المرحلة الثانية من (محاور في المقام العراقي) 2009 المحور رقم 4
محاور في المقام العراقيدراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي
يـكـتبها في حلقات
مطرب المقام العراقي
حسين اسماعـيل الاعـظمي
الاردن / عمـَّان
كانون الثاني January 2009
اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المرحلة الثانية من (محاور في المقام العراقي) التي تم نشر تسعة عشر محورا في المرحلة الاولى من العام الماضي 2008 ، وها نحن نستهل عامنا الجديد 2009 بالمحور رقم (1) والمحور رقم (2) والمحور رقم (3) تكملة لمحاور المرحلة الاولى واستهلالاً للمرحلة الثانية .. وهذا المحور رقم (4) مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من حلقات المحاور في مرحلتها الاولى والثانية أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم
***
أو الذهاب الى موقع كوكل google والبحث عن (محاور في المقام العراقي) او (محاور في المقام المرحلة الثانية) حيث تجدون كل المحاور منشورة في المواقع والشبكات الالكترونية مع الشكر والتقدير لكل اخوتنا واصدقائنا في هذه المواقع والشبكات
المرحلة الثانية
من المحاور المقامية
المحور رقم
(4)
Hussain_alaadhamy@yahoo.com
00962795820112
المحور رقم
(4)
*********
مائدة نزهت
فنانة القرن العشرين
(1937 - ......... )
إذن حان وقت وصولنا في بحثنا هذا بالكتابة عن الفنانة الكبيرة مائدة نزهت , وهذا يعني إننا وصلنا في الكتابة الى قمة كبيرة في فن الغناء النسوي في المقام العراقي , وكما ترتبط اسماء قمم اخرى في الغناء العراقي عامة , في اذهاننا واحاسيسنا , باسماء فنانين اعلام مثل ناظم الغزالي ومحمد القبانجي , حضيري ابو عزيز , يوسف عمر , داخل حسن , ناصر حكيم , سعيد عكار , وولده جبار عكار ... يرتبط اسم الفنانة مائدة نزهت بأذهاننا واحاسيسنا ... ولا عجب من ذلك ... فأن التنوع البيئي في العراق يزيد من غزارة غنائنا وموسيقانا في نبوغ تعابيرنا ورقيها وابداع في الشكل ورهافة في المضمون الغنائي وبحيوية ندر ان نجدها في بلد اخر .
لقد كان لتفاعل المطربات المقاميات في مقاماتهن واغانينهن مع فن غناء المقام العراقي .. ان خلـَّفت المرأة لنا فناً وفكراً مقامياً عراقياً مثيراً .. وهو ما فتيء منذ زمن قارب المائة عام مرَّت على التجربة النسوية فيه .. وليس من ضعف في شأن الغناء المقامي بصورة عامة ، اننا نجهل عنه الكثير ، ولكن لا يستقيم لنا عذر ان بقينا على هذا الجهل ... لأن فنون الشعوب متقاربة او متفقة في منابعها وافاقها الاساسية ... لكن تختلف في تعابيرها البيئية الخاصة ، وفي الاجمال فان كل الفنون تنبع من ثقافة العقل والقلب ، حيث يبقى التراث الفني يؤثر في وجدان الشعوب التي ينتمي إليها ذلك الفن ..
لم تكن المهمة هينة ويسيرة للفنانة مائدة نزهت في تجربتها الغنائية المقامية التي بدأتها بوقت متأخر من مسيرتها الفنية واستمرت بها عشر سنوات تقريبا ، وهي السنوات العشر الاخيرة في مسيرتها الفنية ، حيث اعتزلت الفن تماما عند انتصاف العقد الثمانيني من القرن العشرين ... وانهت مسيرتها الفنية بها .... قمتُ بتعليمها بعض المقامات التي وصل عددها حوالي عشرة , نتواجد يومياً ضمن الدوام اليومي في فرقة التراث الموسيقي العراقي كموظفين فيها ، ونشارك ضمن هذه الفرقة الرسمية في ارقى المهرجانات في العالم وعلى ارقى المسارح العالمية ... وقد سجـَّلتْ مائدة نزهت هذه المقامات بصوتها في الاذاعة والتلفزيون في بغداد ، وهي المطربة المتمكنة من فنها الادائي بصورة تلفت النظر اليها.. ان مسيرة السيدة مائدة نزهت الفنية .. مسيرة دائبة الصعود .. وهي سجل موثق لجهودها ومواهبها الفذة في الاداء الغنائي ..
الفنانة الكبيرة مائدة نزهت
من ناحية اخرى ، تعتبر الاغاني التي ادتها مائدة نزهت من افضل ما ادّيَ من غناء فني في (حقبة التجربة) التي كانت من نتائج التغيرات التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية في العراق . بل من افضل ما ادي في القرن العشرين في فن الاداء الغنائي . ومع ان مائدة كانت قريبة من جمهور الشباب ... غير انها سرعان ما ثبّتت نفسها كفنانة في ذهن ومشاعر جمهور واسع على وجه العموم ، خاصة من طبقة مثقفي المستقبل الذين لهم صلة قوية بجزئيات الاحداث اللاحقة في الداخل العراقي ... فلم تكن الحرب العالمية نفسها السبب الوحيد الذي اثر في نتاجات حقبة التجربة ... وانما تعدى ذلك الى ظروف العراق الوطنية والقومية التي مرت خلال النصف الاول من القرن العشرين ومنها اغتصاب فلسطين عام 1948 من قبل اليهود الصهاينة ... كل هذه الظروف ترسخت في ذهن ومشاعر جيل حقبة التجربة وهي الحقبة المحيطة بانتصاف القرن العشرين .
لقد كان هناك مطربون ومطربات اخريات ممن انتجوا اغان جميلة تعبر عن جماليات وفن هذه الحقبة مثل ناظم الغزالي وعفيفة اسكندر وسليمة مراد وصبيحة ابراهيم ورضا علي واحمد الخليل ولميعة توفيق وفاروق هلال وزهور حسين وعباس جميل وغيرهم الكثير باغانيهم الجميلة وشهرة بعضهم الطاغية ... وفي هذا الظرف الفني الذي يعج بالفنانين المشاهير ، ظهرت مائدة نزهت فنانة واعدة تتحدى , بعد جيل النصف الاول من القرن العشرين حيث لم يظهر اسم استطاع ان يغطي رقعة تاريخية كبيرة من الغناء العراقي مثل مائدة نزهت ،( لقد استطاعت هذه المغنية اللامعه أن تكون محوراً لنشاط كل الملحنين في كامل اللحنية العراقيه ، ومنذ عام 1954 والى يومنا هذا لم تظهر مطربه عراقيه واحده نافست مائدة نزهت في قليل او كثير , ولعل صوتها هو الوحيد بين الاصوات العراقية الذي كان له هذا الحضور وهذا الأقتران بمعايير القيمة والانجاز ، بل ان مائدة نزهت ارتبطت باغنى مرحلة من الغناء العراقي ونعني بها مرحلة – الاغنية البغدادية- فقد توهجت نبراتها الغنائية من تجسيد الكثير من الاعمال الفنية لاوسع دائرة من الملحنين ).
