المسيحي والعنف بين منطق القضية و موقف المحبة والرحمة؟
لقد قرأت في الايام المنصرمة، وخصوصا بعد حادثة شهيد المسيحية المطران بولس فرج رحو، مقالات تدعو الى تحرك مسيحي مبرمج لاستخدام العنف وتكوين مجاميع مسلحة لحماية انفسهم والدفاع عن جماعتهم. ومع الخلط الكبير الذي يدور في أذهان هؤلاء بين حق "الدفاع عن النفس" واستخدام العنف لحماية الهوية خيط رفيع جدا يمكن ان يقودنا الى التهلكة والدمار الانسانيين. وهذا ما يريده مُستخدم العنف: ان يقود الاخرين الى منطقه والى اسلوبه حتى لا يبقى فرق بينه وبين الآخر. واذا كنا قد وصلنا الى الحد الذي نقول فيه بتكوين ميلشيات او مجاميع مسلحة مسيحية، فاتصور بانهم قد حققوا مآربهم وغايتهم: جرّنا الى مستنقع العنف والقتل والغاء خصوصية مسيحيتنا التي بذل اباؤنا أنفسهم من ا<ل ايصالها الينا نقية وطاهرة!!
فحالة الضعف والتشرذم الراهنة التي يعيشها بلدنا العراق على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والدينية طرحت تساؤلات عديدة على انساننا العراقي بصورة عامة والمسيحي بصورة خاصة وجعلته يطرح تساؤلات عن شرعية استخدام العنف. للأسف نعيش حالة اقتحم فيها "العنف" نفوسنا وبيوتنا وشاشات تلفزيوننا وبدأت تؤثر على تصرفاتنا ومواقفنا الاجتماعية والدينية وعلاقتنا بالآخرين! لذا فاصبح التساؤل عن موقف المسيحي المؤمن تجاه عمليات العنف السياسية والشخصية ضرورة ملحة: فهل من حق المسيحي او من واجبه استعمال العنف كمبادرة منه؟ او كردة فعل في وجه العنف (أي عنف) بما فيه العنف المبرر لمواجهة الظلم والدفاع عن الذات والكيان والوجود (الذاتي والطائفي والديني والوطني)؟ وهل العنف مطروح كوسيلة انسانية؟ وغيرها الكثير من الاسئلة. يبدو ان هذه الاشكالية قد قسمتنا الى كنائس ولاهوتيين ورجال دين. ولا أنوي تقديم كلمة الفصل في موضوع العنف، بل أريد أن انطلق من كلمة المسيح وتعليم الكنيسة وفهمها بابعادها التأريخية واللاهوتية وتأوينها لتناسب يومنا هذا.
نحتاج وقبل كل شيء الى تعريف "العنف" والاتفاق على مفهوم أولي له. "العنف" هو كل مبادرة تتدخل بصورة خطرة في حرية الآخر وتحاول سلبه حرية التفكير والرؤيا وتحوله الى أداة. أو بكلمات أخرى: هو فعل قوة يطال الآخر في شخصه وكيانه وفكره ومصيره وحقوقه وممتلكاته، أي في وجوده السياسي والاقتصادي والديني و الفكري. فهل من مبرر للعنف، وان كان من أجل الحق وفي مواجهة الظلم؟
العنف والإنسان
أبدأ فاقول بان "العنف" نظام مخالف لنظام الإنسان الطبيعي. فقد ميز أرسطو بين "فعل موافق لطبيعة الانسان" و"فعل عنيف": الأول يحاول أرجاع الأشياء إلى موقعها الطبيعي، في حين يعمل الثاني على إبعادها وتشتيتها (ارسطو ،عن السماء، الكتاب الأول، 8، 276 أ 22). هذا النوع من التشويه الذي يأتي به العنف، يمتد ليشمل مجالات قانونية وادبية واجتماعية وسياسية اوسع. فاستخدام العنف لتغيير واقع سياسي يقود في نهاية الأمر إلى استخدام عنف اكبر منه وهو فرض النمط السياسي الواحد على الجميع (كارل بوبر، المجتمع المفتوح وأعدائه، 1945).
