النهوض الثوري للشعوب العربية يتطلب قيام جامعة عربية تمثل إرادتها
5/3/2011كانت الشعوب العربية التي رزحت تحت نير الاستعمار العثماني لأربعة قرون، والتي عانت أشد المعانات من ذلك الحكم الاستعماري البغيض، يراودها الأمل في التحرر من هيمنة ذلك النظام الرجعي المتخلف، وتحقيق الاستقلال الوطني، وإقامة وحدة عربية على أسس ديمقراطية، ولاسيما بعد تلك الوعود التي وعدت بها كل من بريطانيا العظمى وفرنسا إبان الحرب العالمية الأولى بتحقيق هذا الحلم الكبير.
لكن العرب صُدموا بعد نهاية تلك الحرب، عندما نكث المستعمرون الجدد البريطانيون والفرنسيون بالوعود التي قطعوها لهم، وتبين فيما بعد أنهم قد قرروا اقتسام البلاد العربية فيما بينهم بموجب معاهدة [ سايكس بيكو ]السرية والتي فضحها لنين قائد ثورة أكتوبر، وهكذا وجد العرب أنفسهم مرة أخرى تحت نير استعمار جديد.
لكن عزم الشعوب العربية على تحقيق الاستقلال، وإقامة الوحدة العربية الديمقراطية لم يفتر، وبقيت الجماهير العربية تناضل من أجل تحقيق هذا الهدف، وخاضت ضد المحتلـين الجدد معارك قاسية ومتواصلة، وقدمت الآلاف من الضحايا في سبيل التحرر والانعتاق من نير الاستعمار الجديد، وجمع الشمل العربي.
واضطر الإمبرياليون البريطانيون والفرنسيون تحت ضغط الشعوب العربية، وكفاحها المتواصل إلى إقامة حكومات محلية في العراق، وسوريا، ومصر، وشرق الأردن، واليمن، والسعودية، تحت المظلة الإمبريالية.
وبدأت الجماهير العربية تضغط على حكامها الذين نصبهم الإمبرياليون من أجل تحقيق الاستقلال الحقيقي الناجز، وإقامة الوحدة العربية الديمقراطية، بعيداً عن الهيمنة البريطانية والفرنسية، ونتيجة للمد الذي شهدته الحركة الوطنية في العالم العربي، أوعز الإمبرياليون إلى الدمى العربية من الحكام في تلك البلدان لإجراء لقاء بينهم للبحث في موضوع إقامة شكل زائف من العلاقات بين بلدانهم بغية امتصاص ذلك المد الشعبي الهادر، والهادف إلى التحرر الحقيقي من الهيمنة الإمبريالية، وإقامة وحدة حقيقية تلبي مطامح الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد كان أخشى ما يخشاه الإمبرياليون إقامة دولة عربية قوية تتمتع بثروات هائلة، واتساع جغرافي واسع، يمتلك أراضٍ شاسعة خصبة، ومياه وفيرة، وطاقات بشرية كبيرة وخلاقة، فكان مشروع إقامة الجامعة العربية التي لا تعدو عن كونها جامعة للحكام العرب في الحدود الدنيا، وكثيراً ما تدب الخلافات بين هؤلاء الحكام، وتقطع العلاقات بين دولهم، وتغلق الحدود، وتشن الحملات الإعلامية على بعضهم البعض.
وبناء على رغبة الإمبرياليين عقد الحكام العرب مؤتمراً لهم في القاهرة في 22 أيار 1945، وتقرر في ذلك المؤتمر إقامة الجامعة العربية القائمة إلى يومنا هذا دون أن يطرأ عليها أي تطوير!
لم تستطع الجامعة العربية تحقيق حلم الشعوب العربية في الوحدة الحقيقية، فقد كان تأثير تلك الهيمنة البريطانية والفرنسية على الحكام العرب يشكل أكبر عائق لتحقيق الوحدة، أو على الأقل تحقيق أوثق الارتباطات فيما بينها في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، لكن الأيام التالية أثبتت أن الجامعة العربية، وبالشكل الذي رسمه لها الإمبرياليون البريطانيون والفرنسيون، لن تحقـق طموحات الأمة العربية، بل على العكس من ذلك انتقلت إليها الصراعات العربية، وأخذت سلطتها تضعف شيـئاً فشيئا ، حتى أصبحت قريبـة من التلاشي ولم يبقَ لها سوى دور ثانوي في القضايا العربية.