ان جيل هذه الحقبة ، يود ان يكتشف بنفسه الفزع والسأم اللذين جلبتهما له الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في النصف الاول من القرن وما بعده بقليل . اذ كان يود ان يحصل على تعابير غناسيقية تتسم بجماليات وتذوق جديد تصل به الى آفاق جديدة من التفكير والتأمل والتفائل ...
في الطريق بين باريس ومدينة ارل اقصى الجنـوب الفرنسي خلال استراحة الطريق يظهر فيها من اليمين سعد عبد اللطيف , مائدة نزهت , محمد مهدي , سامي عبد الاحد , محمد كمر , حسين الاعظمي – المؤلف – المطرب عيسى برواري , المطربة كلبهار , الجالسون حسن النقيب , مرافقة الوفد الفرنسية , جبار سلمـــــان . اكتوبر 1977.
لقد ظلت هذه الظروف التي مرت بالعراق خلال النصف الاول من القرن العشرين ، هي المؤثر الاساسي في كل نتاجات الغناء والموسيقى وجمالياتها الجديدة في حقبة التجربة.
كان المطرب الكبير ناظم الغزالي الرائد الاول الذي اتسمت اغانيه ببناء جديد للاغنية الحديثة العراقية على يد بعض الملحنين الطموحين مثل ناظم نعيم ووديع خوندة واحمد الخليل ، حيث اعتبر هذا منحا جديدا ومؤثرا في بناء الاغنية الحديثة في نتاجات المطربة مائدة نزهت من خلال زوجها وديع خوندة وبذلك فقد كان ناظم الغزالي ومن بعده مائدة نزهت رائدين في هذا المنحى في البناء اللحني للاغنية الحديثة وخير معبريـْن عن هذه الحقبة في التفكير والجمال والذوق . نيابة عن الملحنين وكتاب الاغاني الذين عاصروا هذه الحقبة من تطور موسيقانا .. ففيما يخص الفنانة مائدة نزهت فأن اغنيتها ( اصيحن آه والتوبة) منتصف الخمسينات وهي اول الحان الفنان احمد الخليل لها ، كانت قد عبرت عن جماليات هذه الحقبة بصورة واضحة الاثر ، حتى قدر لهذه المطربة وهذا الملحن ان يشتهرا من خلال هذه الاغنية التي كانت بداية حقيقية لهما معا وبداية طيبة لابداعات جديدة في خط تطور البناء اللحني الذي كان قد هيأ له وديع خوندة واحمد الخليل وناظم نعيم .. فقد كان الجمهور الذي استقبل هذه الاغنية قد وجد صورة ناطقة لابداعات هذه الحقبة .. وهكذا فان اغنية (اصيحن اه والتوبة) تضمنت عرضا موحدا متسلسلا لما كان من نتاجات اغاني والحان مائدة نزهت واحمد الخليل قبل ظهور هذه الاغنية .
ان اللغة والتعبير والبناء امور قد وجدت مقدماتها من قبل ظهورها , فمقومات اغاني مطربي الحقبة وفي مقدمتهم ناظم الغزالي ومائدة نزهت في اغنيتها ( اصيحن اه والتوبة ) " حيث يقول احمد الخليل ( من الفنانات الكبيرات في الغناء العراقي مائدة نزهت التي التقيت بها في الاذاعة سنة 1952 وقدمت لها لحن اغنية " اصيحن اه والتوبة " حيث ادخلت فيها ايقاعات خفيفة ) ومرتكزات مطربي الحقبة من جهة اخرى تعتبر اثار للظروف العصيبة التي مر بها العراق في النصف الاول من القرن وما بعده بقليل .. فالجماليات الجديدة من نتاجات الاغاني في هذه الحقبة , كلها كانت كافية لان تهيئ للجمهور العراقي الشيئ المؤثر حقا في نفوسهم , وكان اثر هذا كله ايضا , ايحاء للانطلاق من جديد نحو حياة نتاملها وازالة للغشاوة التي مرت على الشعب العراقي .
لقد جلب وديع خوندة معه الى بغداد عام 1957 خبرة لرؤية فكريه وجمالية عاشها في قبرص مذيعا في اذاعة الشرق الادنى الناطقة بالعربية . وكان بفطرته ذا رؤية ثاقبة في كل موهبة فنية بما في ذلك موهبته .. فمضى يكتشف ما تنطوي عليه تلك الموهبة بالنسبة اليه في جد وانتظام .. وبدأ عطاؤه الجديد الى الاجيال الجديدة بالحانة وملاحظاته وادارته لقسم الموسيقى وفسح المجال للقابليات الموهوبة الاخرى لتبدو النتاجات واضحة ..
اما الانسة مائدة نزهت وهي المطربة الجديدة فقد كان حظها اوفر من الجميع في تهذيب اغانيها وهندسة مسيرتها الفنية حيث كان الثامن عشر من اذار عام 1958 موعدا لزواجها بهذا الفنان الموهوب وديع خوندة ، وبذلك بدات مائدة نزهت مرحلة جديدة وجدية في هندسة مسريها الفنية . ومن هذا التاريخ ايضا نلاحظ ان نشاط مائدة نزهت الفني قد بدا يستقر بصورة تدريجية . واصبح اقل من السابق , ولكنه اصبح نتاجا اكثر اتزانا وافضل رصانة واحسن تهذيبا . فحفلاتها الخاصة قد انعدمت او شبه ذلك ونشاطها الانتاجي امسى اكثر دقة وانتظاما .
صورة / المطربة مائدة نزهت تتوسط زميلها وزميلتها المطربين حسين الاعظمي – كاتب المحاور–
، وكلبهار , باريس – في حدائق كنيسة نوتردام الشهيرة اكتوبر 1977.
