المادة والمادة المضادة / تحديات العلم الحديث في القرن الواحد والعشرين وما بعده 3
jawadbashara@yahoo.frطالبني بعض القراء الكرام، وأحدهم من الأعزاء جداً وهو الإعلامي القدير الأستاذ توفيق الحلاق، أن أقدم لوحة بانورامية مختصرة عن خارطة الكون، ومكوناته، بلغة مبسطة جداً وبعيدة عن المصطلحات العلمية المتخصصة، وهذا أمر مشروع وممكن، بينما طرح آخرون أسئلة وجودية وميتافيزيقية توجد إجاباتها في الفلسفات الوضعية والأديان السماوية أكثر مما هي في النظريات العلمية التجريبية. ومع ذلك كانت هناك أسئلة علمية مهمة تستحق عناء البحث فيها، ومن بين الأسئلة المثيرة التي وردتي: ما هي المادة ؟ ومن أين أتت؟ ومن الذي خلقها ولماذا؟ وهل هناك أنواع أخرى من المادة غير التي نعرفها ونتعامل معها؟ وما هي المادة المضادة التي أشرت إليها في مقالات سابقة، وهل هي حقاً مفتاح فهم الكون ؟ وما علاقة المادة بالزمن والمكان أوبالزمكان، وهل يمكن لجسم مادي الترحال في أتون الزمن والذهاب إلى المستقبل أو إلى الماضي كما تقول روايات الخيال العلمي؟
تغيرت نظرتنا إلى الكون كلياً وبصورة جذرية، بعد أن كانت خاضعة لرؤية ساذجة، ونابعة من مسلمات خرافية جاءت بها الديانات السماوية، مستقاة من نظرية الخلق الإلهي المباشر واللحظي بفعل الإرادة الإلهية في أن يقول للشيء كن فيكون، وهي التي رسخت فكرة مركزية الأرض التي خلقها الله وسخر لها باقي الأجرام كالشمس والكواكب والنجوم وجعلها مأوى لذرية آدم أبو البشر بعد طرده من الجنة. أكتشف إنسان القرن التاسع عشر والقرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين أسراراً ومعلومات ليس بمقدور أسلافه حتى تخيلها ناهيك عن تصديقها أو التفكير فيها،عدا ثلة من المختارين والصفوة الذين كانوا سابقين لعصرهم بعدة قرون. بات واضحاً لإنسان اليوم أن الأرض كوكب عادي وتافه وصغير جداً هو أصغر من جزء من مليار من قطرة ماء بالنسبة لمياه المحيطات والبحار والأنهار التي تغطي ثلاثة أرباع مساحة الكوكب. لا يتجاوز عمره أربعة مليارات ونصف المليار سنة مقارنة بعمر الكون التقديري الذي يناهز الخمسة عشر مليار سنة. وكوكب الأرض واحد من مجموعة شمسية مكونة من تسعة أوعشرة كواكب ، حسب اجتهاد العلماء، ، وهو متوسط الحجم ، أي ليس أكبرها وليس أصغرها، ويتمتع بغلاف جوي ملائم لنشأة الحياة فوقه نتيجة لوجود المياه والأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون وباقي المواد والعناصر الأخرى ، عضوية وغير عضوية، وبنسب معينة ساعدت على تطور الحياة النباتية والحيوانية والبشرية، البرية والبحرية والجوية، وله تابع واحد هو القمر يدور حوله، ويدور هو على نفسه، كما يدور باستمرار مع باقي الكواكب في مدارات ثابتة ومحددة حول نجم عادي مبتذل ومتوسط الحجم أيضاً يدعى الشمس يقع بدوره على أطراف أو في ضواحي مجرة تسمى درب اللبانة بجوار 200 مليار نجم آخر ، وبالتأكيد يوجد لدى تلك النجوم كواكب وأقمار عديدة، ومما لا شك فيه أن في بعضها ظروف وشروط مشابهة تماماً لما هو موجود على الأرض، مما يعني أن بمقدورنا أن نتوقع وجود حضارات بشرية أوغير بشرية عاقلة وذكية ومتطورة فيها، قد تسبقنا بآلاف أوملايين السنين تكنولوجياً. وهناك في هذا الكون المرئي آلاف المليارات من المجرات