لقد اعتقد بعض العلماء إن الإنسان يمتلك غريزة عدوانية توارثها من السلالة الحيوانية التي تحدّر منها، وهي لا تزال قائمة في أعماقه ولا يقوى عقله عليها (كونراد لورانز). إن هذا الموقف النفسي يبغي إضفاء صبغة الشرعية على المواقف الحياتية التي يستخدم الإنسان فيها العنف في تعاملاته مع الآخرين ومع الأشياء. إلا أن الدراسات العصبية الحديثة اثبت سطحية هذا التصور الذي يبغي التبسيط ويبين عجز الانسان عن البحث عن الأسباب الحقيقية التي تدفعه إلى استخدام العنف. فقد أكد فريق من العلماء المختصين بعلم النفس بعدم وجود الغريزة العدوانية في الإنسان وقالوا بوجود مجموعة من الإمكانيات السلوكية الفطرية التي تخولّه الحصول على ما يلبي حاجاته وتجنّب ما يعارضها؛ وبعض هذه الإمكانيات تتصف بالعدوانية التي تنشأ من تفاعله بحاجاته ووضعه ومحيطه الخارجي.
ان معنى ذلك هو: ان لا وجود لحتمية بايولوجية تقود الانسان الى استخدام العنف، بل سلوكاً يتأثر ويتلون بكافة العوامل المتفاعلة والمتصارعة في وضعه الراهن، من شخصي وظرفي واجتماعي وثقافي. لا يولد الإنسان عنيفاً بل يصبح عنيفاً. فالعنف ليس حتمية بايولوجية بل قضية مطروحة امام مسؤولية الانسان. ومن هنا أهمية التربية والتوجيه لمواقف الإنسان وخبراته وخياراته. أنا مسؤول عن نفسي وبنائها وتكوينها.
يسوع والعنف
لقد تصرف يسوع وكأنه يمثل فعل الله الأخير لخلاص الانسان. فقيمة افعاله ليست زمنية ومحدودة بتاريخه ومحيطه فحسب، بل انها افعال خلاصية تتسامى على الزمن لتشمل كل انسان في كل زمان ومكان. لقد اعتبر يسوع ان كلّ لقاء مع الآخر هو مواجهة، بل مجابهة تُمتَحن فيها ضمناً طاقته وقدرته على احترام حرية وكرامة كل منهما. ان كل من يسعى إلى فرض آرائه وخياراته بالقوة أو بالقهر ومن لا يعتمد عنصر الوقت (متى 13/ 24-31) أو الصداقة المسيحانية (يوحنا 4/ 1-42) للفوز بموافقة الآخر الحرّة، فذاك يهدم ولا يبني. فالعنف هو نفاذ الصبر في التعامل مع الآخر. انه اليأس من الانسان الآخر واليأس من الاقناع ببرهان الحجة واللجوء إلى البطش لفرض الانصياع. إذا كانت ميزة العلاقة الإنسانية إنها تقوم على الحوار والتفاهم والمواثيق المسؤولة، أصبح من المؤكد أن العنف هو ذاك اليأس من إنسانية الإنسان، حيث يهتك الإرهاب عهد التحاب بين الناس وينتهي اللقاء بالإفناء. فالقوي يخضع الضعيف، لا محالة، والذات المستضعفة تمسي ذاتاً مستعبدة.
1. يسوع يقاوم الشرّ
قاوم يسوع الشرّ والأذى حيثما كان. فخاصمته السلطات الدينية والسياسية آنذاك. لقد قاوم التزمت الفريسي وانتقدهم على تحميل الناس أثقال وأحمال، واستعبدت الإنسان بدلاً من تحريره وعتقه. لقد قاوم يسوع العنف السياسي الذي يمكن أن تمارسه السلطات السياسية. لقد رفض جذرياً تأليه السلطة وإكراه مواطنيها على الامتثال لها: "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (متى 22/ 21). لقد جُرّم يسوع بتهمة التمرد على السلطة السياسية، فصلب. لم يحرض يسوع على العنف ولم يرض على استخدامه من قبل تلاميذه: "رُد سيفك الى مكانه. فمن يأخذ بالسيف يهلك بالسيف" (متى 26/ 52).
