الكنيسة والسياسة-كلمة ثانية
لقد كنت قد نشرت مقالاً أول عن "الكنيسة والسياسة" أشرت في خلاصته إلى بعض المبادىء الاساسية التي تحكم وتنظم علاقة الكنيسة بالدولة على ضوء كلمة الانجيل والايمان بشخص المسيح. وأريد هنا أن أكمل الجواب على الاسئلة التي كنت قد طرحتها في بداية مقالتي تلك، مركزا على علاقة الكنيسة بالاحزاب السياسية وعلى دور المسيحي في هذه الاحزاب السياسية.يُبنى موقف الكنيسة من الاحزاب السياسية المتعددة، التي تشكل عنصراً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع ديمقراطي ومتعدد الايدولوجيات، على أسس ومبادىء تنظم علاقة الكنيسة بالدولة بصورة عامة. فالاحزاب السياسية هي مؤسسات مدنية لا تخضع لادارة الكنيسة. ولهذا فقد تأتي الكثير من المواقف الحزبية والبرامج السياسية غير مبالية ولا تُعير أية أهمية لمبادىء الايمان والاخلاق المسيحية. ويؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني من خلال توجيهاته على أن ضرورة المشاركة في "تنظيم الامور الارضية" ويعتبر "أختلاف الرأي شرعياً" (الكنيسة والعالم، مادة 75). ويؤكد أيضاً على ان الاختلاف في وجهات النظر لا يُعطي الحق لاي جهة كانت ان تدعي استحواذها على سلطة الكنيسة: "فلا يحق لأحد ان يدعي استحواذه على سلطة الكنيسة بما يتعلق ورأيه الخاص" (الكنيسة والعالم، مادة 43). ففي مجتمعنا الحالي المُتسم بتعدد الايديولوجيات، يمكن للكنيسة ان تجد نفسها مُجبرة على تقديم تحفظات معينة وتوجيه انتقادات الى البرامج السياسية للأحزاب أنطلاقاً من صفتها كراعية للايمان وصائنة للأخلاق.
ومن هنا يمكننا ان نسنتنج بعض النقاط المهمة:
1. في ظل مجتمع ديمقراطي متعدد وعند عدم وجود أحزاب تضادد وتناقض الايمان والاخلاق المسيحية ببرامجها السياسية، يحق للمؤمن المسيحي (الكاثوليكي) وبكامل حريته الشخصية الانتماء الى الحزب الذي يختاره.
2. تدعو الكنيسةُ الاحزابَ الى أعطاء اعضائها الحرية في الانتماء اليها بحرية ضمير كاملة وعدم اجبارهم على تبني هذا الموقف او ذاك ما يمكن ان يناقض ايمانهم المسيحي ومبادئهم الاخلاقية.
3. عند تبني أي حزب سياسي اهدافاً ومقرارت تُناقض الايمان والاخلاق المسيحية، فعلى اعضاءه، الذين يأتون من انتماء مسيحي، ان يمتنعوا عن التصويت لمثل هذه المقرارات. وأريد هنا ان أعلق على الشعار السطحي الذي يرفعه العديد منّا وهو: " لا علاقة للدين بالسياسية" وأقول ان هذا الشعار مغلوط في فهمه عند الكثيرين. فاذا كنا نقصد به مبدأ الفصل بين الدين والدولة فلا بأس، وهذا ما اتفقنا عليه في المقالة الاولى وكمبدأ اول لعلاقة الكنيسة بالدولة، وأما اذا كنا نريد به نفي اي امكانية للكنيسة لأعطاء رأيها في القضايا الحياتية والمجتمعية والاخلاقية الانسانية التي تخطط لها هذه الاحزاب، فنحن على خطأ. لقد كان البابا بيوس الحاي عشر يشير الى وجود انواع من السياسة تقتحم الكنيسة وتدمر المذابح. فالاحزاب السياسية تُحدد قربها وبُعدها من الكنيسة اعتماداً على برامجها السياسية ومضمونها الانساني والاخلاقي.
4. ففي مجتمع متعدد الايديولوجيات حيث يمكن لكثير من البرامج السياسية لكثير من الاحزاب السياسية ان تأتي متناقضة مع مبادىء الايمان والاخلاق الجوهرية، يحق لبعض المواطنين تشكيل حزب سياسي مع المسيحيين. ولكن لا يمكن وبأي حال من الاحوال اعتبار هذا الحزب مؤسسة كنسية أو حزباً طائفياً دينياً. فهو مجرد حزب سياسي وحسب، مسؤول عن الخير العام للشعب كله. ولا يمكن لاي حزب، مهما كان ولائُه للتعاليم المسيحية كبيراً، ان يدعي بأنه تحت وصاية الكنيسة، ففي نهاية الامر، هو ليس إلا حزباً يستوحي مبادئه من الايمان المسيحي وعقيدة الكنيسة الاجتماعية ولا يمكن لهذا الحزب ان يدعي امتلاكه للسلطة الكنيسة.
من حق كل مؤمن مسيحي أن ينخرط بالعمل الحزبي السياسي لبناء المجتمع والدولة الديمقراطية، ولكن لايمكن ان يتخلى عن مبادىء ايمانه واخلاقه المسيحية من اجل معتقد الحزب او المنظمة أياً كانت عقيدة حزبه ليبرالية أو اشتراكية أو قومية أو...
وأريد هنا أن أعلق أيضاً بالقول: في مجتمع متعدد الايديولوجيات والانتماءات، من واجب المسيحي المساهمة في بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد على ضوء تعاليم ايمانه. فالمسيحيون، كما يُعلمنا المجمع الفاتيكاني الثاني، مدعون ليكونوا نموذجاً صالحاً من خلال سيرةِ حياتِهم المسؤولة والتزامهم بالخير العام للانسان ويجب عليهم أن "يبرهنوا بالوقائع امكانية خلق الانسجام بين السلطة والحرية، وبين المبادرة الشخصية والتضامن في المجتمع ككل، وبين الوحدة المنشودة والاختلافية النافعة" (الكنيسة والعالم، مادة 75). ولكن يجب ان نسجل فرقاً مهماً بين تصرف المسيحي كفرد وكمواطن محكوم بواسطة ضميره الاخلاقي، وبين تصرف وسلوك المسيحيين كجماعة بأسم الكنيسة في شركة راعيها (الكنيسة والعالم، مادة 76). فما يفعله بعض الافراد، وان كان مبني من على أُسس ضميرية واخلاقية، الا انه لا يمكن ان يكون صوتاً يُعبر عن الكنيسة ككل، فالكنيسة لا يعبر عنها الا الكنيسة بوحدة رعاتها مع راعيها الاول يسوع المسيح.
ان المسيحي مدعو للشهادة لمبادىء ايمانه في كل مجالات الحياة المختلفة: العمل، الوظيفة، الدراسة، السكن والمنظمة... فاذا ما غابت هذه الشهادة عن أفقه، لن تتمكن الكنيسة من ملىء المجال الروحي في المجتمع، وعندها يمكن لقوى أخرى أن تتطور وتفرض نفسها وتحاول زعزعة علاقة الكنيسة بالدولة.