اللغة الآرامية ولهجتها السريانية - الجزء الأخير
2 ـ تطوّرت السريانية لتجعل من الآرامية لغة أدب وفلسفة وعلم وهذا ما لم يقم به شعب آخر غير الناطق بالسريانية. كان ذلك من خلال مدارسهم التي اشتهرت ببحوثها اللغوية والكتابية والتاريخية مثل مدرسة الرها التي هدمها الامبراطور البيزنطي "زينو" في 488 م لميولها النسطورية ومدرسة نصيبين التي حلّت محلها والتي وصلنا منها قوانينها وتنظيمها، ومدرسة أنطاكيا الشهيرة ذات الميول اللغوية والتاريخية والجغرافية. بالطبع لم يكن هناك مدارس سريانية لا غيرها فلليهود مدارس عريقة في بومبانيتا وسورا وغيرها في بلاد بابل ولكن الفرق بين النظامين السرياني واليهودي هو أن الأول وسّع استخدام الآرامية ليشمل جميع العلوم آنذاك ومن ضمنها الفلك والطب والكيمياء، بينما حصر اليهود استخدامها في مجال تفسير العهد القديم وكتابة شرائعهم وقلما تطرقوا الى الدراسات الأخرى التي لم يصل الينا منها أي شيء. ففي مجال الفلسفة ترجم السريان معظم مؤلفات أرسطو من اليونانية الى الآرامية منذ القرن الخامس وركّزوا على هذا الفيلسوف دون غيره لفائدة ميوله وافكاره الفلسفية للدراسات اللاهوتية المسيحية ولو انهم ترجموا ايضا دراسات بلوتارك، وافلاطون وسقراط وغيرهم من الفلاسفة الكبار. وفي مجال الطب ترجمت معظم مؤلفات غالينوس وهيبوقراط قام بنقلها سرجيوس الرأسعيني ثم نقح الترجمة وأضاف حنين بن اسحق عليها، وأصبحت هذه الترجمات موادا تدريسية أساسية في مدرسة جنديسابور الشهيرة والتي كانت مستشفى أيضا. كانت الآرامية لغة هذه المدرسة العريقة التي تخرّج منها اعداد كبيرة من الأطباء خدموا أجيالا من الخلفاء في العصر العباسي. وفي هذه المدرسة أيضا لعبت عائلة بختيشوع دورا تعليميا وعلميا لم تقم به عائلة أخرى وتكلّمت هذه العائلة الآرامية والفارسية والعربية معا. وعندما أصبحت الترجمات عملا يُشرف عليه الخلفاء ترجم المسيحيون أحيانا التراث الأغريقي من اليونانية الى العربية رأسا. حتى هذه الترجمات العربية تحتوي على تأثيرات الآرامية في التعابير العلمية والمصطلحات الأدبية ذلك لأنها استندت على ترجمات سريانية قديمة فما الترجمات العربية إلا زبدة حركة الترجمة لدى السريان فيها استخدمت الآرامية كلغة "الهدف". وسّع السريان اهتماماتهم العلمية لتشمل علم المنطق والفلك والكيمياء والزراعة والتاريخ وما عدا التواريخ السريانية العديدة والضخمة التي وصلتنا، لم يصلنا الا القليل من الدراسات الأخرى، ولكن من المهم أن نذكّر بأن كل هذه الدراسات كتبت بالآرامية الفصحى وهي جزء لا يتجزأ من الأدب السرياني. لقد تحمل السريان العبء الأكبر في عملية الترجمة اذ يذكر ابن نديم (قرن 11) في كتابه الشهير "الفهرست" 61 مترجما منهم 48 تكلّموا السريانية، و11 مَلَكي (بيزنطي سوري)، وصابئي واحد ثم فارسي آخر. لذلك فقد أنتج السريان معاجم سريانية ـ سريانية وسريانية ـ عربية تشرح المصطلحات الآرامية الصعبة ومعظمها مأخوذة من الأغريق ممّا وسّع نطاق التعبير بالآرامية. معجم (او بالاحرى موسوعة) ابن بهلول ( قرن 9 ) ومعجم آخر لحنين ابن اسحق كمّله تلميذه عيسى بن علي، وكتاب الترجمة لإيليا النصيبيني كلها منجزات ضخمة جعلت من الآرامية