Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الملك فاروق الاول : ملاحظات تاريخية

من بين عشرات المسلسلات التلفزيونية التي بّثت في رمضان الفضيل ، اخترت متابعة مسلسل " الملك فاروق " ، لرغبة عارمة في نفسي وولعي بتاريخ مصر .. وكان فاروق الذي حكمها بين 1936 – 1952 قد جمع كل التناقضات ، فاختلف الناس في تقييمه . ومن المهم جدا ان ينجز مسلسل تلفزيوني روائي عن تاريخ الرجل بعد اكثر من خمس وخمسين عاما على خلعه عن عرشه .. ولقد اجاد كل من ساهم بتشكيل هذا السيمافور التاريخي الغني جدا تأليفا وتمثيلا وحركة وحوارا وموسيقى تصويرية واخراجا .. بل وصلت كل من الحبكة التاريخية والاخراج الفني واداء الممثلين غاية في الروعة وخصوصا دور البطولة الذي جسّده الفنان تّيم حسن فضلا عن روعة اداء بقية الفنانين .. وهذا يدل دلالة واضحة على ان اتعابا كبيرة قد بذلت ، واموالا سخية قد صرفت ، وصبرا مضاعفا تحّمله الفنان حاتم علي مخرج العمل .
ولقد سررت جدا ان يكون الزميل المؤرخ يونان لبيب رزق هو المستشار العلمي للنص والاداء ، وكلنا يعرف دقة هذا المؤرخ وخصب معلوماته وفحص وثائقه عن عهدي فؤاد وفاروق .. فضلا عن ان مؤلفة النص السيدة لميس جابر قد صرفت زمنا طويلا وبحثا مضنيا ـ كما سمعت ـ في التعّرف على تاريخ عدد كبير من الشخصيات التي جسدتها في روايتها ، والتي بدا اخراجها محفوف بالمخاطر لاسباب عدة . ان مجرد مقارنة فنية بين هذا العمل واعمال فنية اخرى سيكون " الملك فاروق " هو السباق في هذه الحلبة التي يزدحم من حولها الملايين وهم يراقبون مسلسل احداث تاريخية امتزجت ببين الدراما والميلو دراما فضلا عن نهاية تراجيدية محتمة .. واسمحوا ان اسجّل بعض ملاحظاتي التاريخية وتصويب بعض ما اراه مهما في هذا المجال :
لقد وجدت فؤاد الاول في المسلسل على غير حقيقته ، فالذي اعرفه انه كان شخصية قوية ومتحضرة وبالرغم من اخطائه ضد الدستور وموقفه ضد الاحرار ، الا انه كان يهتم بالتعليم والفن والثقافة والعمارة والنظافة .. وكان يتكلم العربية بطلاقة ، وليس كما ظهر في المسلسل يرطن وهو في قصره ..
لا يمكننا القول اليوم بالمطلقات ، فليس هناك من هو غارق بالدعارة والمجون ازاء من هو ملاك من الملائكة .. فالامور كلها نسبية ، واذا اعتقد الناس أن فاروقا كان ملكا فاسدا وانه سبب كل البلاء لمصر وانه أضرّ بقضايا الامة ، فان الزمن سيقول كلمته في النهاية عندما ندرك بأن فاروقا قد تلاعبت به سايكلوجية تربيته الخاطئة ، واهواء حاشيته ، ومشكلات عائلته ، ودسائس الساسة القدامى ناهيكم عن حساسيته وعاطفته المفرطة .. وبالرغم من كل ما كان عليه من وطنية ومحبة لمصر ، فانه كان حرا طليقا ونزقا مع ذاته ليعّبر عن كبت طفولته المسجونة ، فلم يقدر الامور حق قدرها في علاقاته وتصرفاته ، فأساء الى نفسه وعهده برمته ، فكان ان دفع ثمنا باهضا اذ انتهى حكم اسرته على يده ..
كنت اتمنى ان يظهر لنا المسلسل عهد فاروق خارج سرايا الحكم ورجال الساسة والانكليز .. لنرى الناس وهو يقود سيارته بينهم مع تبيان طبيعة الحياة المصرية سواء في صالونات ادبائها ومثقفيها وفنانيها ام في حاراتها القديمة ناهيكم عن معرفة احوال الفلاحين في الريف ومعاناتهم الصعبة .. لقد صرفنا الساعات ونحن كالمحبوسين في سرايا عابدين او قصر القبة من دون ان نتنفس الهواء لا في شوارع القاهرة ولا في ارياف مصر وصعيدها .. وبالرغم من كل الابهة والفخامة التي صورت تلك السرايا وقاعاتها وغرفها وموجوداتها وتحفها ، الا ان الحقيقة اكبر من ذلك بكثير .. وخصوصا قاعات الاستقبال والمسرح الداخلي وغرف النوم الخيالية ..
كنت اتمنى على الفاضلين المؤلفة والمخرج ان يقتضبا قليلا من الجداليات العقيمة والصراعات السياسية لمختلف القوى ، والخروج من رتابتها قليلا كي نرى اوضاع المجتمع وابداعات المثقفين وعظمة الصحفيين والادباء والفنانين خصوصا عندما نعلم بأن كلا من عهدي فؤاد وفاروق هما قمة مصر ببروز اكبر المبدعين في كل مجالات الفنون والعلوم والاداب والمسرح والصحافة والترجمة والطرب .. فضلا عن دور جامعة فؤاد الاول وما قدمته في الثلاثين سنة الاولى من حياتها .. وبدلا من مماحكات الملكة نازلي ومشكلات عشقها وخلافاتها مع ولدها واضطراباتها السايكلوجية التي استمرت معها حتى وفاتها في الولايات المتحدة عام 1978 ودفنت هناك .. كان من المهم اختزال المشاهد الدرامية لكي تتعّرف الاجيال على حقيقة عهد فاروق بين اخفاقاته وانجازاته .. لقد غرقنا بتفاصيل اخرى مع الانكليز ممثلة بارادة لامبسون الطاغية ، واذا كان فاروق يكرهه ويمقت الانكليز على عكس ابيه ، فانه راهن على حصان خاسر ممثلا بالالمان ابان الحرب .. في حين كان اغلب ساسة مصر القدماء يمالئون الانكليز علنا .. وعندما رحل فاروق عن مصر حمل كل الاوزار التاريخية لوحده .
مصطفى نحاس باشا اجيد دوره ، ولكن ليس بالسذاجة التي قدّم بها أحيانا .. صحيح انه كان يعشق ذاته ، ولكنه لم يكن يردد الكلمات ابدا . كما انه لم يكن صاحب فكرة جامعة الدول العربية اذ كانت الفكرة لغيره ، وبالرغم من فعاليته في تأسيسها ، لكنه ـ كما اعرف ـ لا دور له في الدفاع ضد جمود اتفاقية الدفاع المشترك . لقد اعطي المسلسل دورا اكبر للنحاس بفذلكاته في حين غض الطرف عن اول مؤتمر عربي لستة من ملوك ورؤساء الدول العربية المؤسسة ، كنت اتمنى اراهم جالسين رفقة وفودهم في القاعة يستمعون الى خطاب فاروق الاول . واخيرا ، فان بعض الادوار لا تتلاءم مع شخصياتها الحقيقية ، امثال : الملكة فريدة وكريم ثابت وغيرهما . ان هذه " الملاحظات " لا تقلل ابدا من المسلسل ، فهو علامة بارزة في الابداع الروائي التاريخي وفخرا للسيمافور المرئي العربي ..

www.sayyaraljamil.com Opinions