Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الملاية... سيدة النواح البابلي وبركان الشجن العراقي

تقول الأسطورة: أن الإله الأنثى (عشتار) ظلت عالقة في العالم الذي كان يطلق عليه تسمية العالم السفلي، عالم الأموات.. وحين حاول زوجها الإله( سين) أن يخلصها من ذلك العالم باءت محاولته بالفشل، حيث لقي مصرعه على أيدي عفاريت الشر،، فبعد أن منعت عنه الماء قامت بتحطيم رأسه بالفؤوس أمام أنظار عشتار... عندها صرخت في ذلك المشهد الدامي بأعلى صوتها تبكي وتنادي ((ويلاه ويلاه! ويلي عليك يا سين! لقد أختلط دمك بالتراب وعفر وجهك الأرض، يا فتيات! مزّقن جيوبكن وألطمن صدوركن، لقد قتل سين، يا سين!! يا سين!!)
صرخة عشتار كانت إيذانا لبداية عصر البكاء والنحيب على سين استمر أربعة آلاف عام ، كان العراقيون طيلتها يحيون ذكرى الصرخة والفاجعة كل عام خلال العشرة أيام الأولى من الشهر الذي قتل فيه ، حتى إن هذا الشهر سمي بتموز، و تموز من أسماء سين الحسنى الأكثر شهرة لدى البابليين وظل الاسم متداولا كما هو معروف منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، ولأن الإله سين كان يرمز له بالقمر فقد سمي اليوم الذي قتل فيه ( الاثنين) و يعني عندهم يوم القمر وظل اسم الاثنين هو الآخر معتمدا إلى الآن ومنه جاء ( مون دي) معروفا في كل أرجاء العالم..
يقول حزقيال كاتب التوراة في الإصحاح الثامن من سفره : (وجدت نساء يبكين على تموز)..و الإله سين أو كما يسمى تموز هو بحسب الرقميات الطينية المكتشفة ابن الإله (لو لو) ومعناه الإله( المذبوح)، فبحسب الأسطورة أن مجموعة الآلهة عندما قررت أن تخلق الإنسان من( الماء والطين!!!) كي يخفف عنها الكثير من المتاعب كانت بحاجة إلى دماء تجري في جسد الكائن الجديد وهذا ما دعاها إلى ذبح( لولو) إلا أنها ندمت فيما بعد على ما فعلت معتبرة إياه مظلوما كي تتحول القصة ذات المضامين الفلسفية إلى فاجعة لدى أهل شنعار (العراق)،، لكن فاجعة ابنه كانت هي الطاغية وان كانت طقوس العزاء على سين تموز لا تخلوا من ذكر أبيه (لولو) الذي انساب لفضه على لسان ألأكديين لينطق ( وي لاه ) مثلما جاء على لسان عشتار ثم أنساب الاسم مرة أخرى لينطق (يا ويل) لتبقى الكلمة حية إلى يومنا هذا معبرة عن الألم والحزن والحسرة تتردد اليوم في مراسم عزاء عاشورا(عشتار) وفي الأشعار والفنون وهي اليوم تستخدم على نطاق شعبي واسع.
من هنا جاءت فكرة( الملاية ) وهي فكرة أن تتولى إحداهن قيادة مجاميع النسوة في أماكن العزاء لإثارة الأحزان في نفوسهن وتحفيزهن على البكاء ضمن مراسم وطقوس تتجدد كل عام تحت لائحة الحزن على سين، هذه مهمتها الكبرى وهي لا تتولى غيرها ولا يمكن اعتبارها دينية كون المهام الدينية يتولاها الكهنة والراهبات في المعابد، حتى أن مهمة الرثاء على الأموات العاديين كانت تناط إلى ما يطلق عليها تسمية (الندابة)، وظلت الملاية تؤدي دورها هذا حتى بعد سقوط مملكة وادي الرافدين،عاصمتها بابل، على أيدي الإيرانيين ، فقد استمرت تقود النساء إلى النواح وتؤجج فيهن البكاء ولكن هذه المرة على رموز دينية عاشت فعلا على ارض الواقع، رموز غير أسطورية ومن خارج المخيلة العراقية ،أدى فقدانها وبشاعة نهايتها إلى فواجع وأحزان مما وفر ذلك بيئة لبقاء واستمرار ظاهرة الملاية وسيجري الحديث عن هذا لاحقا.
إلا أني لم اعثر على مصادر تشير إلى السياقات التي كانت تتبعها الملاية في طقوس العزاء على سين ، سوى أن مهارتها في اختيار الأشعار الحزينة على الحان الشجن التي تنشدها جعلت النساء يجهضن البكاء و يلطمن الصدور , ولا استطيع الجزم إذا كان اللطم وحده يشكل إيقاعا تتمحور من حوله الألحان ، أم أن ذلك كان مصحوبا بالات موسيقية كما هو الحال بالنسبة للرجال، وإذا عرفنا أن حكاية سين انطلقت من( سومر) جنوب البلاد قبل أن تذهب إلى بابل فسيكون من السهل الاعتقاد أن أداء الملاية كان برفقة الآلات لسببين: الأول أن السومريين اشتهروا بابتكارها سيما آلة القيثار التي أضحت اليوم آلة فريدة في الفنون الشعبية لدى شعوب شرق آسيا و أمريكا اللاتينية و الثاني أن ألحانها كانت عند السومريين تمتزج مع التراتيل الدينية خلال وجودهم في المعابد.