فالدول التي تضمها الجامعة العربية لا يجمعها جامع حقيقي بسبب الأنظمة السائدة فيها، والتي هي في جوهرها أنظمة استبدادية لا تعترف بالديمقراطية، ولا تحترم حقوق المواطن العربي، سواء كانت هذه الأنظمة ملكية أم جمهورية، بل لقد تجاوزت الأنظمة الجمهورية الأنظمة الملكية في استبدادها، واستئثارها في الحكم، وإعداد الأبناء لتولي الحكم بعد الآباء حتى لكأنما قد ورثوا بلدانهم، واستعبدوا شعوبهم، وسلبوهم كامل حقوقهم الديمقراطية.
ومن أجل البقاء في السلطة والتشبث بها ضحوا ولازالوا يضحون بمصالح الشعوب العربية لكي يبقى العالم العربي مشرذماً ضعيفاً، في عصر العولمة، والتكتلات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم.
فها هي الدول الأوربية التي لا يجمعها لغة مشتركة، ولا تاريخ مشترك، ولا عادات وتقاليد مشتركة، تتوحد بمحض إرادتها مشكّلة الاتحاد الأوربي الذي شكل قوة اقتصادية كبرى في العالم، في حين يجمع الشعوب العربية التاريخ المشترك واللغة المشتركة والعادات والتقاليد المشتركة، لكنها تمزقها الخلافات والصراعات، وتعاني شعوبها الجوع والحرمان والإذلال.
وإذا ما قام نظام وطني متحرر من الهيمنة الإمبريالية انبرت الأنظمة الدكتاتورية في حملة عدائية لهذا النظام الجديد بغية إفشال تجربته في إقامة الحكم الديمقراطي الذي يحقق الحياة الحرة الكريمة للشعب.
فما كادت ثورة الرابع عشر من تموز تنجح في إسقاط النظام الملكي المرتبط بالإمبريالية حتى انبرت تلك الأنظمة العربية في حملة عدائية ضد حكومة عبد الكريم قاسم ، وانغمسوا في محاولات التآمر على الثورة، وتقديم الدعم المتواصل لعصابة البعث حتى تم لهم ما أرادوا في انقلاب 8 شباط الفاشي، واضعين أيديهم بأيدي الإمبرياليين، ومقترفين مجزرة كبرى ضد القوى الديمقراطية في العراق، واستمر الشعب العراقي تحت نير حكم عصابة البعث قرابة الأربعة عقود من الزمن ذاق خلالها من الويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها، وما المقابر الجماعية التي جرى كشفها في طول البلاد وعرضها إلا شاهداً على هول الجريمة التي اقترفها النظام البعثي الفاشي ضد الشعب، ناهيك عن حروبه العبثية التي استمرت خلال العقدين الأخيرين، والتي ذهب ضحيتها مئات الألوف من العراقيين الشباب الأبرياء، وما نتج عن تلك الحروب من انهيار اقتصادي واجتماعي وصحي، وتدمير للبنية التحتية للبلاد.
وبسبب الطبيعة الهمجية العدوانية لنظام صدام والتنكيل الشنيع الذي مارسه ضد الشعب اضطر ما يزيد على أربعة ملايين عراقي إلى الهرب من العراق والبحث عن ملاذ آمن يعيشون فيه، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل مريرة من موقف معظم الأنظمة العربية التي أغلقت حدودها بوجوههم، فتوجهوا إلى البلدان الأجنبية التي استقبلتهم بما يليق بالإنسان، وأمنت لهم حياة كريمة من سكن وخدمات صحية وثقافية، ودخل يسد حاجاتهم المادية، وأهم من كل ذلك الحرية التي تمتع بها المهاجرون العراقيون في تلك البلدان.
لقد أدركت الشعوب العربية أن لا سبيل لها لتحقيق الحياة الحرة الكريمة، والتحرر الحقيقي من الهيمنة الإمبريالية، وإعادة بناء علاقات جيدة بينها في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية والثقافية، وصولا إلى تحقيق أوثق الروابط فيما بينها، كما هو الحال في دول الوحدة الأوربية، وفي نهاية المطاف تحقيق حلمها الكبير في تحقيق الوحدة العربية الشاملة القائمة على أسس ديمقراطية، بعيداً عن محاولات الضم القسري، إلا بالانتفاض على الأنظمة الفاسدة السائدة، وإقامة أنظمة جديدة تمثلها بحق.
