المثقفون الملتزمون
اولا : مدخلات التعريف : الملتزمون هم الحقيقيونالمثقف الحقيقي ، من يكون قد التزم قضية معينة ، او نظرية محددة ، او فكرا حقيقيا ، او تبلور مع نخبة مثقفة لحل مشكلات ومعالجة ازمات .. انه مدافع عن اسس وقضايا تهم الناس وتتطلع الى الاخذ بيد المجتمعات الى الامام من خلال تطلعات واسعة وكبيرة .. انه الذي يوّظف ابداعه لخدمة واقعه اينما كان واينما وجد .. انه المعّبر الحقيقي عن هموم الحياة ، والمرآة العاكسة لكل خصائصها ومواصفاتها في الوجود .. الملتزمون ليسوا فقط اعضاء في احزاب راديكالية ولا كونهم يوظفون منتجاتهم في خدمتها .. انهم مثقفون يلتزمون الحياة ، وليسوا مجرد بيادق لدى الساسة وقادة الاحزاب .. انهم اكبر من هؤلاء واولئك بكثير .. انهم اولئك الذين ينتمون الى تراب وطني ، او فضاء حضاري ، او مدار انساني ، ولا يفرقون بين الالوان ، ولا يميزون بين الناس على اساس هوية ، او دين ، او عرق ، او حزب ، او طائفة ومذهب .. ولكنهم يدركون جيدا ان المجتمعات مجموعة مستويات تعلو وترتقي او تهترئ وتنضوي .. انهم حقيقيون ، يلتزمون قضايا حقيقية .. يتألمون لمصائر بلدان .. يتحسسون بضياع اجيال .. يفكرون بالمستقبل .
ثانيا : الملتزمون يوازون العضويين
انهم مثقفون عضويون يدركون مخاطر الحياة ولا يتقبلون الاملاءات .. لا يساومون على مبادئهم المثقفة ، ولا على قيمهم الحضارية ، ولا على مواقفهم الانسانية ، ولا على ابداعاتهم الجماعية ، ولا على افكارهم العليا .. انهم لا يتقلبون على الحبال من حين الى حين ، ولا يرقصون كالمهرجين في كل عرس مجنون . نعم ، انهم اكبر مما نتصور ! ربما كانوا من العضويين ـ حسب وصف الفيلسوف الماركسي الايطالي غرامشي ـ ، وربما كانوا من المنتمين لهذا الطرف او ذاك ، ولكنني اجدهم من المؤمنين الذين يدافعون عن افكار معاصرة لا عن رواسب عفا عليه الزمن ، وهم صرخة مدوية يعبرون من خلالها عن انسحاقات الاخرين من ضعفاء واقليات ومسحوقين ومهمشين ، ولا يتقبلون ان يبيعوا انفسهم مهما كانت الظروف ، ولا يتخندقون هنا وغدا هناك .. بل وان العشرات من المثقفين الملتزمين من خسر سنوات عمره في زنزانات ، او هناك من دفع حياته ثمنا لمبادئ حقيقية آمن بها .. وهناك من شاخ وهدّته تبدلات الحياة .. ومن مات وهو لا يملك ما يسد به رمقه . فهل من الانصاف ان نساوي بين هكذا مثقفين مبدعين لهم نظافتهم ولهم مبادئهم ، ولهم مواقفهم ، ولهم صلابتهم ومجابهاتهم للتحديات ازاء مثقفين آخرين لا يعرفون الا الرخوية ، والانصياعات ، والتصفيق ، وترديد الشعارات والتخندقات .. بل وغدوا في جوقة ولاة الامر لا يعرفون الا المديح والتسبيح بحمد هذا وذاك .. واصبحوا من الطفيليين الذين لا يتعاملون الا بالملايين ؟ ان المثقفين الذين التزموا قضايا الناس ومصائر المجتمعات .. وصرفوا اعمارهم وحرقوا سنوات حياتهم هم الذين سيبقى ذكرهم مخلدا على امتداد الناريخ .. وسيلفظ الزمن كل الساقطين والطفيليين ، وكل المارقين والطائفيين ، وكل المهرجين والافاقين .