على كل حال , ومهما يكن من امر , فاننا نستطيع ان نلاحظ ان جميع تجارب الفنانة مائدة نزهت الغنائية كانت آية في ملائمتها لتطور فنها الغنائي , وآية في ملاءمتها لظروف حقبتها .. فالموضوعات التي كانت تطرقها لم تكن خاصة بالمرأة فحسب , وانما هي جزء من متطلبات الحقبة او هي انعكاسات لها , فاغانيها الاولى نحس فيها عمقا لمشاعرها الجياشة , وهي مشاعر طافحة بالحب , حب الحبيب وحب الوطن , خاصة بالحان احمد الخليل مثل اغاني ... اصيحن اه والتوبة – يللي تريدون الهوى – فد يوم – اتمنى تجي يمي – دجلة والفرات – عليك الروح يااسمر – اسال كلب اليهواك – كالو حلو كل الناس تهواه – البصرة – همي وهم غيري ... وغيرها من اغاني الملحنين الاخرين . مثل الملحن رضا علي في اغاني اسألوا لا تسالوني – ياناري – يكولولي توبي – مر يا اسمر مر – واغنية محبوبي الغايب – والروح محتارة – لناظم نعيم – او اغنية - خلهم يكولون – ياحليوة عجايب – لعلاء كامل .. واغاني اخرى – سامبا بغداد – نسمات رومبا – ورد الخدود – وينك – من يدري – قفوا هنا – تاليهة وياك – احبك لا – ام الفستان الاحمر – لوديع خوندة – او اغنية – انا الوطن – لعبد الحليم السيد – وغيرها من الاغاني التي كانت سجلا متسلسلا او تذكيراً بالحاجة للتعبير عن العقد الخمسيني من حقبة التجربة على وجه التحديد . فمن ناحية نلاحظ , هناك اسباب الراحة والمتعة في حياة السيدة مائدة نزهت في هذه المرحلة خاصة بعد زواجها من الفنان الكبير وديع خوندة .. ومن ناحية اخرى .. نلاحظ هناك مجموعة من التجارب الاولى والمتنوعة غير المستقرة التي بدات تتسم بالانتظام والحكمة بعد استقرارها العائلي . والظاهر ان الفنانة مائدة نزهت لم تكن بعيدة عن اي تحليل صائب , فهي تتمتع بذكاء وقـّاد وشجاعة في الطرح وطموح وثـّاب الى الامام فلا استبعد انها وضعت نصب عينيها تجربة اغانيها التي اعقبت سنوات بداياتها او تجاربها الاولى .. ان هذا التناظر الواسع بين الذات والواقع وما يتركه من انطباع في شخصية السيدة مائدة نزهت , هو الذي تخلل عملية خلق نتاجات غنائية رصينة امتدت حتى نهاية مسيرتها الفنية .. ففي كل تجربة من تجاربها الغنائية , تاكيد لصحة هذه التجارب .
ولدت الفنانة مائدة جاسم محمد عزاوي في الكرخ من بغداد عام 1937 .. وهي واحدة من اربع بنات وولد واحد .. لامهم وابيهم .. حسنية – بدرية – سامية – مائدة – وخلف .. كان والدها ضابطا في الجيش العراقي .. فكان يتنقل مع عائلته حسب مكان عمله من منطقة الى اخرى في بغداد .. وفي مقتبل عمرها حفظت الاجزاء الاولى من القرآن الكريم عند الملا في ( الكتاتيب ) , ثم دخلت مدرسة الرصافة الابتدائية حيث شاركت لاول مرة في اداء الاناشيد المدرسية منتصف الاربعينات .. وبسبب القيود الاجتماعية الصارمة .. فقد كانت ترفه عن نفسها وتمارس هوايتها الادائية بمشاركتها الاداءات الدينية مع النساء من الاقارب والمعارف . وبسبب هذه القيود ايضا.. لم تستطع ان تدرس الموسيقى – وفي عام 1954 اعجب بها منير بشير وخزعل مهدي , فشجعاها على التقديم للاذاعة فخضعت للاختبار فنجحت نجاحا باهرا ..
صورة / من اليمين محمد مهدي , سامي عبد الاحد , حسين الاعظمي – المؤلف – مائدة نزهت , جبار سلمان , عيسى برواري , في الخلف محمد كمر وسعد عبد اللطيف اكتوبر 1977,حدائق التروكاديرو قرب برج ايفل
لحّن لها ناظم نعيم اول اغنية ( الروح محتاره والدمع يجاره ) التي كانت تجربتها الاولى ، فلم ينتبه اليها جمهور كاف .. ولكن تجربتها الاخرى مع الملحن احمد الخليل في اغنية ( اصيحن آه والتوبة ) تعتبر منعطفا جديدا لها رفعها الى مصاف المطربات المعروفات , الامر الذي عمـَّق بداياتها , فقد اشتهرت هذه الاغنية واشتهر معها الملحن احمد الخليل والمطربة الواعدة مائدة نزهت ايضا.
من هنا نستطيع ان نحدد بداية جيدة لمائدة نزهت . اما اغانيها الاخرى التي اعقبتها فقد اثبتت نجاح وعلو كعب هذه المطربة القديرة . وخلال عملها في ستوديوهات الاذاعة فقد شاع بين الموظفين الفنيين اسم مائدة نزهت وفي النهاية اصبح اسماً فنيا اقترن باسمها – مائدة نزهت – بدلا من مائدة جاسم .. وكان ذلك منذ اول اغنية لها مع احمد الخليل – اصيحن آه والتوبة- وكان من شأن نجاح هذه الاغنية ان شجع الملحن القدير احمد الخليل لتلحين اغان اخرى نالت النجاح الباهر مثل – يللي تريدون الهوى – فد يوم اتمنى تجي يمي – دجلة والفرات – عليك الروح يا اسمر – اسال كلب اليهواك – كالو حلو كل الناس تهواه – همي وهم غيري - البصرة . وعن هذه الحقبة يقول عباس جميل في لقاء له بجريدة العراق الصفحة الاخيرة , اجراه فؤاد العبودي – ( قمت بتلحين اول اغنية لمائدة نزهت قبل ان تغني للاذاعة هي ( جاني من حسن مكتوب ) ضمن فلم دكتور حسن ربما كانت طريقها للاذاعة , بعدها غنت من الحاني يا كاتم الاسرار ) .
