الكون المرئي : هل من جديد ؟
jawadbashara@yahoo.frحينما نتحدث عن الكون فإننا إنما نتحدث عن أنفسنا وعن وجودنا ومصيرنا ومعتقداتنا، وكلما أوغلنا في البحث عن أسراره، تنتصب أمامنا مزيد من الألغاز والتحديات والتساؤلات، خاصة وأن بعض العلماء يعتقد جازماً أن ما نعرفه عن الكون ليس سوى جزء لا يذكر من الحقيقة الخفية التي تغلفه، وأن الجانب المرئي والمادي من هذا الكون، ليس سوى خلية من مليارات المليارات المليارات من الخلايا ـ الأكوان، الدائمة الخلق والتجديد ، كمثل الخلية البشرية في جسم الإنسان. وتحدث البعض الآخر من العلماء عن الكون الإسفنجة وأكوان الفقاعات وكون الإنطواءات Univers Chiffonné وغيرها من النماذج النظرية للكون المادي والمرئي الخاضع للقياس والرصد والمراقبة. فعلماء الفيزياء النظرية بحاجة لعلماء الرصد والمراقبة الفلكية والتجريب المختبري . ولكن عندما نرصد السماء ونراقب المجرات والنجوم والكواكب والمذنبات والشهب والنيازك والغازات الكونية ، يتعين علينا أن نكون حذرين إذ ليس كل ما نراه حقيقي وواقعي، بل أن الكثير منه وهمي وخادع للنظر لأسباب عديدة: فهناك السمك المزدوج للمكان والزمان، ومن هنا فإن كل صورة تأتينا من الفضاء البعيد هي بالضرورة عبارة عن مفارقة أو تصور خاطيء patchwork anachronique خاضع لتصادف وجودنا وموقعنا كمراقبين. إنه بمثابة منظر أو حيز paysage عشوائي يبطن أو يجاور juxtapose آلاف الأعماق والأبعاد المختلفة والمتعددة، فتبدو لنا مجرة ما أكثر شباباً لا لشيء إلا لأنها تبدو الأبعد. من جانب آخر، فإن كل ما نراه من المادة ـ خاصة أننا ندرك مختلف الإشعاعات المنبثقة منها ـ لا يمثل سوى قسم ضئيل لا يتعدى الربع من كميتها الكلية في الكون المادي المرئي. فضلاً عن أن الكون في حالة توسع وتسارع في تمدده، وكل واحد من هذه العناصر يبتعد عن الآخر كلما تقدم الوقت وتراكمت المعارف والمكتشفات. وأخيراً يعترف أغلب العلماء بجهلهم بما يتعلق بمعمارية وتكوين وهندسة وتركيبة الكون والزمكان فيه، حيث ربما يكون الكون متداخل ضمن طيات متعددة أوعدة طبقات مطوية على بعضها البعض، وبالتالي نقدم رؤية لعدد من الأشياء والأجسام التي تبدو متميزة بعضها عن البعض الآخر ظاهرياً لكنها في واقع الأمر لست سوى انعكاسات شبحية متعددة لنفس الشيء أو الجسم المرصود، ومن مسافات وأعمار أو أحقاب مختلفة. ومن هنا يمكن للكازارات Les quasars البعيدة أن تكون بمثابة صورة قديمة لمجرات أقرب إلينا. وينبغي أن نضيف عاملاً آخر يتمثل بالسراب الثقالي mirage gravitationnelle الناجم عن انحراف الإشعاعات الضوئية بفعل المادة السوداء أو المعتمة matière noire والخفية أو غير المرئية. وبسبب كل ذلك يقول العلماء أننا يجب أن نتفادى الأوهام أو الرؤية الخادعة. فالأجهزة القياسية التي بحوزتنا تعطي قيمة تقديرية لقطر الكون الظاهر أو المرئي تقدر بـ 50 مليار سنة ضوئية في حين أن العمر التقديري للكون رسمياً لا يتعدى الـ 14 مليار سنة ضوئية، فأين الخطأ؟
ثبت تاريخ ولادة الكون الظاهر أو المرئي بلحظة الانفجار العظيم البيغ بانغ قبل,7 13 مليار سنة لكنه لم يعد تاريخاً مقدساً لا يمكن مسه . ولم يتردد العلماء اليوم من طرح سؤال عن " ما قبل البيغ بانغ " ، بالرغم من التحقق من صحة نظرية الانفجار الكبير من خلال دراسة وفحص الشعاع المتحجر للحدث الكوني العظيم باعتباره التوقيع أو الإشارة الملزمة La signature لذلك الحدث المهم. وقد تم رسم تصور خرائطي أو تخطيط بياني cartographier دقيق نوعاً ما لانعدام الانتظام وتباين الخواص les anisotropies لذلك الجذر الإشعاعي fond de rayonnement diffus و الخثيرة من السوائل المتجمدة les grumeaux وباقي المكونات التي شكلت المجرات . المهم أن العلماء ما يزالون يبحثون بجدية عن حجم الكون وبنيته وشكله ومستقبله ومصيره، وسيحصلون حتماً على بعض الأجوبة النسبية بفضل المراصد والتلسكوبات الحديثة مثل تلسكوب بلانك Planck الذي أطلق في 16 