لهجة دولية (للمرة الثانية في تاريخها) ولكن على الصعيد العلمي هذه المرّة.3 ـ تقاس أهمية اللغة بمدى استخدامها وهذا ينطبق على الآرامية أيضا. لو جمعنا كل الكتابات الآرامية منذ ظهورها الى القرن السادس الميلادي ما عدا ما كتبه السريان بهذه اللغة، يبرز النتاج اليهودي شيئا ما. فالتلمود البابلي المكتوب بالآرامي ضخم وهو حوالي عشرة أجزاء من المجلدات المطبوعة بحجمها الكبير، وهناك تراجم ( ترجوم ) عديدة أقلّ ضخامة وهي تفاسير للعهد القديم. بالرغم من كمية هذه الكتابات الارامية، ما أنتجه اليهود قد لا يتعدّى الخمسة بالمائة مما انتجه السريان بنفس اللغة. فالمكتبة السريانية ـ الآرامية ضخمة جدا، والقليل الذي وصلنا منها يحتاج الى أجيال من المترجمين لو قاموا بترجمتها الى اللغات المعاصرة. فمنذ القرن الرابع الى نهاية القرن الرابع عشر، لم يهمل المؤلِفون السريان ومعظمهم من الرهبان، أيا من المجالات الأدبية والفكرية إلا ودبّجوا المؤلفات عنها باللغة الآرامية. أشعار مار أفرام ( القرن الرابع ) هي مكتبة بحدّ ذاتها وكذا هي المؤلفات الروحية والليتورجيا والفلسفية واللاهوتية والتاريخية... ضخامة التأليف وتنويعه يدّل على حيوية اللغة الآرامية في "العصر السرياني”ولا يمكن حتى مقارنة هذا الكم من المؤلفات مع ما كُتب بالآرامية سابقا حتى وان أضفنا المؤلفات اليهودية على المؤلفات الأخرى القديمة شيئا فوق شئ.
4 ـ إن نَشَرَ الفرس ألأخمينيون الآرامية لتعم مملكتهم المترامية الأطراف من بلاد فارس والى جنوبي مصر مرورا بالشرق الاوسط، فقد أوصل السريان هذه اللغة الى حدود الصين مع اليابان مرورا بالقارة الآسيوية بمساحاتها الشاسعة ولا زال جنوب الهند يستخدمها في الكنائس كما في كيرالا. اكتشف المنقبون اعدادا هائلة من الكتابات الصينية-السريانية (الصورة) والتركية-السريانية والمغولية-السريانية والميالايم (جنوب الهند)-والسريانية (الصورة ادناه) تعكس كلها مدى تغلغل الآرامية في هذه الشعوب الاجنبية وقد غزت العالم منذ القرن الثامن والى القرن الرابع عشر. لعب المانويون ايضا دورا في انتشار الارامية في جميع انحاء آسيا ولكن قلما يفوق نشاطهم باع السريان في هذا المجال والكتابات السريانية المكتشفة التي لاتحصى هي شاهد على ذاك.
خاتمة
ظهرت الآرامية لغة محلية فأصبحت لغة عالمية. بانت على الحجر والطين ثم دُبّجت على جلود الغزلان وصفائح البردي ثم الورق الاعتيادي. كانت الكتابات الاولى ملكية فأصبحت لغة المراسلة والادارة. حوّل اليهود الآرامية الى لغة دين بترجمتهم العهد القديم العبري اليها فطورها السريان الى لغة لاهوت وعلوم نظرية وعملية. عمّرت الآرامية كجدّة أبتْ أن تموت وخاضت القرون وزحم اللغات والضروف القاهرة وها هي تُنطق الى هذا اليوم بلهجات السورث وتُسمع في الكنائس في الليتورجيات. لن تضاهي الآرامية أيةُ لغة أخرى على وجه المعمورة اقله في طول عمرها وقدمها ثمّ كفاها أن يكون السيد المسيح قد تكلّم بها.
الآرامية هي أيضا الدليل الأكبر على قِدم الناطقين بها، بها تتغلغل جذورهم، قبل ظهور الاسلام وأبعد من زمن المسيح، في بطون وادي الرفدين بل أبعد من ذلك في سوريا ولبنان موطن القبائل الآرامية الأولى. وشكرا.