لفترة قصيرة ابتعدت فيها مائدة نزهت عن الاذاعة والوسط الفني برمته بسبب بعض المشاكل التي جابهتها من قبل بعض الفنيين والادرايين في اعتراضها لعدم اذاعة اغانيها وكان ذلك عام 1955 وهي لم تزل في بداياتها.. واستمرت الحالة حتى عام 1957 بعد ان عاد الفنان وديع خوندة من غربته وعمله في اذاعة الشرق الاوسط الناطقة باللغة العربية في قبرص وبيروت , وهو الفنان الذي اصبح اول رئيس لقسم الموسيقى في الاذاعة عند تاسيسه منتصف الاربعينيات بجهود منه وقرار من مدير الاذاعة زمنذاك المرحوم حسين الرحال .. وعن طريق الملحن احمد الخليل تعرف على مائدة نزهت حيث ذهبا معا الى اهلها لاقناعها واقناعهم بالعودة الى الغناء بعد ان اقتنع الفنان وديع خوندة بصوتها فقد اسمعه احمد الخليل اغنية ( اصيحن اه والتوبة ) باستوديو الاذاعة .. وفي هذه الزيارة تمت تسوية الامر وعادت مائدة الى الوسط الفني والاذاعة لتواصل نشاطها الغنائي .. لتبدا مرحلة جديدة من مسيرتها الفنية اتسمت بالنظام والاتزان والرصانة واستمرت هكذا حتى نهاية مسيرتها الفنية , ولتستمع عزيزي القارئ الى بعض اغاني هذه البدايات من الحان احمد الخليل مثل اغنية البصرة التي كتبت كلماتها فتاة دجلة واغنية يللي تريدون الهوى التي كتبها اسماعيل الخطيب واغنية يااسمر التي كتب كلماتها الشاعر عبد المجيد الملا واغنية فد يوم كلمات طالب القيسي . واغنية كالو حلو التي كتبها ابراهيم احمد واغنية اسال كلب اليهواك لناصر التميمي . في هذه الاغاني نلتقي لاول مرة بتعابير غنائية مفرحة مبتسمة طافحة بالحب والتفاؤل . ان هذا التأمل, وهذه التعابير المفرحة المتسمة بالشجن لمطربة في عقد الخمسينات وفي حقبة التجربة يقودنا الى الاعتقاد بأشياء كثيرة .. إن مثل هذه الكلمات المغناة وهذه الالحان وهذا الاداء, تجريب وتمرين ادبي وفني لحقبة تطورية تجريبية عند منتصف القرن العشرين وما يحيطه من عقود زمنية .. الا ان الامر كان كذلك .. فهكذا حكى لنا الواقع المعاش , وهكذا روت الوقائع والاحداث .. فهذا ما جرى , فلا يجب مناقشة ماهية الحدث بقدر مناقشة الاسباب والظروف المرافقة ومسألتي التاثير والتاثر, فمائدة نزهت التي تطورت فنيا من الحزن المباشر في التعبير الغنائي الى تعابير شجية مهذبة مبتسمة , في انتقالاتها تُحسِّسْ المستمع بمقدرتها الفائقة للتارجح بين الفرح تارة لتهز اوتار قيثارة المستمع فيتمايل طربا معها , وبين الترح تارة اخرى تأخذ بيدك مواسية معلّلَة ..! كانت قادرة على الفرح من الحزن , التي وضعت مائدة نزهت نفسها فيه كنموذج لفناني حقبتها , أي قدرتها تتجسد في تمكنها على الانتقال الانسيابي الهادئ من الفرح الى الحزن وبالعكس دون تحسس مشوب بالتنافر , فهي لم تنتقل من حالة انسانية الى حالة اخرى بقصد استعراض ممجوج , بل ان الظرف شحّذ موهبتها فقدحت وازدهرت عن سلاسة بديعة حباها الله بها.
صورة / امام مرقد المرحومة المطربة ام كلثوم , يظهر حسن النقيب , مائدة نزهت , حسين الاعظمي , محمود مرافق الوفد , 21/10/1977 .
صورة / اثناء جولة الوفد يوم 21/10/1977 , في القاهرة , بعد ان تمت زيارة قبور الفنانين في منطقة البساتين على ضواحي القاهرة , ام كلثوم , فريد الاطرش , اسمهان , عبد الحليم حافظ , الاهرامات , قلعة محمد علي , مرقد الرئيس جمال عبد الناصر , المتحف المصري .
وهذه إحدى أغانيها (قالو حلو)
وكذلك هذه الاغنية اسال قلب اليهواك
تعتبر الالحان التي اعطاها الفنان وديع خوندة لمائدة نزهت قبل وبعد زواجه منها بقليل انعطاف جديد في مسار الاغنية الحديثة في بنائها اللحني من حيث تنوع الكوبليهات مع المذهب , وهو يبين لنا ايضا خلجات كتاب الاغاني هذه , وهكذا كانت مائدة نزهت سيدة الموقف في حصيلة النتائج التي استطاعت ان تعبر عن مشاعر الملحن والكاتب معا ، وهكذا كان الاتفاق التعبيري لمجموعهم .. ومن هذه الاغاني مثلا اغنية يم الفستان الاحمر التي كتب كلماتها الشاعر عبد المجيد الملا واغنية - احبك لا - التي كتبها اسماعيل الخطيب واغنية تجونة لو نجيكم من كلمات رشيد حميد واغنية تاليها وياك التي كتبتها امل سامي واغنية نسمات رومبا وسامبا بغداد التي كتبها حسن نعمة العبيدي واغنية وينك التي كتبها وديع خوندة نفسه ولنستمع معا الى بعضها .
اغنية يم الفستان الاحمر
اغنية تاليها وياك
لطالما استمتعت بذكريات فنيه عشتها مع السيدة مائده نزهت وقد ضمتنا فرقة التراث الموسيقي العراقي التي اسسها الموسيقار الراحل منير بشير مطلع السبعينات .. يلُفُّنا يوم وظيفي دائم طيلة اكثر من اثنتي عشرة سنة , لا نحس بثقل في دقائقة ولا غضاضه من لحظاته , فقد كنا اعضاء الفرقة جميعاً متآلفين محبين لبعضنا , واذكر ان علاقتي بالسيدة مائدة كانت قوية جداً وربما اقوى من علاقة زملائي الفنانين بها من اعضاء الفرقة, وكانت تأنس لمجالستي خاصة ونحن نتحدث عن شؤون المقام العراقي... فانت مع انسانة بمعنى الكلمة , تنبئك ابتداءً بنبلها وسمو مرتبتها و اخلاقها الجمة.. تبادلت الاخاء معها فأثمر عن تعلمها لمجموعة من المقامات العراقية قاربت العشرة مقامات .. اجادت بتفوق في تلقفها و استيعابها كاي مطرب مقامي وعى منذ نعومة اظافره على سماع وتعلم هذا الفن ، لم أعان في تعليمها.. فمنذ الوهله الاولى تتلقى الاصول التقليدية لغناء المقامات لتتفاعل في مكنوناتها العميقة , وقد باشرت في تسجيلها في الاذاعة والتلفزيون كما غنتها في المهرجانات الدولية من خلال مشاركات الفرقة الكثيرة خارج العراق.