أيار 2009 . وبفضل الأجهزة التقنية المتطورة والتكنولوجيا المتقدمة حقق العلماء إنجازات وتراكم معرفي خلال العقود الثلاثة المنصرمة ما يزيد عما حققوه خلال الثلاثة آلاف سنة الماضية من عمر البشرية ومع ذلك فنحن في بدايات البدايات عما سيدهشنا في المستقبل القريب والبعيد. فقبل قرن لم نكن نعرف سوى جزء صغير من مجرتنا درب اللبانة واليوم نعرف ما يزيد على الـ 200 مليار مجرة في كوننا الظاهر والمرئي فقط. وصرنا نعرف أنه لا يوجد للكون حواف أو حدود أو مركز، وإننا لا نشغل فيه موقعاً متميزاً أو فريداً. وسواء أكان هذا الكون الظاهر متناهي الأبعاد أو لا متناهي، فهو متشابه في أية نقطة من نقاطه ، وتيقن الإنسان المعاصر، عكس ما كان يعتقده في الماضي لعدة آلاف من السنين ، أن هذا الكون ليس مستقراً وثابتاً وغير قابل للتعديل immuable وليس أزلياً بل له بداية، وشهد مراحل تطور مهمة تركت آثاراً باقية وملموسة إلى يومنا هذا، وهو مستمر في التغير والتطور في كل يوم ، كما لو إنه كائن حي عاقل وذو إرادة ، فهو يولد ويكبر ويشيخ ، واحتاج لمليارات السنين لكي يأخذ شكله الحالي ويخلق الحياة في أعماقه وأطرافه، على عكس ما ادعته الأديان السماوية، والمؤمنون بنظرية الخلق المباشر والفوري les créationnistes الذين يقولون أن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش استناداً إلى ما جاء في سفر التكوين في التواراة وباقي الكتب المقدسة، وأن عمر الكون لا يتجاوز الستة آلاف سنة، فلماذا احتاج الله إلى ستة أيام إذا كان بمقدوره وبمشيئته أن يقول للشيء كن فيكون؟. وللعلم أن كمية الهيدروجين الكلية في الكون تكونت في الدقائق الثلاثة الأولى بعد الانفجار العظيم قبل ما يقارب الخمسة عشر مليار سنة، والحال أنه بدون الهيدروجين لن يكون هناك ماء ولا نجوم ولا حياة، في حين احتاجت العناصر الثقيلة للظهور، كالكربون والأوكسجين والآزوت والفسفور وباقي العناصر، إلى بضعة مليارات من السنوات فماذا يمكن أن يحصل في ستة آلاف سنة فقط، أو في ستة أيام؟، إلا إذا لجأنا إلى لغة الرموز والتفسيرات الباطنية، واعتبرنا اليوم الإلهي يعادل مليار سنة بشرية. لذلك يحتاج الأمر إلى بث الوعي المعرفي الكوني، والتصور العلمي للكون بين الناس لكي يطوروا مداركهم العقلية ويشحذوا ملكة التفكير العقلاني. هناك بون شاسع بين ما توصل إليه العلم من حقائق ومعلومات، وإن كانت في بداياتها، وبين ما يتعلمه الجيل الناشئ في المدارس اليوم، خاصة في العالم الثالث. قليلون من يعرفون، خارج حلقة المتخصصين، أن الكون يحتوي على كم هائل من المجرات المضطرمة المتصادمة رغم المسافات الشاسعة التي تفصل بينها والتي تقاس بمليارات السنوات الضوئية، فمجرتنا درب اللبانة تحتوي نجوماً ضمتها إليها بعد أن جذبتها وسرقتها من مجرات أخرى، وتتميز تلك النجوم بمدارات ومسارات خاصة بها . كما عرف العلماء منذ سنة 1994 أن مجرتنا تحاول أن تمتص وتبتلع المجرة القزم في برج ساجتير Sagitaire ، وأنها سوف تدخل في تطاحن وتصادم مع مجرة آندروميد Andromède بعد بضعة مليارات من السنين، وفي أحيان كثيرة تعبر المجرات وتحتك بعضها ببعض بسلاسة بدون تصادم ولا حتى تلامس طفيف بسبب المسافات الهائلة التي توجد بين المجرات، وفي أحيان أخرى تمتزج المجرات وتنصهر الواحدة في قلب الأخرى أو تندمج مع بعضها. وفي حالة حدوث التصادم العنيف يترجم ذلك بولادة نجوم جديدة شابة مما يسهم في تجديد عمر المجرات، ولكننا لا نشعر أو نحس بذلك على مستوانا المتواضع مقارنة مع إيقاع الكون. واليوم ظهرت معطيات كونية جديدة قد تقود إلى إعادة النظر في القوانين الجوهرية المسيرة للكون ومراجعة النظريات المكرسة منذ أكثر من قرن وبالذات نظرية النسبية لاينشتين لاسيما قانون الجاذبية أو الثقالة، وحل لغز الحياة الذكية والحضارات العاقلة والمتقدمة في الكون عبر الدليل العلمي ومن خلال الرحلات الفضائية واستكشاف الفضاء الخارجي، وهي مواضيع سنعالجها تباعاً في مقالات لاحقة.
