, إنه التحدي الأكبر والامتحان العسير الذي يطالب الشعب به في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق السياسي.
وأشعر بأن قوى التحالف الكردستاني وبقية القوى الكردستانية بعد أن تدرك العوامل التي أدت على تحقيق تلك النتائج في الانتخابات الأخيرة, ستكون أكثر استعداداً للتعاون مع بقية القوى الديمقراطية العراقية وأكثر تواضعاً وأكثر قدرة على المساومة للوصول إلى خطاب سياسي مشترك لخوض الانتخابات القادمة.
30/7/2009 كاظم حبيب