أجدني عندما اذكر حقائق , استشعر راحة كبيرة , فمن هذه الحقائق تنجلي واخرى مغبونة منسية.. ومن الحقائق ان هذه المغنية الكبيرة غنت المقامات باصولها التاريخية دون الخروج عن ذلك احتراماً لهذه التقاليد الغنائية , ولما كان الخروج عن القوالب لاي فن تراثي محفوف بالمخاطر , فهو سلاح ذو حدين .. فقد استنكره غالبية المقاميين بحجة المحافظة على الاصول التقليدية .. وهو رأي تميل اليه الكثرة ، مع ان البعض حاول التملص من هذه الشرنقة العتيقة .. اما الاضافة فهي تناظر الخروج عن التقاليد بل هي من نتائجه .. ولما كانت مطربتنا قديمة عهد بالغناء , فقد اتاح لها عمرها الفني ان تصول وتجول لتخرج وتضيف جماليات ادائية ابداعية غاية في الفن والاتقان .. وعليه فهي اول مغنية مقامية غنت المقامات باصولها التقليدية , اي انها ادت الشكل المقامي (Form) وعبرت عنه بمضامين غنائية مقامية عراقية بغدادية .. ولو اضطررنا الى الاستشهاد فمن السهولة العودة الى مقاماتها , وليكن مقام الحويزاوي .. هذا المقام الذي سبق ان غناه الكثير من المغنين المقاميين , ولكن القلة فقط لم تستكن للروتين , وكان التقليد المهيب في الغناء المقامي , يمنع ان يؤدى مقاماً معيناً الا وقد انطلق من التقليد التام .. واول واهم مراكز التقليد هي ان تكون القصيدة المغناة ذاتها التي سبق ان غناها احد المغنين المشاهير وفي نفس المقام المعين . فمقام الحويزاوي الذي غناه المغني التاريخي محمد القبنجي , وبما لهذا المغني الكبير من سطوة هائلة على الجماهير فقد كان مقامه الحويزاوي له سطوه اخرى على مسامع واذواق المغنين والجماهير منذ ان سجله اذاعياً عام 1956 حسب ما قيل لي ، واعاد غنائه عام 1964 في مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية الثاني الذي انعقد في بغداد ، وهذه المرة سجل تلفزيونياً بحيث لم يجرأ اي من المغنين الاخرين ان يغنوا مقام الحويزاوي بعد هذا التاريخ الا بنفس القصيدة و نفس الاداء الذي اداه استاذنا محمد القبنجي , والقصيدة مأخوذة من كتاب الف ليلة و ليلة. ففي هذا المقام كمقاماته الاخرى كان القبنجي كطائر تاريخي من العصور القديمة يبسط جناحيه الهائلين صوب المشرق و المغرب , والكل تحت خيمته.. فمن يجرؤ على مجرد طرح رأي ولو كان بسيطاً.. !!
غنى القبنجي مقام الحويزاوي , فغزى القلوب والافكار والهب المشاعر في قصيدة لو كان قائلها حي يرزق لقدم الولاء والشكر والعرفان لهذا الفنان لانه خلدها بالفعل , اذ نفض غبار الزمن عنها واظهر بريقها الوهاج .. وتقول القصيدة ..
لما اناخوا قبيل الصــبح عيسهـم فحمــلوها و سارت بالهوى الابل
يا حادي العيس عرج كي اودعهـم يا حـادي العيس في ترحالك الاجل
اني على العهد لم انقض مودتهــم يا ليت شعري بطول البعد ما فعلوا
لما علمت بان القوم قد رحـــلوا وراهب الـــدير بالناقوس منشغل
شبكت عشري على رأسي وقلت له يا راهب الـدير هل مرت بك الابل
فحن لي و بكى وأنَ لي و شــكى وقال لي يــا فتى ضاقت بك الحيل
ان البدور اللواتي جئت تطلبهــا بالامس كانوا هنا و اليوم قد رحلوا
اتى بعد الفنان المبدع القبانجي في مقامه هذا وبالقصيدة التي اعتبرها المؤرخون من القصائد الواحدة ، مغنون كثيرون ، غنوا هذا المقام (الحويزاوي) وبذات القصيدة بما فيهم المغنون الكبار ، فتساقطوا في هذا المقام كأوراق الخريف رغم جودتهم وعلوَّ كعبهم ما خلا اثنين من المغنين الذين لم تضعهم الجماهير المقامية ضمن قائمة مغني المقام العراقي ..!! وهو امر ليس عادلاً ... لان الجماهير تنظر اليهما على انهما مغنيان للاغنية الحديثة ، فكان اولهما فنان القرن العشرين ناظم الغزالي الذي تجاوز التقاليد فابدع في الغناء الحديث والغناء المقامي بصورة فنية لم يسبق اليها مثيل فكان اول مطرب عراقي استطاع بفنه ان ينشر المقام العراقي والاغنية القديمة (البسته) الى كل ارجاء الوطن العربي وخارجه ، دون الاعتماد على عكازات من تعابير ادائية غنائية تعود لبيئات اخرى غير عراقية ... ولم يأت بعده الا واستند على تعابير من هنا وهناك ليصل بفنه الى الخارج ... فمن شعر البهاء زهير غنى ناظم الغزال مقام الحويزاوي ، وهو اول حويزاوي يخرج عن التقاليد التي اعتاد بها المغنون ان يؤدوا مقام الحويـزاوي ، نفس حويزاوي القبانجي نصاً شعرياً ولحناً دون زيادة او نقصان ، ولكن الغزالي قد فعلها وغنى هذا المقام بقصيدة اخرى ومسارات لحنية بتعابير مغايرة لما جاء في مضامين تعابير القبانجي وبهذا يكون الغزالي في هذا المقام قد انجز ابداعاً اخر في سلسلة ابداعاته الكثيرة ولنستمع اليه في هذا المقام بقصيدة البهاء زهير :
وقائلة لمــا اردت وداعهــا حبيبي أحقاً انت بالبين فاجعــي
فيارب لا يصدق حديث سمعتـة لقد راع قلبي ما جرى في مسامعي
وقامت وراء الستر تبكي حزينة وقد سترته بيننا بالاصابـــــع
بكت فارتني لؤلؤاً متناثـــراً هوى فالتقته من فضول المقانــع
ولما رأت ان الفراق حقيقـــة واني عليه مكره غير طائــع
تبدت فلا والله ما الشمس مثلها اذا اشـرقت انوارها في المطالـع
تسلم باليمنى علي اشــــارة وتمسح باليسرى مجاري المدامـع
وما برحت تبكي وابكي صبـابة الـى ان تركنا الارض ذات نقائـع
ستصبح تلك الارض من عبراتنا كثـيرة خصب رائق النبت رائــع
هذا وقد غنى ناظم الغزالي بعد انتهائه من غناء هذا المقام اغنية (وشبان مني ذنب) وقد غنى ايضاً خلال سير الاغنية ابوذيه بطور المصلاوية وسلَّمُها الحجاز وهو نفس سلم مقام الحويزاوي وهذه هي الابوذيه .
يمين اقســـم بالشمــــس وضحــاها
غرامـــك اثــــــر بروحي وضحاها
حبيبي انجان الـــك فكــــرة وضحاها
دخيـــــــلك لا تخليهــا خفيـــة
اما التجربة الثانية فهي للمطربة الشهيرة مائدة نزهت , حيث غنت هي الاخرى مقام الحويزاوي باسلوب فني مغاير تماماً لاسلوب مطرب الاجيال محمد القبنجي و مغاير ايضاً لاسلوب فنان القرن العشرين ناظم الغزالي, ولم يكن ذلك لمرة واحدة بل كررت ذلك مرتين و بقصيدتين جديدتين مختلفتين ففي المرة الاولى غنت الفنانة مائدة نزهت مقام الحويزاوي بقصيدة عبد المجيد الملا.