يدل هذا على أن يسوع رفض استراتيجية العنف. أراد يسوع أن يوقف حلقة الشرّ المفرغة التي لا يمكن ان تكون حلاً لمشاكل الإنسان. إن موقف اللاعنف الذي يدعو إليه يسوع يفترض الشجاعة الأدبية التي تطلب تبريراً لعنف أصابه في حضرة رئيس الأحبار في قوس المحكمة: "إن كنت قد أسأت، وان كنت أحسنت فلماذا تضربني؟" (يو 18/23). وهكذا يكون يسوع قد رفض مجاراة عنف اخصامه، فرفض منازلة العنف بمثله. فيسوع يرفض العنف أصلاً، كما يرفض منطق استعماله. يفترض اللاعنف شجاعة أدبية. إن القوة الأدبية عند اللاعنفي القادر على الردّ والاستسلام هي الحد الفاصل بين جبانة الانهزام والاستسلام أمام بطش العنف، وبين التصدي له بغير أدواته.
2. يسوع لا يدين الأشخاص
لقد رفض يسوع دينونة الإنسان الآخر رافضاً استبدال العنف ودينونة الآخر بدل الرحمة. يؤمن يسوع بالإنسان وبالخير الموجود في داخله ولهذا فهو يؤمن بإمكانية الحوار والنقاش للوصول إلى الحقيقة. لم يدن يسوع السامرية ولا الخاطئة ولا العشارين ولا الزانية "اذهبي ولا تعودي تخطئين".ان يرفض امتهان كرامتهم بسبب أخطائهم أو بحجة اوظاعهم الاجتماعية، بل راح يخالطهم ويؤاكلهم ويتبين مدى أذى عنف مَن يرذلهم، فيحقرهم أو يهمشهم لاعتبارات ظالمة قاسية. يكمن منبت العنف، بنظر يسوع، في قساوة القلب وأطماع العين وإهانات اللسان، متى اصابت المحبة قلب الانسان تداعى العنف وعادت الوداعة.
3. يسوع ينقض العنف بصليبه
يشير موت يسوع على الصليب الى أن اللاعنف يؤدي بصاحبه متى كان صادقاً الى الاستشهاد دون قضيته السامية. ليس الصليب تبريراً للعذاب، ولا هو استسلام لشوكة الموت، ولا هو تعظيم محموم لأهمية الضحية. بل هو نقض للعنف الملتبس كل المظاهر. يفضح صليب يسوع جوهر وطبيعة كل سلطة هدامة، سياسية كانت أو دينية. ويفضح بالتالي كل نظام ظالم ومتسلط. لقد كشف يسوع عن محبة الله للبشر وعن منطق الحب الوحيد القادر على تخليص الانسان من حالة العنف الراهنة.
موقف المسيحي اليوم
امام الشاهد العنيفة التي نتعرض لها والتي تقتحم ضمائرنا من خلال شاشات التلفاز وقنوات الاقمار الصناعية المسيحي مدفوع الى اتخاذ موقف يذهب به بعيداً عن موقف يسوع الذي تكلمنا عليه. اني اتعجب من مواقف الكثير من الناس الذين يبدون وكأنهم وثنيون لم يسمعوا حتى ابسط كلمات الانجيل، وهذا ما يدفعهم الى أتخاذ مواقف تشبه لا بل تتطابق مع موقف كل من لم يعرف المسيح ولم يؤمن به. ان المخططات السياسية والغايات الاجتماعية اصبحت سبباً في العديد من مظاهر العنف التي تضرب بانسانيتنا وتفسد جيل اولادنا اخلاقياً.
ان رسالة الكنيسة النبوية في مجتمعنا العراقي هذا تحتم على الكنيسة اتخاذ موقف يدين العنف وكلّ ما يمكن ان يزيده او يدفع اليه. يجب على المسيح انطلاقاً من ثوابته الانجيلية وايمانه بالرب يسوع المسيح ان يدين أي فعل يحاول ان يحطّ من كرامة الانسان وقيمته الاعلى.
الاب سعد سيروب حنا
saadsirop@hotmail.com