المثقفون الغربيون ومثقفو الشرق الاوسط
مقدمةشاركت قبل ايام استاذا زائرا في مائدة مستديرة اقامتها جامعة فيكتوريا الكائنة في قلب مدينة تورنتو الكندية ، مقدما عدة مداخلات حول موضوعات تخص العراق والشرق الاوسط ، وخصوصا تلك المتعلقة بحرية المثقف سياسيا في الشرق الاوسط ، وهل بمقدوره ان يعلن كل ما يؤمن به ؟ وهل باستطاعته ان يبوح بكل ما يفكر فيه ؟ وهل ثمة ارادة حرة تنبثق اليوم للنخب المثقفة في الشرق الاوسط ؟ ولدى مختلف القوميات المنتشرة في تلك المنطقة الحيوية من العالم ؟ لقد تلمست وانا استمع لجملة من المداخلات والافكار والتعليقات على مدى ست ساعات .. كم هو الفارق كبير بين بنيتي تفكير تقومان اليوم مثقفي العالم الحر وبين مثقفي العالم السجين ؟ كم تلمست هول المسافات بين العالمين ؟ وقلت : ان عوامل ظاهرة واخرى صامتة مستترة تقف وراء تلك المسافات ، ومنها تأثير السلطة ، وايضا ممارسة الاضطهادات ضد كل رأي لا يخالف السلطات السياسية فقط ، بل اي رأي او فكرة او خطاب يخالف السلطات الاجتماعية التي اصبحت هي المهيمنة على مقاليد الحياة في عموم عالمنا الاسلامي ، والشرق الاوسط بالذات في قلب الاحداث . وعندما اقول بمثقفي الشرق الاوسط ، فانني لا اقصر كلامي على المثقفين العرب ، اذ يشاركهم كل من المثقفين الاتراك والايرانيين والاكراد والسريان والارمن والباكستانيين والقوقازيين والقوميات الاخرى ..
الحركة والصمت
لعل جملة من المثقفين الغربيين لم يختبروا جيدا في هذا العصر قوتهم المعنوية الهائلة، إلا في حرب فيتنام خلال ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، مستندين على الانعكاس الثنائي للقطبين الرأسمالي والاشتراكي في ذاك العالم الذي كان يمر بحرب باردة متأججة .. كما وانه كان يمر بتغيرات اجتماعية وتحولات سياسية ومؤثرات ايديولوجية كبيرة، منها الثورة الطلابية والشبابية، وصعود اليسار في العالم الذي انتمى اليه كثير من هؤلاء المثقفين الحقيقيين ، مثقفين من عيار عالمي ثقيل، كجان بول سارتر على سبيل المثال لا الحصر، الذي لم ينجح فقط في تحريك المثقفين الفرنسيين لصالح وقف الحرب في فيتنام، بل حرض ايضا المثقفين في اميركا نفسها وفي اوروبا، خالقا بذلك تيارا ثقافيا ومؤدلجا عالميا ضاغطا لا يمكن تجاهل تأثيراته البالغة على الاف الناس .. وهذا ما لم يستطع فعله المثقفون العرب ليس لأنهم لم يشتغلوا بالسياسة ، بل لأنهم واقعون ضمن اسيجة تحيطهم ولا يعرفون معنى الحرية ابدا !
ثمة حالات قليلة في عصرنا الحالي تشكل فيها مثل هذا التيار الثقافي، بل على العكس من ذلك، صمت مثقفون في الغرب في الوقت الذي كان يجب ان يصرخوا، كما حصل في عهد ستالين مثلا. وهذا ما ادانه الروائي البريطاني مارتن اميس في كتابه الاخير (كوبا.. الرجل المرعب) الذي طرح فيه سؤالا مركزيا على المثقفين الغربيين قاطبة : لماذا سكتم عن اضطهاد زملائكم في روسيا اثناء حكم الطاغية ستالين؟ وهو السؤال نفسه الذي يثيره المثقفون العراقيون بوجه اخوتهم العرب الذين سكتوا سكوت ابو الهول وسكنوا وصمتوا على اضطهاد اخوتهم العراقيين في الدواخل والشتات اثناء حكم الطاغية صدام حسين ؟ واذا كان المثقفون الغربيون قد اثارتهم واحزنتهم مجازر ستالين حتى الاعماق مما جعلهم يدينون سياساته وهو الذي تحالف مع الحلفاء ضد هتلر ، فان المثقفين العرب لم يكتفوا بصمتهم وسكوتهم ، بل راحوا يقدسون اسم طاغية العراق ويجعلون منه رمزا للبطولة سواء كان ذلك على ايام عهده ام بعد سقوطه على ايدي قوى التحالف الامريكية البريطانية .. ومن المؤسف ان هؤلاء جميعا يمرون بازمة حادة من تناقضات يحملونها وهم يكذبون على العالم من خلال اقنعتهم التي يلبسونها في كل تهريجاتهم باسم المبادىء والدين والقيم القومية !