ولكن ثمة سؤال يدور في الأذهان:هل كانت حكاية سين تستحق كل هذا البكاء والنحيب واللطم والحزن لآلاف السنين؟ واحد أراد أن يخلص زوجته من ورطة فراح ضحية محاولته..ما الداعي إلى كل ذلك مع إن الحادث كان مؤسفا وربما تكرر ذلك الحادث مرات ومرات قبل الحكاية وبعدها، اعتقد أن القضية لا يمكن تحليلها على هذا النحو من التبسيط إذا عرفنا أن سين كان هو المنقذ والمخلص أي كان هو المنتظر بالنسبة للعراقيين وقتذاك،،كما هو( المسيح) المنتظر بالنسبة للمسيحيين والسنة،والإمام( المهدي) بالنسبة للشيعة الاثني عشر،و(إيليا) هو المنتظر بالنسبة لليهود،، هذا بالإضافة إلى أشياء أخرى كثيرة و مهمة ذات صلة بالإله سين لا تتعلق بالأحزان فحسب إنما أيضا بالأعياد والأفراح، ومن غير هذا وذك فان مجتمعا تسود فيه القنانة بمعنى أن الإنسان فيه يباع ويشترى ويتكالب عليه الكهنة والمالكون والملوك وتفتك به الأمراض والحروب وتعتدي عليه قوى الطبيعة دون رحمة فضلا عن تعرضه للمجاعة على الدوام..فان مجتمعا كهذا تكون فيه دموع الناس متأهبة حد الأجفان لا تحتاج إلا إلى من يحفزها على النزول.
بعدها تلاشت حكاية سين واضمحلت لأسباب منها: احتلال بلاد الرافدين وسقوط بابل على أيدي الإيرانيين المعتنقين للمجوسية،وتنامي المؤيدين لفلسفة التوحيد التي بشر بها النبي العراقي إبراهيم الخليل وهي تعد تطورا لكنه ضمن إطار الفلسفة المثالية، والسبب الأخير الذي أدى إلى اضمحلال الحكاية هو اجتياح الديانة المسيحية معظم مناطق البلاد،ولكن زوال الحكاية وعدم الإيمان بها فيما بعد لا يعني على الإطلاق زوال السياقات التي كانت تتبع في مراسم العزاء على سين أو زوال أبعادها الفلسفية،فقد ظلت هذه السياقات قائمة في مراسم العزاء على رموز الديانتين المسيحية والإسلامية فيما بعد.
لقد أعقب سقوط بابل حملة إبادة ضد الإنسانية شنها ملوك إيران كان أكثرهم وحشية الملك (شاه بور) في سلسلة هجمات استمرت عشرة قرون استهدفت حلقاتها الأخيرة المسيحيين وفي مراحلها الأولى العراقيين بوجه عام، وكان طابعها الواضح أعمال قتل جماعية. بعد أن اجتاح الدين المسيحي الجديد معظم مناطق البلاد،، حيث اقبل عليه العراقيون ردا على اضطهاد الإيرانيين إضافة إلى ما كان يحمله الدين من جديد،، راح ضحية أعمال التنكيل (مار ماري) تلميذ السيد المسيح ومشيد أول كنيسة في العراق، كانت عند المدائن جنوب بغداد حيث بكاه العراقيون كثيرا مع غبطة البطرياك( (شمعون) كبير الأساقفة وأعداد من الراهبات فضلا عن عشرات الآلاف من عامة المسيحيين ، في هذه الفترة كانت الملاية تؤدي دورها على وفق ما ورثته من سياقات ورؤى فلسفية سابقة، إلا أن سياقات تعذيب الجسد بالنسبة للرجال والنساء المعزين على أئمة المسيحيين وعلى المسيح نفسه تفاقمت في هذه المرحلة كأنها بمثابة رسالة تقول(ما قيمة جسدي إزاء ما تعرض له جسد المسيح وسفراءه من تعذيب)، أما أنا فاعتقد أن الشخصية العراقية كانت تتعاطف مع الشجاع الضحية أكثر من تعاطفها مع الشجاع الذي يحقق فوزا ساحقا،فسين ومار ماري والحسين وغيرهم كانوا شجعانا لكنهم في النهاية كانوا ضحايا،الأمر الذي يؤكد بشكل قاطع وجود دوافع سياسية لإقامة مراسم العزاء أو الاشتراك بها، أحيانا تكون الدوافع معلنة وفي أحيان أخرى مخفية تبعا للأجواء السياسية الأمنية وهذا ما يفسر إصدار الأوامر المشددة بمنع إقامة مجالس العزاء على الحسين ابتداء من الخليفة العباسي( المتوكل) وانتهاء بصدام حسين الذي راح أعوانه يبلغون الملايات واحدة بعد أخرى بقرار المنع .