من بين القوى الكونية الأربعة التي تسير الكون ( القوة النووية الشديدة والقوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطسية والجاذبية أو الثقالة ) فإن هذه الأخيرة هي الأكثر ألفة لدى الناس والأولى التي عالجها العلماء بالوسائل العلمية الحديثة منذ القرن السابع عشر على يد اسحق نيوتن ولغاية أوائل القرن العشرين على يد البرت آينشتين ونظريته النسبية الخاصة والعامة التي طغت على علم الفيزياء والكونيات حتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين والتي أثبتت صحتها على صعيد مجموعتنا الشمسية لكنها تعثرت وشابها القصور عند تطبيقها على صعيد اللامتناهي في الكبر وعلى الصعيد الميكروسكوبي واللامتناهي في الصغر، علماً بأنها القوة الأضعف في الكون مقارنة بباقي القوى الثلاثة الأخرى. وقد تعمقت المعضلة عندما اتضح للعلماء عدم توافق نسبية آينشتين مع الميكانيك الكمي أو الكوانتي mécanique quantique مما سيدفعهم ربما إلى تعديل قوانين الثقالة أوالجاذبية ومعاودة النظر في النظريات المنافسة للنظرية النسبية والتمعن بفرضية اختفاء جزء من قوة الثقالة أو الجاذبية داخل أبعاد كونية أخرى غير مرئية كتفسير لضعفها إزاء باقي القوى الكونية. وكان آينشتين يعتبر الثقالة بمثابة تعبير عن تشوه الزمكان بفعل الكتلة أو الطاقة، وليس فقط كقوة جذب تمارسها كتلة على أخرى حسب حجمها كتلك التي تمارسها الأرض على تفاحة أو على القمر، وتلك التي تمارسها الشمس على الأرض، سيما بعد دخول معطيات كونية استدعت اللجوء مرة أخرى إلى الثابت الكوني الآينشتيني ولكن على هيئة مادة سوداء وطاقة معتمة مجهولتي الهوية بغية استمرار العمل بالنظرية النسبية، أو التخلي عن نسبية آينشتين في حال استبعاد اللجوء إلى هذين المكونين الغامضين أي المادة السوداء والطاقة المعتمة. فالموديل النموذجي Modèle standard الذي يصف لنا تطور الكون،لاسيما اللحظات الأولى لولادته، يرتطم بعقبة الفرادة la singularité وما يتعلق بدرجة الحرارة والكثافة والضغط والانحناء أو التحدب أو قلب ومراكز الثقوب السوداء حيث الكثافة التي تصبح لانهائية الخ.. فالنظرية لا تقدم أجوبة ناجعة. فالنسبية نظرية كلاسيكية لاتتلائم مع معطيات ومفاهيم نظرية الكموم الكوانتية التي تشكل الدعامة الأساسية الثانية لعلوم الفيزياء المعاصرة خاصة فيما يتعلق بتصرفات وسلوكيات المادة على المستوى الذري وما دون الذري وفق مقاربة نظرية الكم أو الكونتا في حين أن النسبية تقدم رؤية لعالم من الأجسام التي يتم التعاطي معها حسب مواقعها وسرعاتها وطاقتها حيث تتحرك ضمن مسار محدد في إطار زمكاني مميز بوجود أجسام ذات كتل كبيرة، وهي صالحة على مستوى الإنسان والكون المادي المرئي أو الظاهر، لكنها تفقد صلاحيتها كلما هبطنا إلى عالم الجسيمات والدقائق والمسافات مادون الذرية واللامتناهية في الصغر لأنها لا تتلائم مع مبدأ اللاحتمية وعدم الدقة incertitude . هناك أبحاث كثيرة وطويلة ومعقدة تدرس الآن ولا مجال لذكرها في هذه المقالة بل سنتطرق إليها باختصار في مقالات قادمة عن سبل المناهج القادرة اليوم على تعديل أوتغيير قوانين الجاذبية أو الثقالة les lois de gravitation إحداها نظرية الحبال أو الأوتار Théorie des cordes التي تطمح ، بصيغها الخمسة المعروفة، إلى توحيد النظريات القائمة في نظرية جامعة موحدة ووحيدة، حيث تلعب الأبعاد المتعددة الخفية أو المختفية في الزمكان دوراً حاسماً ومؤثراً لأنها تقول باختفاء الثقالة أو الجاذبية داخل أبعاد أخرى غير مرئية، والتي يقتفي أثرها العلماء منذ ثلاث عقود أو أكثر. إلى جانب نظرية الثقالة الدائرية la gravité à boucles المنافسة لنظرية الحبال أو الأوتار منذ سنوات التسعينات. ويسعى العلماء اليوم إلى إيجاد أنموذج للكون يفسر كل شيء فيه دون الاعتماد على فرضيات لغزية كالمادة السوداء أو المعتمة والطاقة السوداء أو المعتمة لتفسير ديناميكية المجرات وتسارع التمدد والاتساع الكوني .