Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

المندائيون وإرتباطهم بهوية الرافدين الوطنية!

المندائيون أو كما يعرفون بالصابئة من الأقوام الأصلية التي سكنت بلاد مابين النهرين منذ القدم، وقد حافظوا على الملامح والعناوين العريضة للهوية العراقية الرافدينية الوطنية، وديانتهم "المندائية" هي بابلية رافدينية أصيلة، نبتت وترعرت وازدهرت على أرض الحضارات (بلاد ما بين النهرين - العراق)، ويمكن القول أنها مبادئ ونواميس وطقوس بسبب تطورها وعامل الزمن، ابتعدت قليلاً عن الديانة البابلية الكلدانية التي كانت سائدة سابقا في بلاد آشور وبابل. هذه الديانة المندائية والتي عرفت بعد العصر الاسلامي بـ (الصابئية)، قد انتشرت على نطاق واسع في أنحاء كثيرة من سوريا وبلاد مابين النهرين. وتقول المصادر المندائية أن هذه الديانة قد نازعت ونافست الديانة اليهودية حتى في عقر دارها في فلسطين. وقيل ان مندائيي فلسطين الذي آمنوا بـ (يوحنا المعمدان)، (وهو نفسه الذي عمد السيد المسيح في نهر الاردن) قد نقلوا وأضافوا إيمانهم بيوحنا المعمدان الى معتقدات أشقائهم المندائيين في بلاد ما بين النهرين بعد هجرتهم من فلسطين الى العراق الحالي اثر تعرضهم هناك الى مذابح فظيعة على أيدي اليهود. وللمندائيين قيادة روحية مركزها في مابين النهرين (العراق)، ويسمى رئيس المجلس الروحاني الذي يدير شؤون الطائفة في العراق وخارجه بـ (ريش اما) أي رئيس الأمة.

وحول تشابك التسمية المندائية مع الصابئية يقول البطريرك السرياني مار يعقوب الثالث: (ان كلمة "الصابئين أو الصابئة" سريانية محرفة، أصلها صبوعه أو صبوعو صابوعي أو صابوعا. أما كلمة "الصبة" فهي الاخرى سريانية، أصلها صوبعو صوبعا.

وكلمة "الصابئين" تعني الصابغين. وكلمة "المانديين" تعني المعمدانيين، وكلتاهما نسبتا الى مار يوحنا الصابغ أو المعمدان). أما الاب انستاس الكرملي البغدادي فيقول عن تسمية الصابئة: (ان الصابئة عندي مشتقة من "صبأ" لفظة قديمة من عهد أن كانت اللغات السامية لغة واحدة او لغة مختلطة ومشتركة بين عامة الساميين ومصحفة عن "ضَوَأ" التي قلبها العرب في اصلاحهم للغتهم الى كلمة "ضاء"). ويضيف الاب انستاس: (لفظة "مندايا" مشتقة من فعل بلغتهم "أي السريانية" وهو "يدو" ويقابله بالآرامية "ايداع" ومعناه علم وعرف وفهم. واسم الفاعل "مدعو"). ويكمل الاب انستاس تفسيره للتسمية المندائية حتى يصل الى قناعة تامة بان المندائية تعني العارف والعالم، ويستند بذلك الى قول المندائيين بالسريانية مثلاً "مندا دهيي" أي ما معناه "معرفة او دراية الحياة". وفي مقابلة اجريناها سابقا مع الشيخ (سلوان شاكر) أحد مسؤولي الطائفة المندائية في السويد، يقول عن التسمية المندائية: (الصابئة كلمة أطلقت على المندائيين، وتعود الى جذر (مندا) أي المعرفة. والصابئة هي أيضاً آرامية جاءت من جذر (صبا) وتعني، تعمد أو غطس وذلك لأننا نتعمد في الماء الجاري (ماي ميدوثا). فأستعملت هذه الكلمة من قبل عامة الناس فأطلق علينا الصابئة أو الصبا ..الخ. أما في نصوصنا فنستعمل المندائية ولا نذكر الصابئة. وعلاوة على هذا هناك أفكار مغالطة للواقع يتداولها الناس، وهي أن حدث مغالطة في الخلط مابين صبا العربية وصبا الآرامية التي هي أقرب الينا ولأن الآرامية أقدم من العربية كلغة).