ثالثا : المثقف اللا منتمي : الالتزام المفقود
قبل اكثر من خمسين سنة ، كان " الالتزام " احد اهم المبادئ التي يتمتع بها المثقف الحقيقي في الانتماء الى المجتمع من اجل تطويره نحو الافضل لا من اجل الانخراط تحت مظلته وتقّبل هيمنته ، كان يؤمن بقضاياه الحقيقية المدنية ، كما كان يتصّور سواء آمن بنظرية تقدمية ماركسية ، او ليبرالية متحررة ، او قومية وطنية .. وكم دفع المثقفون الاوائل عربا كانوا ام اتراكا ام فرسا ام اكرادا ام اقباطا ام غيرهم من اطياف عديدة .. اثمانا باهضة من حياتهم ، فسجن بعضهم ، واغتيل آخرون ، واضطهد البعض ، ونفي آخرون .. بل وصلت حالة البعض الى حد الانتحار ، فانتحر من لم يستطع تحمل اعظم المتغّيرات في تفسيره وقت ذاك ، والتي غدت اليوم عند الكثير من ابسط ما يمكن تصنيفه وقبوله والتعامل معه تحت مسميّات عدة .. اليوم ، لا تجد ذلك المثقف الملتزم او السياسي الصلد .. لن تجد الثوابت راسخة رسوخ الجبال ولم يعد النضال من اجلها حتى الموت .. لن تجد المواقف معلنة ، وصريحة ، على رؤوس الاشهاد .. لن تجد الشجاعة في مقول القول ، او الجرأة في الخطاب ، الا عند النادر من المثقفين والمثقفات اليوم.
رابعا : المنحرفون منكشفون
لا ينحصر انحراف المثقف في سلوكه الشخصي او حرياته ذاته .. ولكن انحرفاته في مواقفه الفكرية والسياسية بشكل خاص ، ان من واجبه ان يكون منحرفا عن اعراف مجتمعاته السيئة ، وهو يريد اصلاحها من خلال حياة جديدة . لقد اصبحت حياتنا في كل مجتمعاتنا المتنوعة التي يضمها عالمنا ، خصوصا ، بلا ضوابط ، فكل من هبّ ودبّ دعا نفسه بـ (مثقف ) ! وكل من كان ضعيف النفس ، مسلوب الارادة ، مريض العقل ، دعا نفسه بدكتور حامل شهادة دكتوراه وهو لا يحملها أبدا ! وكل من دمرته سايكلوجيته التي تحفل بتعقيدات ترّبت معه غدا يتكلم بطريقته الخاصة اسوأ انواع الكلام باسم " مثقف" ! كان المثقفون ايام زمان يهتمون بغيرهم من المثقفين ، ويناشدونهم ، ويهتمون بهم .. اما اليوم ، فلم يعد هناك اي التزام حقيقي مثقف له روحيته وقوته .. فلقد دمّرت العلاقات بين المثقفين في حياتنا كلها ، وساد الجحود فيما بينهم ، ولن تجدها الا من خلال مصالح شخصية او فئوية او سياسية او طائفية او اقليمية .. وكلها علاقات غير نظيفة تعج بعلامات الاستفهام ! لن تجد النزاهة ، ولا التجرّد ، ولا نظافة اليد ، ولا حسن الموقف ، ولا الاهلية ، ولا المعرفة ، ولا الحفاظ على المال العام .. نعم ، قد تجد بدايات مشجعة لحياة مجتمع مدني ، ولكنها اسيرة كل ما يطوقها في المجتمع ، او من يتسلط عليها من الدولة ، فيجعلها كسيحة لا تقوى على الحياة .. وهكذا بالنسبة للاحزاب السياسية التي لا تستطيع تطوير اساليبها ، او بالنسبة للمنظمات الاقليمية التي لا تستطيع ان تفعل شيئا بالرغم من انفاقاتها الباهضة .. ، او بالنسبة للقوى الاجتماعية التي تسيطر على الحياة بسلطة الدين ، او المذهب ، او الطقوس ، او الاعراف والتقاليد الخ
خامسا : البدائل متى تتحقق مشروعاتها ؟