المتفاوتة الشكل والحجم والعمر تتباعد عن بعضها بسرعات خيالية تقاس بملايين ومليارات السنين الضوئية ـ أي ما يقطعه الضوء من مسافات خلال سنة أرضية بسرعة 300000 كلم في الثانية ـ وهناك قوانين فيزيائية ومعادلات رياضية تتحكم بالكون وتديره، ونظريات علمية تتحدث عن ولادته وتطوره وكيفية تكون المجرات والنجوم والكواكب والأقمار والشهب والنيازك والمذنبات فيه. وأشهر تلك النظريات ميكانيك نيوتن والنسبية الخاصة والعامة لآينشتين ونظرية الكم أو الكوانتا ونظرية الحبال أو الأوتار الفائقة التي تطرقنا إليها في مقالات سابقة، منها ما يبحث في اللامتناهي في الكبر ومنها ما يختص باللامتناهي الصغر. يتكون كوننا المرئي ـ وأقول المرئي لأن هناك قطعاً أكوان أخرى غير مرئية لا تعد ولا تحصى وتتميز بخصائص لا يعرفها البشر بوسائلهم التقنية البدائية ـ من مادة وطاقة ، وكل واحد من هذه المكونات يوجد بصيغتين، فالطاقة موجودة بصفتها الملموسة والمكتشفة والمسخرة والمستخدمة ، كما توجد بصفة افتراضية تسمى الطاقة المعتمة أو السوداء. وكذلك المادة ، فهناك المادة المرئية الملموسة القابلة للدرس والتجريب، وأخرى معتمة أو سوداء، وهناك مادة أخرى موازية لها تسمى المادة المضادة، وهذه الأخيرة هي التي ستمكننا من إعادة كتابة قصة وتاريخ الكون من دون الخروج عن قوانينه أو خرقها وانتهاكها. والسؤال هو هل لهذه المادة المضادة جاذبية وجاذبية مضادة أو ثقالة gravité وثقالة مضادة antigravité؟
استقر علماء الفلك وعلماء الكونيات والفيزياء الفلكية، في نهاية العقد الأول من القرن والواحد والعشرين، على موديل نموذجي للكون يسمى ستاندارد modèle standard يتضمن سيرة مرسومة بدقة لنشأة أو ولادة وتطور الكون من البيغ بانغ الإنفجار العظيم إلى اليوم، حسب ما رصدوه في التلسكوبات الأرضية والفضائية المتطورة والمتقدمة تكنولوجياً. وقد تأكد التنبؤات والتكهنات التي قالت بها النظرية النموذجية للكون بتطابقها مع نتائج عمليات الرصد والمراقبة والتجارب المختبرية الدقيقة بيد أن ذلك الانجاز لا يتساوق مع دعامتين مبهمتين ومجهولتي الخصائص للموديل النموذجي واللذين يشكلان نسبة 95% من مكونات الكون المرئي، إذ أن المادة التي تتكون منها المجرات والغازات والنجوم والكواكب والحشود السديمية والكائنات الحية وغير الحية، لا تمثل سوى 5% من مجمل مكونات الكون المرئي أما النسبة الباقية وهي الـ 95% فهي المغلفة بالألغاز والأسرار أو مغطاة بثوب المجهول وتغوص في عالم الغيب، حيث عندها تتعقد الأمور. فـ 25 % من مكونات الكون هو مادة أطلق عليها علماء الفلك والكونيات صفة المادة السوداء أو المعتمة التي افترضوا وجودها دون أن يرقبوها لكنها تفرض نفسها في المعادلات التي يتضمنها الموديل النموذجي للكون وهي الوحيدة القادرة على تفسير الظواهر الثقالية سواء على صعيد المجرة أو على صعيد الكون برمته. وبالطبع فإن الـ 70 % المتبقية فهي مكونة من طاقة مجهولة ولغزية بقدر ما هي ضرورية للنظرية النموذجية للكون وسميت أيضاً بالطاقة السوداء أو المعتمة وهي التي تقوم بتفسير تسارع التوسع والتمدد الكوني وباختصار فإن نظرية الموديل النموذجي للكون modèle standard قادرة على أن تروي لنا قصة الكون وتاريخه لكنها عاجزة عن معرفة 95% من طبيعته.