ويظهر أن المندائيين لم يطلقوا على أنفسهم التسمية السريانية التي شاعت بين عموم سكان بلاد مابين النهرين وسوريا بعد الميلاد وحتى مجيء الاسلام للمنطقة في بداية القرن السابع. ويبدو ان سبب ذلك يعود لكون التسمية السريانية ارتبطت بالمسيحية. لهذا نشاهد هؤلاء الذين رفضوا الدخول بالديانة المسيحية قد تبنوا تسميات دينية أو طائفية لتميزهم عن بني جلدتهم السريان المسيحيين، فمثلا، نرى ان السوريين بعد الاسلام رفضوا التسمية السريانية واستعملوا التسمية (السورية) التي ما هي الا ترجمة للاسم السرياني باللغات الاجنبية والذي يعني أيضاً (آشوري). أما المندائيين فانضووا تحت تسمية ديانتهم المندائية بعد ان ارتبطت بـ (يوحنا المعمدان)، وتخلوا عن تسميتهم القديمة (الارامية) لأنها أصبحت تدل على الفئات الوثنية في بلاد الرافدين وسوريا الذين رفضوا اعتناق المسيحية. وهكذا فضلوا التسمية المندائية لتميزهم عن بني جلدتهم الآراميين الوثنيين والسريان المسيحيين والسوريين المسلمين. ولهذا يعتبر المندائيون أنفسهم اليوم فئة مغايرة عن الشعب "الكلدوآشوري السرياني" إنطلاقاً من الاشكالات الدينية وتعقيدات التسمية وعوامل الزمن والجغرافيا..! ومهما يكن من أمر، فإن المندائيين والسريان هم من أرومة واحدة ومن الفرق المحلية التي حافظت على لغة العراق القديمة (السريانية) وحافظوا على الميراث الوطني الرافديني وظلوا ابدا ودائما يفتخرون بأصولهم التي نبعت من بلاد ما بين النهرين وليس من مكان آخر!!

ولغة المنادئيين سميت قبل الميلاد باللغة (الآرامية)، ولهجتهم (المندائية) هي لهجة تصنف ضمن اللهجات الشرقية السريانية وهي قريبة للسريانية التي يستعملها اليوم أتباع كنيسة المشرق الآشورية وأتباع كنيسة بابل الكلدانية والسريان في قرى دمشق (أي اللهجة السريانية الفلسطينية التي تكلم بها السيد المسيح).

وتواجد المندائيين في جنوب بلاد ما بين النهرين منذ القدم وخصوصا في منطقة (ميشان) التي تعد معقلهم التاريخي. ويتواجدون أيضا بشكل عام في بغداد والبصرة أي المنطقة المعروفة ببلاد بابل القديمة، المنطقة ذات السيط والشهرة في العالم القديم فهي موطنهم الاصلي، ومنبع ديانتهم، وهنا ترتبط أنفاسهم وذكرياتهم وماضيهم بكل عظمته وجبروته ومؤخراً مرارته. وأيضاً هناك أقلية مندائية في محافظتي نينوى وكركوك وكذلك في ايران، التي ما زال مندائيوها يستعملون السريانية كلغة أم حتى يومنا هذا.

وفي الماضي السحيق كان المندائيون متواجدون أيضاً في منطقة حران الشهيرة (أعالي ما بين النهرين)، -التي اغتصبت من سوريا وضمت الى تركيا- هذه المدينة أنجبت الكثير من العلماء السريان (المسيحيين والصابئة) وساهموا فيما بعد ببناء الحضارة الاسلامية. وما يجدر ذكره هنا أن أخر ملوك بابل (نابونيد) كان ابنا لكاهنة حرانية (انظر كتاب أصول الصابئة، لمؤلفه عزيز سباهي). ولكن الاختلاف بين هذه الفرقة الحرانية وشقيقتها في بلاد بابل، يكمن في معتقدات الحرانيين توجد عبادة القمر والنجوم والكواكب وتحريم حلق اللحى والشعر وغيرها، وهي تماماً معتقدات البابليين القدماء (الاراميون - الكلدان)، اما المندائيون في منطقة ميشان (ميسان) فقد اضافوا على هذه المعتقدات عادة التعميد بالماء الجاري، ومنع الطلاق بين الرجل والمرأة، والتأكيد على حياة البساطة ومساعدة الفقراء، وتبجيل يوحنا المعمدان وغيرها من الطقوس، ولذلك قيل ان المندائيين أقتبسوا الكثير من العادات المسيحية لا بل حسبوا فئة مسيحية صرفة. حيث يعرفوا في دول الغرب بنصارى يوحنا المعمدان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تأثرت تعاليم المنادئيين في بلاد بابل (جنوب العراق) بتعاليم النبي ماني السرياني "البابلي" الذي ظهر في بداية القرن الثالث الميلادي، وبشر بديانته على نفس الرقعة الجغرافية التي انتشرت فيها الديانة المندائية (الصابئية). وماني نفسه كان عضوا في المندائية ومتأثرا بها، ولكنه اخذ بشق طريقه الخاص به وبدأ برسالته التبشيرية في سن الـ 33 من عمره، وبذلك خلق دينا رافديا اصيلاً آخر منافسا للمندائية في عقر دارها، (للمزيد عن المانوية، راجع الكتاب القيم "الذات الجريحة" للباحث العراقي سليم مطر). ومن المؤكد أيضاً ان تعاليم كنيسة المشرق السريانية (الفرع النسطوري) وبسبب انتشارها الواسع في عموم بلاد ما بين النهرين حتى أن مبشريها النساطرة قد وصلوا الى الصين والهند وثبتوا اقدام الكنيسة السريانية هناك، قد أثرت بشكل او باخر على المعتقدات والطقوس المندائية. ففي الوقت الذي استمر التواصل التاريخي للمندائيين (الصابئة) في بابل حتى أيامنا هذه، فإن الصابئة في حران قضي عليهم وتم إبادتهم أو ذابوا ضمن موجة الشعوب الارية الغازية التي استولت على منطقتهم، وتتفق أغلبية المراجع بأن الصابئة الحرانيين حافظوا على ديانتهم ومعتقدهم وهويتهم الوطنية (السورية العراقية - الرافدينية) حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