وهكذا انتفض الشعب التونسي الشجاع ضد نظام الطاغية بن علي، تلك الانتفاضة الثورية الجبارة التي قدمت التضحيات الجسام، لكنها استطاعت إزاحة ذلك النظام الدكتاتوري الذي استمر قرابة ثلاثة عقود، لتقيم نظاماً ديمقراطيا يحقق أماني الشعب في الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وكانت انتفاضة الشعب التونسي الثورية فاتحة لانتفاضات بقية الشعوب العربية.
فلم تمض سوى أيام معدودة حتى انتفض الشعب المصري الشقيق ضد نظام مبارك المتحالف مع أصحاب رأس المال المنهوب من قوت الشعب المصري، فكانت ثورة عارمة صمدت بوجه جهاز النظام القمعي الكبير والمدرب على قمع أي تحرك شعبي، وقدم الشباب المصري التضحيات الجسام حتى استطاع إسقاط ذلك النظام الذي أشاع الفقر، والتبعية لأمريكا وربيبتها إسرائيل، ليقيم على أنقاضه حكماً ديمقراطياً يمثل الشعب حقاً وصدقاً ويعمل على تحقيق أمانيه في الحياة الحرة الكريمة التي تليق به.
وها هو الشعب الليبي الشجاع يخوض معركة قاسية ضد نظام القذافي المتسلط على الشعب منذ 42 عاماً، انه يخوض حرب تحرير حقيقية لم يشهد لها العالم العربي مثيلاً من قبل، ويقدم التضحيات الجسام من أجل انتصار الثورة التي باتت وشيكة، ويحقق أمانيه في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
وانتفضت الجماهير العربية في اليمن في سعيها لإسقاط نظام الدكتاتور علي عبد الله صالح الذي حكم البلاد 28 عاماً، والذي عدّلَ الدستور ليحكم مدى الحياة، ويعد أبنه لتولي الحكم من بعده. لقد هبت الجماهير اليمنية متحدية أجهزة الدكتاتور القمعية وهي عازمة عزماً لا رجعة فيه لإسقاط هذا النظام، وإقامة البديل الديمقراطي الذي يحقق أماني الشعب، ويستعيد حقوقه المهضومة. كما أن جماهير الشعب العماني، والشعب البحريني يخوضان النضال من أجل إقامة نظام ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية، والحياة الحرة الكريمة.
لقد وعت الجماهير الشبابية في جميع البلدان العربية، وأدركت أنها بتكاتفها وتصميمها وعزمها، قادرة على إزاحة الأنظمة المستبدة التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، وقد اتخذت من نضال أشقائها في تونس ومصر وليبيا واليمن مناراً يضئ لها الطريق للنهوض الثوري الذي بات يحقق المعجزات، وسوف لن يمض وقت طويل حتى تتحرر كل الشعوب العربية من نير الطغاة المستبدين لتقيم عالماً عربياً جديداً، عالم الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد، وسوف تحقق الحلم الكبير بوحدتها الديمقراطية، وتقيم كياناً كبيراً وعظيماً بما يمتلكه من امتداد جغرافي واسع، وإمكانيات بشرية ومادية هائلة، وكوادر قادرة على صنع كيان مهاب تحترمه كل الدول والشعوب.
إن الجامعة العربية في وضعها الحالي لا تمثل الشعوب العربية، ولم تقدم لها أي انجاز يحقق طموحاتها، وما عادت تود سماع اسمها وهي تقف هذه المواقف الشائن من طموحاتها في بناء عالم عربي ديمقراطي تعددي ينعم شعوبه بكل فئاتها وقومياتها وطوائفها بالحرية والمساواة ،والحياة الحرة الكريمة.
إن الشعوب العربية قد فقدت ثقتها في هذه الجامعة بوضعها الحالي، ولا بد أن يتدارك الجميع إصلاح الأمر، وبناء جامعة عربية جديدة تعمل بصدق وتفانٍ من أجل جمع شمل العرب تحت مضلة الديمقراطية والحرية الحقيقية ، وبناء اقتصاد عربي متكامل، وعملة عربية واحدة وتعاون وثيق في كافة المجالات، وهذا لن يتم إلا عبر أنظمة ديمقراطية تحترم إرادة شعوبها، وتتفانى في خدمتهم، لا كما تفعل اليوم، حيث قد سخرت شعوبها لخدمتها، وسلبتهم كل حقوقهم وحرياتهم، واستأثرت بخيرات البلاد على حساب بؤس ومعانات شعوبها.