انني اتساءل عن " بدائل " ، اذ ينبغي ان يعد كل بديل مشروعا كاملا تحتاجه مجتمعاتنا ودولنا حاجة ماسة .. وعليه ، كم يا ترى يلزمنا من بدائل حقيقية عن كل ما تركه القرن الماضي من ترسبّات وبقايا ؟ كم تنفعنا هنا حرية الفكر والتعبير ؟ كم هي ملزمة الحريات الشخصية واحترام الرأي الاخر ؟ كم هو مطلوب من قوانين جديدة للحياة السياسية وضوابط واعراف للحياة الاجتماعية ، واساليب متقدمة جدا في الحياة الثقافية ؟ كم مطلوب من تجديد حقيقي في الثقافة العربية وثقافات مجتمعاتنا في الشرق الاوسط باسره ؟ كم هو نافع ان تكون لدينا بدائل أخرى عن مواريث الحقد والكراهية ؟ كم مطالب اي انسان في مجتمعاتنا ان يحمل نفسا طيبا ، وطبعا كريما ، مع تواضعه وتبسّطه امام الاخرين .. ليكن حّرا في تصرفاته الشخصية ، فلا اعتراض على حريته وافكاره ، ولكن مع توفّر مصداقيته وامانته وحسن تعامله مع الاخرين ؟ كم مطلوب من مجتمعاتنا ان تجعل من اديانها كنوز فضائل ، واخلاق ، ومصالح مرسلة ، وتجليات روحية سامية للنفس والمشاعر .. بدل جعلها ايديولوجيات سياسية تتلوث بالانقسامات الطائفية والمذهبية على ارض الواقع ؟ ان البدائل لا تتحقق من فراغ ، ان ثمة شراكة بين مؤسسات الدولة وابناء المجتمع لابد ان تتحقق للمطالبة باعادة الاعتبار للمثقف الحقيقي والملتزم والذي لا يتعطش لسلطة ، ولا يتخندق بحزب ، ولا يناور كسياسي ، ولا يهادن كموظف .. اذ ليس له الا كلمة سواء.
سادسا : تساؤلات تبحث لها عن ولادة جديدة
كم هو مطلوب من دولنا ، وحكامنا ، ومسؤولينا ان يتخلصوا من تبخترهم وكبريائهم ونفختهم الكاذبة واستعراض عضلاتهم ويندمجوا مع الناس ؟ كم هو مطلوب من اي انسان ان لا يعلو برأسه فوق مستوى نبات العشب, وان يكون خّيرا ، ومتواضعا ، ومعطاء ، ومساعدا ، ومبتسما ، وسريع البديهة ، وحاضر النكتة ؟ وهذا لا يحصل الا من خلال تربية جديدة تزرع عنده المحبة لا الكراهية ، وتعلمه الانفتاح لا الانغلاق . كم هو مطلوب من الناس العاملين ان يكونوا اوفياء لمؤسساتهم ولا يهمهم الا جودة الانتاج وكذا هو طبع المخلصين الحقيقيين للاوطان .. ؟؟ كم نحن بحاجة الى المثقفين المبدعين ، والمجتهدين ، والاكفاء ، والملتزمين .. لا الادعياء ، والاغبياء ، والمثرثرين ، والمتقلبين ، والمستعرضين ؟ كم نحن بحاجة الى رجال اعمال امناء ، ورجال اعلام وصحافة منصفين ، ورجال استثمارات ماهرين ، ورجال قضاء عادلين .. ؟ كم نحن بأمسّ الحاجة الى اكاديميين معرفيين لا ادعياء مقنعّين ؟ كم نحن بحاجة الى اناس حقيقيين : حكاما ديمقراطيين ، ومخططين استراتيجيين ، ووزراء متفانين ، وساسة حاذقين ، واداريين قياديين ، ومحاسبين قانونيين ، ونقابيين مدافعين ، ومشرّعين متميزين ، وعسكريين محترفين ، ومهنيين مخلصين ، ومعلمين تربويين ، واطباء مختصين ، ومهندسين محدثين ، ومعماريين مبدعين .. ؟ كم نحن بأمس الحاجة الى علماء وادباء وفنانين قديرين ، ومفكرين مصلحين ، وفقهاء كبار مرجعيين محترمين بدلا من ملالي ورجال دين ساذجين ؟ كم نحن بحاجة الى كوادر من المهنيين والحرفيين والعمال الماهرين والفلاحين المنتجين ؟ كم نحن بحاجة ماسة الى مدربين ومخترعين وطيارين وملاحين ولاعبين رياضيين .. ؟ وغيرهم كثير .