والجدير ذكره أيضاً ان المندائيين قد تعرضوا على مر العصور الى ظلم وتنكيل من قبل بعض جيرانهم المسلمين، لأن المنادئيين اعتبروا كفرة وهراطقة ووثنيين بنظر الاسلام ووجب القضاء عليهم، فيكفي القول ان تسمية الصابئة المردافة للمندائية أصبحت بمفهوم ذلك الزمان مرادفة للفظة وثني، لدرجة ان العرب المسلمين أطلقوا مصطلح (الصابئة) على كل الشعوب التي لا تدين بالاسلام او المسيحية واليهودية. وكما يقول الكاتبان لورانت شابري وآني شابري في كتابهما المشترك (سياسة وأقليات): (لم يترك للوثنيين منذ البداية، الاختيار إلا بين الاهتداء الى الدين الجديد أو الموت).

أما اليوم، وعلى رغم الاضطهاد والظلم والتنكيل الذي استهدف المندائيين ومعتقدهم الرافدي في القرون الماضية على أيدي الوافدين الى موطنهم (بلاد ما بين النهرين) ومن ثم على ايدي التتر والمغول والفرس وعلى رغم تناقص عددهم اليوم من مئات الالاف الى ما يقارب (70) الفاً، ظل المندائيون في بلاد بابل محافظين على لغتهم السريانية (الآرامية) منذ سقوط نينوى وبابل حتى أيامنا هذه، وما زالوا يستعملونها في دور العبادة (مندا) وحافظوا على تمسكهم القومي وعاداتهم في المنطقة، حتى الحرب العراقية - الايرانية (1980 – 1988م)، والحرب العراقية – الكويتية (1990). الا ان الحصار الاقتصادي الذي فرض على الشعب الرافدي (العراقي) قبل إزاحة صدام من كرسي السلطة، بالاضافة الى سياسات التعريب التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة تجاه التاريخ الوطني لبلاد ما بين النهرين وخصوصا أنه أجبر المندائيون على تعريب كتابهم المقدس (كنزا رابا)، وإلحاق الضرر ببيئة الاهوار المعقل التاريخي للمندائيين أحفاد الاكاديين والسومريين والبابليين (الكلدانيون الآراميون)، كل هذه الأمور دفعت بالكثيرين منهم الى هجرة وطنهم باتجاه بلاد الغربة. أما بعد سقوط نظام صدام في نيسان الماضي، ونتيجة انتشار الفوضى وفقدان الامن قام بعض المتطرفين المتسترين وراء الدين الاسلامي (وهو منهم براء) بالاعتداء على أرواح وممتلكات المندائيين وكذلك المسيحيين (الكلدوآشوريون) خصوصا في البصرة وبغداد. وما يزيد تخوف وهلع المندائيين من المستقبل هو عملية تهميشهم من قبل اخوتهم في المواطنة والدولة حيث لم يحصل المندائيون (وكذلك اليزيديون) ولا حتى على مقعد واحد في مجلس الحكم العراقي "الانتقالي" الذي عين لادارة شؤون العراق بعد صدام!! ولكن الهاجس الاكبر للمندائيين يتركز في خوفهم من الانصهار واحتمال إنقراط لغتهم السريانية بلهجتها المندائية، تلك اللغة التي كانت يوما اللغة الوطنية في عموم العراق وسوريا وأصقاع أخرى من المشرق. ان مسألة المحافظة على هذه اللغة الثمينة التي تمثل إرثا وكنزا حقيقيا وثميناً لكل العراقيين، نقول أن الحفاظ عليها ودعمها هي قبل كل شيء، مسألة وخطوة وطنية وإنسانية وعلى النخب المثقفة والمؤسسات العراقية الخيرة (الرسمية وغير الرسمية) تلقى هذه المسؤولية الوطنية.

ن موقع دار سرجون Opinions