يا من هواه اعزه و أذلنــــي كيف السبيل الى وصالك دلنــي
واصلتني حتى ملكت حشاشــتي ورجعت من بعد الوصال هجرتني
الهجر من بعد الوصال خطيئــة يا ليت قبل الوصل قد اعلمتنــي
انت الذي حلفتني و حلفت لــي وحلفت انك لا تخون فخنتنـــي
وحلفت انك لا تميل مع الهــوى اين اليمين و اين ما عاهدتنـــي
فلأقعدن على الطريق و أشتكــي واقول , مظلومٌ وانت ظلمتنـــي
ولأدعون عليك في غسق الـدجى يبليك ربي مثلمــا ابليتنــــي
وقد تحدثت عن هذا المقام في كتابي السابق( المقام العراقي الى أين؟ ) صفحة 86 ، وفي المرة الثانية اثبتت الفنانة مائدة نزهت امكانياتها الابداعية وغنته بقصيدة الشاعر المخضرم حافظ جميل بأجمل ما يمكن ان يكون.
وا عظم بلواك من هم تعانيــه ومن جوى ألم في النفس تخفيــه
لله آهتك الحرى اذا انبـــعثت عن لاعج في سواد اللــيل تذكيه
في كل زفرة حزن منك تبعثـها مشوبُ نار على الاكبــاد تلقيـه
يا راهباً و ظلام الليل معبــده حتى م تقرع حــزناً في دياجيـه
وهل سألت دفين الوجد لا تركت آلامه فيك او ابــــقت مآسـيه
يا قلب هْبكَ نسيت الجرح ملتئماً هل انت من ألم المكبوت ناســيه
بهذا الغناء لهذا المقام , صفق لها المبدعون وهلل لها المتذوقون , ليس فقط على اداء متميز , بل لجرأة وإقدام , ورفضها البقاء اسيرة .. ورغم كل ذلك لا يعتبرها التقليديون هي وزميلها الغزالي مغنون مقاميون !!! وربما يكون الامر طبيعياً بالنسبة لهم باعتبارهم تقليديين يرفضون كل ابداع وتجديد .
اما بالنسبة لي فقد غنيت هذا المقام في بداياتي منتصف السبعينات بقصيدة للدكتور رشيد العبيدي وهي :
يا ظبية هام الفؤاد بحبهــــا هــلا رأفت بقلبي المجــروح
الحب للانسان برء من ظنـــى فــاراك سيدتي عصفت بروحي
وجدي اذا كتمته في جانحـــي قــالت حشاشاتي لعيني بوحـي
انا من يعيش على هواك مؤمـلاً واليــك في هذي الحياة جنوحي
إلفان ضمهما الحنين على المدى كحمـــامتين على ربيع سفوحي
وفي صدد اغنية – تاليهه وياك – اذكر اني كنت مرة خلال الدوام الوظيفي اليومي لفرقتنا ونحن نتمرن على بعض الاعمال الغنائية المقامية وابداء ملاحظاتي المقامية للفنانة مائدة نزهت وقد كنا في حضرة مقام الحكيمي وهو من سلم مقـام الهـزام .. وفي هذه الاثناء مال حديثنا الى اغنية – تاليهه وياك- وهي من نفس السلم حتى اخذت تغني ببعض مقاطعها التي ابديت اعجابي ببنائها الموسيقي وادائها المتقن الجميل فسألتها عن ظروف هذه الاغنية ... فكانت ان اجابت بصراحة وجراءة فقالت (في هذه الفترة كنت على علاقة حب طاهر نقي مع الفنان وديع خونده ، وكان ذلك قبل زواجنا طبعاً ، كنت كمراهقة غرة ، لا يهمها كتمان مشاعرها وكان قد لحن لي هذه الاغنية فعند تسجيلها في ستوديو الاذاعة كان وديع موجود في كونترول الاستوديو جالساً مع المخرج وكنت انا في ذروة مزاجي الغنائي ومشاعري الجياشة مما جعلني اغني بكل الصدق والجودة فكان ان نجحت هذه الاغنية نجاحاً كبيراً ليس فقط لجمالها بل لمستواها الراقي في الكلمات والبناء اللحني والاداء الغنائي ) . وبذلك يمكننا ان نقول من جانب اخر ان هذه الاغنية سجلت قبل عام 1958 وهو عام زواجهما واليك عزيزي القارئ كلمات الاغنية ونوتة لحنها ...
من الالحان الاولى لملحنين اخرين التي غنتها مائدة نزهت والتي ترتبط من الوهلة الاولى بتعابير حقبة التجربة مثل اغنية ياحلو التي كتب كلماتها خزعل مهدي واغنية ياهوانا التي كتبها غازي جميل واغنية يمسيرين الهوى التي كتبها حسن ترجمان واغنية محتارين لداود القسام واغنية محبوبنا الغايب لجبوري النجار واغنية لاتبجين ياعين لعبد الستار القباني التي لحنها جميعا ناظم نعيم واغاني اخرى مثل اغنية يكولولي توبي لمحمد حسن الكرخي واغنية يم العباية الجاسبي لعبود السوداني واغنية يابوية اشتريني لحميد النجار واغنية انتظار لعباس العزاوي التي لحنها جميعا رضا علي واغاني اخرى مثل اغنية خلهم يكولون لهلال عاصم التي لحنها علاء كامل واغنية يحليوة عجايب لنفس الكاتب والملحن . وأغنية - نعم هالي سمالي- التي كتبها جعفر الاديب ولحنها سعد شعبان واغنية على كيفك لوليد جعفر ولحن محمود الكويتي وغيرها من الاغاني الاولى في بداياتها التي عكست واقع الحقبة الزمنية من تطور موسيقانا والتجربة المستمرة في ذلك .
اغنية اسالوا لاتسالوني
اغنية لو ما الهوى التي كتبها سبتي طاهر ولحنها الملحن اللبناني عفيف رضوان . واغنية كاعد على دربكم التي كتبها حسين علي ولحنها الملحن اللبناني عفيف رضوان ايضا .
في خضم الاحداث والمشاكل التي كان يعج بها العراق اواخر العقد الخمسيني وبداية العقد الستيني وبسبب مضايقات معينة, سافرت مائدة نزهت مع زوجها وديع خوندة عام 1962 الى بيروت , وهي المرة الاولى التي تسافر فيها خارج العراق , وفي بيروت بدات مرحلة جديدة من مسيرتها الفنية فقد كان زوجها على علاقة ببعض الصداقات مع الفنانين اللبنانيين والعرب منذ ان عمل في اذاعة الشرق الادنى . مثل عبد الحليم حافظ بواسطة محمد عبد المطلب الذي كان صديق وديع خوندة في بغداد وتعرفت على اعضاء الفرقة الماسية وهدى سلطان ولبلبة ونجاح سلام وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وغيرهم . وفي هذه الفترة من اقامتهم في بيروت لحن لها زوجها اغنية يا خوية ويا احلى خي التي كتب كلماتها زين شعبي .