تقبل أغلب العلماء هذه الصيغة التوافقية بالرغم من صعوبة، إن لم نقل استحالة، اكتشاف المادة والطاقة المعتمتين وتجرأ نفر قليلمنهم على استبعادهما واستبدالهما بالمادة المضادة Antimatière بالاستناد إلى مقولة أن لكل جزيء أو جسيم أولي للمادة ( الكترون أوكوراك وغيرها) هناك جسيم أوجزيء مماثل من المادة المضادة (الكترون مضاد antiélectron أو كوارك مضاد antiquark) يشبهه بالخصائص ويعاكسه بالشحنة الكهربائية. ومن هنا فإن النموذج المقترح للكون مكون من مادة طبيعية هي المادة المعروفة، ومادة مضادة . ولكي يتوافق ويتجاوب هذا النموذج الكوني مع نتائج المراقبة والرصد يتوجب أن يكون للمادة المضادة جاذبية أو ثقالة مضادة antigravité، بعبارة أخرى يجب أن تسقط تفاحة نيوتن إلى الأعلى وليس إلى الأسفل. والحال أن دقائق وجسيمات المادة المضادة لا تنهار على نفسها تحت تأثير الثقالة كما تفعل المادة العادية بغية خلق الكواكب والنجوم، بل على العكس تتباعد بعضها عن بعض لتخلق مناطق غازية شاسعة إلى جانب مناطق ومساحات المادة العادية التي نعرفها ونألفها، وقد اثبت التجارب المختبرية أنه عندما يلتقي جسيم مادي بمضاده ويحولان كتلتيهما إلى طاقة ينهي أحدهما الآخر ويعدمه في حين أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم وإنما يمكن تحويلها إلى طاقة وبالعكس. الجدير بالذكر هو أن العلماء تمكنوا من العثور على المادة المضادة لوقت قصير لا يتجوز جزء واحد من ألف من الثانية في مسرع أو مصادم الجزيئات والدقائق سيرن CERN على الحدود السويسرية الفرنسية. ومن هنا افترض أنصار المادة المضادة أن هذه الأخيرة لم تعدم كلياً وأنها موجودة في مكان ما في هذا الكون المرئي الشاسع وربما تكون قد خلقت كوناً آخر موازياً لكوننا أومتداخلاً معه أو متواجداً في بعد آخر غير مرئي لا يخضع لقوانين الكون المرئي الفيزيائية . بالرغم من التطور التكنولوجي الذي تحقق في وقتنا الحاضر إلا أن العلم مازال يقف على أبواب المستحيل، لاسيما فيما يتعلق بمسألة تنقل المادة ـ البشر والآلات أو المركبات الفضائية ـ بين الأزمان على الرغم من وجود نظرية عن حصول تشعبات Bifurcation انطلاقاً من بعدنا المادي كما لو إننا نسلك طريقاً موازياً للزمن . فلوعاد الإنسان القهقري إلى الماضي والتقى بجده وقتله قبل أن يرزق بوالد الحفيد المسافر إلى الماضي فهذا سيعني استحالة وجود الحفيد في الحياة فكيف هو موجود ويسافر عبر الزمن؟ الجواب هو أن الجد سوف يموت في عالم آخر موازي وليس في عالمنا. ومن هنا تمحى الحدود التي تفرضها العلاقة بين العلة والمعلول، والمعضلة هي معرفة كيفية الانتقال من بعد لآخر. وهذا ممكن إذا اعتقدنا بنظرية أو فرضية العوالم أو الأكوان المتعددة multivers التي قدمها هيوغ إيفيريت Hugh Everrett وهي لا تطبق في الوقت الحاضر إلا على صعيد اللامتناهي في الصغرinfiniment petit . تحاول هذه النظرية حل إشكالية القياس قبل حصوله لأي دقيقة أوجسيم مادي ( ذرة أو إيون أوفوتون أو الكترون atome,ion,photon, électron ) حيث أنه يغير مكانه بمجرد البدء بقياسه délocalisé ولا يمكن تحديد موقعه بدقة فهو موجود في آن واحد هنا وهناك. وبمجرد رصده بآلة قياس ينتقل إلى موقع آخر غير مرئي، ومهما عرفنا من معلومات عن طبيعته، فمن المستحيل التكهن بالموقع الذي سيختاره الجسيم ليعلن عن نفسه. ومن أجل حل هذه