سابعا : : ضرورة التحولات
ان مائة سنة مّرت على مجتمعاتنا ، ودولنا المهترئة تسرع في تخريج كوادر عريضة لا تعتني بنوعياتهم بل تهتم بحجوم اعدادهم الكبيرة ، فاختلط فيها الاخضر بسعر اليابس .. ولم يكن الانسان المناسب في مكانه المناسب في اي يوم من الايام .. فضاعت ازماننا عبثا ، وفشلت خططنا جملة وبدأنا نعيش فوضى قيمية ، واستهلاكية قاتلة .. وكانت مجتمعاتنا ولم تزل تعيش حياة صاخبة يأكل القوي فيها الضعيف .. وتنتشر فيها الرشوة والمحسوبيات والعلاقات القبلية او المحلية او الحزبية او الايديولوجية او القرابية غير النظيفة وحتى المساومات اللااخلاقية .. فمتى تتخلص مجتمعاتنا من أمراضها وتخلفها ؟ من تأخرّها وانعزالياتها ؟ متى تعي مسؤولياتها التاريخية ؟ متى تجري تحولات جذرية في دولنا وتشريعاتها كلها ؟ متى تتحول الحياة في الشرق الاوسط نحو الافضل ؟ متى تترسخ المفاهيم الحقيقية لـ " الديمقراطية " واعتبارها ظاهرة حكم الشعب لا حكم الاغلبيات ؟ متى يتخلص المثقف الحقيقي من شقاء الوعي ، ومن ازمة الكبت ، ومن هوس التناقضات ، ومن الشعور بالضعة والحرمان وهو يعيش مأساة مجتمعاته وتراجعها المخيف ؟ متى تتوازن الحياة وتتخلص من تناقضاتها المرعبة ؟ متى تتخلّص مجتمعاتنا من الفقر والجوع والمرض ؟ متى يترسّخ التفكير النسبي في ذهنيات الناس ؟ ومتى يتم التخلص من الذهنيات المركبة ؟ ومن الانتماءات المتعددة ؟ ومن ازدواجية المعايير ؟ متى يتم ّ التخلص من عقدة الخواجا ؟ ومتى يتم التخلص سلطة المرجعيات الوهمية ؟ متى تعيش مجتمعاتنا حياة كريمة صالحة وعادلة منتجة ؟
ثامنا : واخيرا : هل ستعيد الاجيال القادمة ما اقول ؟
نعم ، واخيرا : متى يتجّذر الحوار الحضاري بين مجتمعاتنا حول مختلف القضايا الشائكة والاختلافات المعقدّة ؟ ان اي قارئ من القراء الكرام ، يريد ان يستفسر عن اية مشروعات للتطور والتقدم والبناء ، فعليه مراجعة ما كّنا قد نشرناه سابقا على امتداد سنوات مضت حول المثقفين بنية وفلسفة وخطابا .. اقول عندما تتوازن الحياة في مجتمعاتنا ، سيقبض الناس على الزهر ، ويخرجوا به الى العالم بعد ان قبضوا على الجمر طويلا ! فهل ستعالج اوضاعنا على ايدي الجيل القادم ، ام ستنتقل من سيئ الى أسوأ ، وتعيد الاجيال القادمة مثل هذا الكلام بعد خمسين سنة من اليوم تناشد من اجل بدائل اقوى ؟ هل ستغدو افضل حالا من اليوم ليشاركوا العالم ابداعاته ومنتجاته باساليب الالتزام الحضاري ؟ ام تبكي ( امجادها التليدة ) التي صنعها الاباء والاجداد في القرن العشرين ؟
نشرت على موقع الدكتور سيار الجميل يوم 24 نوفمبر 2008
www.sayyaraljamil.com