في هذه الاثناء وبعد تحسن وضعهما واستقرارهما , قاما بسفرة سياحية الى اوربا عادا بعدها الى ارض الوطن عام 1963 ثم اضطرا للعودة الى بيروت ثانية وبقيا هناك , وفي عام 1964 انجبت مائدة ابنها البكر- اياد – وبعد ذلك باشرا مرة اخرى نشاطهما الفني وقد ذهبا الى سوريا التي فتحت ابوابها لهما , ولكنهما بقيا في دوامة من الذهاب والاياب بين سوريا ولبنان , ونشاطهما الفني مستمر وقد ساعدهما الفنان الكبير الفلسطيني الاصل حليم الرومي حيث كان مسؤولا عن الموسيقى في الاذاعة اللبنانية , وقد لحن لها بعض الفنانين العرب منهم حسن غندور وعفيف رضوان وخالد ابو النصر وسعدون الراشد والكويتيان عوض دوخي وحميد الرجب بعد ان سافرت الى الكويت لفترة معينة .
في سوريا سجلت مائدة نزهت بعض الاغاني للاذاعة وكذلك شاركت في احتفالات الوحدة الثلاثية بين العراق ومصر وسوريا. . وكانت اغنية اسألوه لا تسالوني اسألوه من بين الاغاني التي شاعت واخذت شهرة واسعة وكذلك اغنية يا خوية ويا احلى خي .
في عام 1968 , عادا الى ارض الوطن , وحال عودتهما باشرا نشاطهما الفني فكانت اغاني عديدة مثل اغنية ( قفوا هنا) التي كتبها عبد السلام ابراهيم ولحنها وديع خوندة واغنية (عراق التاميم) التي كتبها ناظم السماوي ولحنها ياسين الشيخلي وقد لحن لها محمد سلمان اغنية (شمس بغداد) واغنية (حبيبتي بغداد) للشاعر شفيق الكمالي والحان وديع خوندة .
نستطيع ان نلاحظ تطور وتنوع اغانيها التي تلت البدايات الاولى مثل اغنية (ياقلبي لتكول التوبة) التي كتبها فوزي ابراهيم واغنية (مرحبا بالجاي لينا) – التي كتبها صباح سلمان واغنية (حبي وحبك) التي كتبها سعدي معيد ولحنها جميعا محمد نوشي واغاني اخرى مثل اغنية (سالت عنك) التي كتبها عبد الكريم مكي واغنية وحدوية لداود الغنام واغنية سلام لغازي مجيد التي لحنها فاروق هلال كلها . واغنية (ورد الخدود) كتبها انيس ابي رافع واغنية( ياخية ) التي كتبها ابو رياض, واغنية (من يدري) لعبد المجيد الملا , واغنية (حن) لامل سامي , وقصيدة (بان الاخلا) للشاعر جرير , واغنية (المكتوب) لعبد الله المعروف , وكلها من الحان وديع خوندة واغاني اخرى مثل اغنية (هذا آنة الوطن) لخالد الشعري ولحن عبد الحليم السيد , واغنية (ياشاغلني) للشاعر احمد رامي ولحن جميل بشير , اغنية (حب الناس) لمحمد عمران , ولحن عبد الفتاح حلمي , ومن الحان رضا علي , اغنية (حمد يا حمود) التي كتبها خزعل مهدي , واغنية اخرى لحنها محمد عبد المجيد وكتبها كريم العماري , (شوكنه) وكذلك اغنية (لا تعتذر) لخليل الخوري , ولحن سالم حسين , اغنية (حلم اخضر) لمحمد هاشم , ولحن عباس جميل واغاني اخرى ايضا من الحان ياسين الراوي مثل اغنية (يوم الفرح ) لغازي جميل , واغنية (دور بينا يا عشك) لزهير الدجيلي , واغنية (رد الحبيب) لعلي الربيعي , واغنية اخرى (سنبل الديرة) , التي كتبها كريم العماري , واوبريت غنائي من الحان محمد جواد اموري , واغنية (نعم) لحن عبد الجبار الدراجي , واغنية (لا باس يا ترف) لعوض دوخي, واغنية (لا يا هوى ) لكاظم عبد الجبار , ولحن طالب القرغولي , واغنية (حنان عيونك) لحامد العبيدي , ولحن جميل سليم, ومن الحان احمد الخليل , اغنية (هلها يومولي الهلا) لكاظم العبودي , واغنية (عالي الجبل) لعبد الجبار العاشور , واغنية اخرى وانا المحروم لطالب خضير , ولحن جمال جلال , وقصيدة الفارابي الشوق والالم لحنها سالم حسين , واغنية (الحاصودة) لذياب كرار , لحنها كوكب حمزة , واغنية (نذر) لعلي الحلبي , ولحن عبد الحسين السماوي , واوبريت غنائي لناظم نعيم , اغنية باب دجلة لحسن نعمة العبيدي , لحن عبد الكريم بدر , واغنية (بشائر المنى) لصاحب خليل , ولحن كنعان وصفي , واغنية (تجونة لو نجيكم) لرشيد حميد ولحن خزعل فاضل , والحان كثيرة اخرى نرى فيها السيدة مائدة نزهت تكافح في سبيل نجاحات تلو نجاحات ومن اجل تحقيق ذاتها , فهي تريد ان تكون قريبة دائما من المجتمع , من الجمهور .. انه لشيء جميل ان نستمع الى اغنية تتضمن دلائل كثيرة من ترابط وتماسك ومحبة المجتمع , دون الحاجة الى مناقشتها وخير مثال لنا اغنيتها – تجونة لو نجيكم .
جمال جلال – فنان قدير من القومية الكردية, ولد في محافظة السليمانية 1938 – دخل معهد الفنون الجميلة وتتلمذ على يد الفنان غانم حداد – مارس الغناء وغنى كثير من الالحان ولحن الكثير من الالحان لنفسه ولغيره من المطربين .
كنعان وصفي – ولد في الموصل عام 1932 وهو من القومية الكردية – جاء الى بغداد ثم غادرها الى القاهرة عام 1952 وعمل هناك في التمثيل والغناء ومثل افلاما مصرية كثيرة مع مشاهير السينما مثل فريد شوقي ومحمود وشكري سرحان وعبد الله غيث ويحيى شاهين وغيرهم الكثير – غنى في مصر نشيد – بلادي بلادي – لسيد درويش وساعده على ذلك قوة حنجرته ثم عاد الى بغداد عام 1972 وبقي فيها حتى وفاته 2000 لحن الكثير من الاغاني والاناشيد الوطنية وابرزها قصيدة للشاعر سامي مهدي ( صدفة ) غنتها انوار عبد الوهاب .