المفارقة العلمية للفيزياء الكمية أو الكوانتية، ذهبت مخيلة العلماء بعيداً فافترض العالم هيوغ إيفريت أنه في لحظة القياس فإن الجسيم لا يقوم باختيار عشوائي وحيد من بين جميع المواقع التي يمكن أن يرتكن إليها ويعلن عن نفسه وتواجده عندها، فهو يعيد تموضعه في كل نقطة ممكنة بيد أن كل نقطة سيختارها سوف توجد في عالم أو كون خاص. بعبارة أخرى، يرى المراقب في عالمنا الجسيم وهو يتجسد مادياً في موضع محدد، في حين أن مراقب آخر في عالم آخر يراقب نفس الجسيم سيراه وهو يتجسد مادياً في نفس الآن ولكن في موضع آخر أو عالم آخر موازي وهكذا دواليك. فهناك عدد من العوالم بقدر عدد الأماكن والمواقع التي يمكن أن يحتلها الجسيم في نفس اللحظة. ولكن يجب التنويه إلى أن مسلمة العوالم المتعددة MULTIVERS نظرية بحتة لايمكن إثباتها في الوقت الحاضر وتطرح الكثير من الإشكاليات والصعوبات . نظراً إلى أن لكل جسيم في عالمنا ، ـ وهناك مايقدر بـ 1079 ،أي رقم عشرة وأمامها تسعة وسبعون صفراً من الجسيمات ـ ، تموضعاته الخاصة والمتغيرة في جزء من مليار من الثانية مما يعني خلق عدد لامتناهي من العوالم أو الأكوان في كل جزء من الثانية على صعيد اللامتناهي في الصغر. وفي حال عدم التداخل والتفاعل بين الأكوان ـ العوالم ، وعند انتقال جسيم أو كائن بشري من عالم أو كون إلى آخر ، فكيف سيكون حال الزمن؟ وهل هو نفس الزمن وهل يمكن الترحال فيه؟ يرد علماء الفيزياء الكوانتية بالقول بأنه عندما نتحدث عن الزمن يجب أن نعرف أنه لايوجد زمن مطلق بل نسبي حسب المراقب له، كما يقول آينشتين، والحال أن رحالتنا في المثال السابق ينتقل من كون لآخر، وفي هذه الحالة فهو يسافر في أزمان مختلفة فلكل عالم أو كون زمانه الخاص به وبالتالي فرحالتنا لا يرحل نحو الماضي بل نحو لحظة ما من الزمن الخاص في الكون الذي يتواجد فيه حينها، أي زمن كون ـ عالم، غير الكون الذي كان يعيش فيه وغادره، وإن الزمن لا يجري بنفس الطريقة وبنفس المعدل في كل مكان وفي كل الأكوان والعوالم كما تقول نظرية النسبية العامة لآينشتين ، وإن الزمن والمكان شيء واحد أو كل واحد في بعض الظروف ويتحولان من هيئة إلى أخرى . وفي سنة 1960 تعمق العالم الفيزيائي براندون كارتر Brandon Carter بنظرية النسبية العامة لآينشتين عندما كان يدرس في جامعة كامبردج حيث قام بتحليل السلوك النظري للثقوب السوداء وهي في حالة دوران مع شحنة كهربائية. وكان اكتشافه مذهلاً. فعلى النقيض من ثقب أسود عادي مألوف من النوع الذي يجذب نحوه كل شيء ليمتصه في أعماقه، فإن النظام الذي درسه على الورق عبارة عن حلقة أو خاتم anneau يمكن للمسافر الافتراضي المذكور أعلاه اختراقه ، وفي الجانب الآخر للخاتم، وبالعودة لما أسماه الفيزيائيون بثقب الدودة trou de ver ، لاحظ العالم بارندون كارتر أن الثقب الأسود الدائر حول نفسه قد غير علامته، وأن الثقالة أو الجاذبية فيه صارت تمارس بالاتجاه المعاكس أي طاردة ودافعة وقاذفة لكل ما يقترب منه . فكل الأجسام التي تسلك طريق ثقب الدودة تبعد وتطرد بنفس الطريقة التي تنجذب فيها الأجسام في حقل الجاذبية الكلاسيكي أو النموذجي ولكن بطريقة معاكسة أي ما يشبه الثقالة المضادة antigravité ، ومن هنا تخيل كتاب الخيال العلمي الرحلات بين الأكوان وفي الفضاء بين المجرات عبر هذه الثقوب الدودية التي تنقلنا من زمن إلى زمن ومن كون إلى آخر.