Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

المقال الأخير للشهيد هرانت دينك: سأحارب رغـم التـهديـدات

اغتال شاب متطرّف الصحافي هرانت دينك في 19 كانون الثاني. في مقاله الأخير، يتطرّق إلى المضايقة التي كان يتعرّض لها يومياً، وإلى صمت الدولة وتحيّز العدالة. ويؤكّد في شكل خاص تمسّكه بتركيا. مجلّة "كورييه إنترناسيونال" (كذلك "قضايا النهار") توجّه تحيّة إليه من خلال اعادة نشر هذا المقال:

لماذا أدين هرانت دينك في حين أنّ كلّ الأشخاص الآخرين الذين مثلوا أمام المحكمة بموجب المادّة 301 أفادوا من قرار بعدم وجود وجه لإقامة دعوى بفضل حيلة قضائية؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه كاتب هذه السطور والأرمن إنّما أيضاً الرأي العام التركي. في حالة أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل للآداب، بحثوا عن ألف حيلة للتوصّل إلى قرار بعدم وجود وجه لإقامة دعوى، حتّى قبل بدء محاكمته. وشهدنا إجراء مماثلاً إنّما أكثر تبسيطاً في قضيّة الروائية إليف سافاك. فالمحاكمة التي بدأت بضجيج كبير، أُغلِقت منذ الجلسة الأولى حتّى من دون إرغام الكاتبة على الحضور. بدا الجميع راضياً. حتّى إنّ رئيس الوزراء اتّصل بها للتضامن معها. والأمر عينه ينطبق على الصحافيين والأكاديميين الذين شاركوا في المؤتمر الأرمني. لا تعتبروا الأمر غيرة من قبلي،
أريد فقط أن أفهم لماذا لم أُفِد أنا من العجلة التي أُغلِقت بها هذه المحاكمات.
غداة "دعوتي" إلى مركز الشرطة [من أجل تحذير مقنَّع]، شنّت صحف عدّة حملة تشير إلى معاداتي للأتراك، مستندةً إلى جملة من أحدى مقالاتي التي أتحدّث فيها عن الهوية الأرمنية: "الدم النقي الذي سيحلّ مكان الدمّ المسموم للأتراك يسري في العروق النبيلة التي ينبغي على الأرمن أن يمدّوها بينهم وبين أرمينيا". في مستهلّ التحقيق الذي بدأته النيابة العامة، لم أكن قلقاً. فقد كان بإمكاني الاستناد إلى ما كتبته وإلى حسن نيّتي. لو قرأ النائب العام مجمل المقال وليس فقط هذه الجملة المجرّدة من أيّ معنى خارج سياقها، لفهم بسهولة أنّه ليست لديّ أيّ نية لتحقير الهوية التركية، وتنتهي المهزلة هنا من دون المباشرة بدعوى قضائية. لكنّ النيابة العامة قرّرت خلاف ذلك.
على الرغم من هذا، بقيت متفائلاً إذ إنّني كنت واثقاً من أنّه في لحظة ما من المحاكمة، ستدرك المحكمة خطأها. وكانت مجموعة خبراء مؤلّفة من ثلاثة أساتذة من جامعة اسطنبول قد دعمتني في موقفي. لكنّ المفاجأة كانت أنّني أُدِنت. القاضي الذي نطق الحكم "باسم الشعب التركي" ثبّت شرعياً أنّني "حقّرت الهوية التركية". كنت لأتحمّل أيّ شيء إلاّ هذا. لذلك اخترت الاستئناف والتوجّه نحو المحكمة الأوروبية. وقرّرت أيضاً أنّه في حال لم أنجح، فسوف أترك بلدي لأنّ من يدان بارتكاب جريمة كهذه يجب ألا يكون لديه الحق بمتابعة العيش إلى جانب المواطنين الذين يحقّرهم.
ثبّتت محكمة الاستئناف الحكم على الرغم من طلب التبرئة الذي تقدّم به النائب العام الأوّل. وفي كل مرحلة من المحاكمة، كانت الصحف تورد الجملة نفسها باستمرار. فبالنسبة إليها، أنا هو القائل "دمّ الأتراك مسموم".
وفي كلّ مرة، كانوا يزيدونني شهرةً عبر تصويري بأنّني معادٍ للأتراك. في أروقة قصر العدل، كان الفاشيون يتهجّمون عليّ بشعاراتهم العنصرية.
ولم أكفّ عن تلقّي التهديدات بالبريد العادي والإلكتروني والهاتف. أشعر وكأنّني حمامة. أنظر يمنة ويسرة، أمامي وورائي، خجلاً مثل حمامة. ليس سهلاً أن يعيش المرء هذا كلّه، خصوصاً عندما تبدأ التهديدات باستهداف القريبين منه. في لحظات معيّنة، فكّرت حقاً في مغادرة البلاد. كانت عائلتي وأولادي يدعمونني وجاهزين للرحيل إذا قرّرت ذلك.
لكن إلى أين سنذهب؟ إلى أرمينيا؟ هل يستطيع شخص مثلي لا يستطيع السكوت عن الظلم، أن يسكت عن المظالم المرتكبة في هذا البلد؟ ألن أجد نفسي في وضع أصعب؟ أمّا في ما يتعلّق باحتمال أن أنفي نفسي إلى أوروبا، فهذا غير وارد. عندما أذهب إلى الغرب لتمضية ثلاثة أيام، سرعان ما أشعر بأنّني أختنق. أشتاق إلى بلدي وأتحرّق شوقاً للعودة إليه. إذاً البقاء في تركيا هو رغبتي الحقيقية وواجب عليّ احتراماً لآلاف الأصدقاء، المعروفين أو المجهولين، الذين يدعمونني ويناضلون من أجل الديموقراطية في هذا البلد.
لكن إذا اضطُررت يوماً إلى الرحيل... فسأنطلق على الطريق تماماً كما حصل عام 1915. سأحذو حذو أسلافي من دون أن أدري إلى أين أذهب. وسوف أسلك الدروب نفسها. وأشمّ الرائحة من جديد وأختبر العذاب. سأذهب ليس إلى حيث يقودني قلبي إنّما إلى حيث تقودني رجلاي. لا تهمّني الوجهة. آمل ألاّ أُضطرّ أبداً إلى عيش هذا التمزّق. حتّى ولو كنت أشعر بأنّني أشبه بالحمامة، أعرف أنّهم لا يؤذون الحمام في هذا البلد. فهو يعيش في قلب المدينة، حتّى وسط الجماهير البشرية. بالتأكيد إنّه خجول بعض الشيء لكنّه حرّ.
ترجمة نسرين ناضر
عن موقع طبن
Opinions