التيار الثقافي بين عالمين
صحيح ان كبار المثقفين الغربيين قد اتخذوا مواقف آنية من مسألة الحرب ، ولكن لم يشكل ذلك ابدا تيارا ثقافيا عالميا في معارضة التغيير السياسي في العراق ولقد ميزوا بين الحرب بكل كوارثها وبين حاجة العراق الى التغيير السياسي الجذري ، ففي بريطانيا مثلا، نشر شاعر البلاط البريطاني اندرو موشن، قصيدة ضد الحرب في الصفحة الاولى من جريدة «الغارديان» ولكنه لم يقف مع الطاغية ولا مع كوارثه ضد شعب العراق والتي ادانها ادانة صريحة ، وكذلك فعل الكاتب المسرحي الشهير هارلولد بنتر. وفي المظاهرة الضخمة التي خرجت في لندن، تقدم كتاب ومثقفون مثل الروائي وليم سيلف الصفوف الاولى من تلك المظاهرة ، ولكنه صّرح مرارا وتكرارا بأن العراق لابد ان ينفتح على العالم ويتخلص شعبه من الاستبداد ويتنسم عبير الحرية . وصحيح ان في اميركا وقف ضد الحملة وضد الحرب كتاب وشعراء ومثقفون واكاديميون من طراز سام هاول، ولورنس فيرلنغيتي، «أبي» الشعر الاميركي المعاصر، وسينمائيون من طراز وودي الن، وسبايك لي، وغيرهم، اضافة للاسماء الثقافية الكبيرة المعروفة بمعارضتها التقليدية لسياسات الادارة الاميركية ، الا ان ساعة الصفر عندما دقت دقاتها الاولى ، وبدأ الهجوم وبدأت ايام الحرب تتوالى اندهش العالم كله من سقوط النظام السياسي العراقي بسرعة خاطفة مخلفا وراءه خسائر كبرى . وكما حدث في فرنسا وبريطانيا وامريكا وكندا ، حدث في المانيا اذ ارتفعت أصوات كبيرة ومؤثرة منها صوت غونتر غراس، الى جانب الفيلسوف يورغين هابيرمس وعشرات اخرين.
وأخيرا : ماذا يعلمنا هذا الخطاب ؟
انه يعلمنا كم هي الفوارق كبيرة بين المثقفين الغربيين الذين يتمتعون بارادتهم الصلبة وحركتهم الواسعة من اجل صنع الابداع وثبات المواقف وقوة الكلمة ازاء بنى متشرذمة من اناس غير مثقفين او انهم انصاف مثقفين . لقد نجح المثقف والمبدع في الغرب ان يؤثر على نخب مثقفة اخرى في العالم ، ليس من خلال الكتابات فقط ، بل من خلال الاتصالات الحديثة . ان المثقف الحقيقي في هذا العالم ، لابد ان يبلور موقفه ، ويعلن عن رأيه .. ان المثقف الحقيقي هو ضمير مجتمعه نحو التقدم لا التراجع ، ونحو المستقبل لا الماضي . ان المثقف الحقيقي لابد ان يقول لا لأي طاغية ولأي متجاوز ولأي مخطئ .. ان المثقف الحقيقي لا يمكن ان يكون منتميا لحزب سياسي ولا يمكن ان يكون متخندقا مع طرف ضد آخر .. ربما يكون مؤمنا بفكر معين او بتيار معين .. ولكن شريطة ان لا ينساق وراء اخطاء الاخرين .. على المثقف الحقيقي ان لا يكون بوقا لأي سلطة ، والا وصف ذيلا او بيدقا .. ان نخب المثقفين الغربيين التي عرفتها تماما هي التي تخلق " الحالة ، او " الظاهرة " .