الملاية في مرحلة العزاء على الحسين وهي مرحلة اتصلت تاريخيا بمرحلة الاضطهاد المسيحي استطاعت أن تعمل وفق الموروث المنقول من المرحلتين السابقتين وتكيفه من جديد وتضيف أليه أشياء أخرى أهمها استخدامها الشعر الحزين باللغة العامية الدارجة ،ما أدى إلى استمرار تدفق النساء على مجلسها على عكس خطباء المنابر الذين عادة ما يستخدمون اللغة العربية الفصحى إلا ما ندر، حتى أن إحدى السيدات حاولت مؤخرا إقامة مجلس عزاء نسائي على الطريقة الإيرانية وهي إن تجلس الخطيبة على المنبر تتحدث للنساء مثل الخطباء إلا أن محاولتها لم تلق قبولا أو استحسانا من جانب النساء فباءت محاولتها بالفشل، وبالمناسبة فان موطن الحسين( يثربو) أي يثرب (المدينة المنورة حاليا) أو المناطق المحيطة بها في الجزيرة العربية لم تشهد ظهور الملاية كونها مناطق بادية تخلو من مثل هذا الموروث.
في عصر الدولة العراقية الحديثة تصنف الملاية على قائمة المثقفات كونها تجيد القراءة والكتابة مقابل تفشي الأمية بين أوساط النساء في القصبات والمناطق الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية،كما تتمتع بمكانة اجتماعية مرموقه جعلتها تؤدي ادوار أخرى مثل القيام بوساطات لتسهيل الزواج أو حل النزاعات الأسرية وما بين الجيران أو الأقارب.
تنتقل الملاية من منزل إلى آخر ومن خلفها الراغبات في العزاء، وحال جلوسها في المكان المخصص للمراسم وعادة ما يكون في صالة المنزل الراعي للعزاء ،فان ذلك المكان يخضع بالكامل لسيطرتها ، تراقب ما يجري عن كثب قبل البدء بمراسم العزاء، ولها موقف متشدد من دخول الذكور إلى مجلسها,أتذكر أن الملاية( أم علي) ضربتني عن بعد بعلبة السيكاير التي أمامها لأنها حذرتني في وقت سابق من مغبة التسلل إلى مجلسها، كنت في حينها عند السابعة من عمري ، النسوة داخل المجلس يخلعن الحجاب وتظهر صدورهن على نحو فاضح، ربما كان فصال الملابس السوداء يتم خصيصا لأداء هذه الشعائر ما يتيح وضعا أفضل للضرب بأيديهن على الصدور ، والضرب بالأيدي يختلف من منطقة إلى أخرى، ففي المناطق الجنوبية من البلاد المتأثرة بالموروث السومري يكون الضرب بكلتا اليدين كما هو اليوم عند العزاء على الأموات العاديين، أما في المناطق الوسطى المحتفظة لبقايا الموروث البابلي فان الضرب فيها يكون على الأغلب باليد اليمنى ، تبدأ الملاية العزاء بعبارة (وي لاه يا حسين) ثم تتلو مقامات النعي على وفق مرثيات حزينة، تتصاعد وتيرة هذه المقامات حتى تصل إلى الذروة عندها تنهض النساء ليمارس البعض منهن دور الكورس يرددن ما تنشده الملاية من مقامات تكون في هذه المرة مختلفة عما سبقها مع اللطم على الصدور وهو الإيقاع الذي تبنى عليه الحان المقامات الحماسية فيما تؤدي بعضهن حركات درامية منتظمة يتطاير فيها شعرهن ويرافق ذلك ضرب على الجباه بكلتا اليدين.
يتضح تماما أن الملاية ظاهرة عراقية لا يمكن وضعها في خانة التشيع الصفوي بل هي في مضمار التشيع العراقي الذي من غير المناسب تسميته بالعلوي كما في أبحاث المفكر الإيراني (علي شريعتي)، كما أن الملاية تعد من أقوى المؤشرات على كون التاريخ العراقي تاريخ فواجع وأحزان وآلام لا تنتهي إلا بإقامة نظام حكم سياسي يملأ العراق قسطا وعدلا، وبدولة كريمة يعز فيها العراقي، المثقف والكادح واليتيم.... وبمؤسسات تكفل مكافحة التجهيل وتصون الحريات.

رشيد الفهد
المصادر
1-الملاية نواحة التاريخ العراقي سامية غانم الدباغ
2-الملاية امبراطورة النواح محمد مظلوم
3-المهدي المنتظر د نور المرادي
4- ميزوبوتاميا سليم مطر


Opinions