باريس , مسرح معهد العالم العربي 13/1/1995 , من اليمين عبد الكريم بنيان , نزيه محسن , فلاح المصلاوي , حسين الاعظمي – المؤلف , محمد زكي , داخل احمد
الصورة في تونس, قاعة فندق المشتل يوم 1/8/1994,حفلة لقاء الوفود العربية جميعها قبل بدء سباق مهرجان الاغنية العربية الثالث الذي يقيمه اتحاد الاذاعات العربية . ويظهر من اليمين حسين الاعظمي – المؤلف – ( عضو لجنة التحكيم ) وبجانبه بعض المطربات المشاركات , سونيا مبارك ( تونس ) , دنيا بوبيا ( الجزائر ) , امل عرفة ( سوريا ) , سمية بعلبكي ( لبنان ) , انغام ( مصر ) , والمطربة الموريتانية .
اغنية تجونة لو نجيكم
صورة / - كاتب المحاور – يغني في حفلة تخرج الدورة الاولى لمعهد الدراسات النغمية العراقي ترافقه الفرقة المركزية لاساتذة وطلبة المعهد 13/6/1977 وعلى قاعة الشع
-
-
-
-
- وفي اغنية (لا يا هوى ) التي كتبها كاظم عبد الجبار ولحنها طالب القرغولي , نلاحظ انتقالة واضحة في التعابير الادائية تطفح بالفرح والغزل وهي توحي فعلا بانتقالة لاغانيها من اجواء الستينات الى اجواء السبعينات .
اغنية لا يـا هوى
وكذلك نلاحظ ذلك في اغنية (عيني يلولد) التي كتبها حسن الخزاعي ولحنها خليل ابراهيم .. ان افاقها توسعت لتشمل حجم التغيرات , ومن جديد نشعر بقربها من جمهور الشباب .
اغنية عيني يلولد
مرة اخرى نستطيع ان نلاحظ في اغنية (حلوين) من كلمات غازي مجيد ولحن ياسين محمد الراوي , ذلك التغيير الذي يوحي بسرعة الحياة في العقد السبعيني التي بدت اكثر من السابق .. ذلك التغيير الذي يظهر علاقة مائدة نزهت بالجمهور .. نوع من العلاقات المحفزة للتطور والتفاعل الحقيقي .. وفيها نحس ان الامر هو في الاساس اكبر من نجاح اغنية .. وقد يكون لهذه العلاقة الضمنية بين الفنان والجمهور في طبيعة الارتقاء بالغناء العراقي عموما وبالنتيجة تكون النجاحات كبيرة .. فاغاني مائدة نزهت توحي لنا دائما بافكار وجماليات متفائلة مليئة بالحياة .. ان اغانيها بصورة عامة في العقد السبعيني انتقال من حالة الى اخرى , من ظروف الاجواء المضطربة في السياسة والاقتصاد والاجتماع الى ظروف اوحت منذ البداية باستقرار واضح في هذه النواحي , الى الرغبة والتخلص من ظروف الانفعال الدائم .. الى التخلص من كل ذلك .. ولنستمع الى اغنية حلوين .
اغنية حلوين
ان هذا الخيال الجديد , والمنحى التعبيري المتجدد , في اغنية السبعينات , واعادة تنشيط الذات ضد القلق والاضطراب يذكرنا بحقبة التحول وشيخها الابداعي محمد القبانجي الذي كان منعطفا جماليا وتعبيريا في الاداء المقامي والغناء البغدادي . وهكذا فان مائدة نزهت تحاول بقوة وشدة للاقتراب من واقع الحياة الجديدة التي امسى يعيشها العراقيون بعد الثورة . وفي هذه الاجواء تبدو اغنية سألت عنك التي كتبها عبد الكريم مكي ولحنها فاروق هلال مناسبة الان للاستماع اليها .
صورة / الفنانون حسن النقيب , عبد الجبار الدراجي , باهر الرجب , حسين الاعظمي , ابراهيم العبد الله , مائدة نزهت , عباس جميل , ابراهيم محمد نادر , اغسطس 1979 مهرجان الجزائر الدولي .
لم تكن ابدا خيالات وتاملات مائدة نزهت الجديدة هذه بدون مبرر , او مجرد خيالات وتاملات خاصة . . فان اختيار هذه الخيالات والتأملات والتعابير المبتسمة اكثر من السابق والجديدة , تتحدد بمناسبتها للشيء الذي يراد الدلالة عليه , وقد دلت الحياة في العراق بعد انتصاف القرن العشرين على اطلاق ديناميكية جديدة لحياة العراقيين .. ان هذه التطلعات جميعها تصور لنا مزايا ايجابية في منحى تطور اغنيتنا الحديثة, ولا تدل لنا على الغموض والابهام , ومن زاوية ما , تبقى الامور مقرونة ايضا بوضع الشاعر والملحن ديناميكيا في النص الشعري واللحني اللـّذين يثيران اهميتهما مباشرة .. فتسيطر الخيالات المتفائلة عادة , وعلى هذا الاساس لدينا تعابير جميلة وجديدة في اغاني مائدة نزهت ومقاماتها التي بدت تجربتها فيها منتصف العقد السبعيني .. ويعتبر النموذج الاخير مثالا حيا لاستيعاب مائدة نزهت الخيالات الرئيسة لاجيال السبعينات وما تلاها, خاصة وهي تجرب تادية لون غنائي تراثي متسم بالتعابير الحزينة .. وهكذا فان مجرد سماع احد المقامات التي غنتها مائدة نزهت , يوفر لنا شعورا بشيء متحرك باستمرار وفي تطور دائم .. ان نتيجة التعابير المقامية الموصوفة اصلا بالحزن والانفعال وان يكن ذا شجن طروب .. توحي لنا بجنة اصيلة .. تحركها افكار وتطلعات المتفائلين , وغالبا ما تكون تعابير مائدة نزهت واقرانها من المغنين المعاصرين لحقبتها في التعابير وفي حالتها الدنياميكية , مندمجة ومتوافقة . .. وهكذا تكون لدينا اغنية معبرة عن تطلعات الشعب باجمعه .. ولنستمع الان الى احد مقاماتها التي غنتها في هذه الحقبة وليكن مقام الشرقي رست .
يا صاح وجهك علي بوَحشتي منــــــــهل
تميت حاير اناشد يا ربع منـــــــــــهل
كل الفرح ياولف بمواصلك منــــــــــهل
انت حبيبي وولفي احب ملـــــــــــــــكاه
يامن تجيب الفرح ويَا لهَنا مـــلكـــــــــــاه
من غير عطفك ادور عالفرح ملكــــــــــــاه
عطشانة روحي والكبت ابمبسمك منهــــــل
ملاحظة / كل الاغاني ونوطاتها التي وردت في هذا المحور موجودة في كتابي الموسوم (المقام العراقي باصوات النساء) الصادر في كانون الثاني January 2005 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ..