الهجرة ومأساة الغربة
الهجرة.. هذا الضيف البغيض الذي فرض نفسه عنوة على ابناء شعبنا ،والذي يبغي تمزيق اوصال عوائلنا ... هذا العدو المرعب الذي عشعش في افكار وضمائر البعض منا ، اصبح الان ماساة ابناء امتنا ، وصار نزيفه يسيل ويسيل دون رحمة او وازع من ضمير.. فكل يوم نسمع بان كذا عائلة غادرت ارض الوطن متوجهة الى المجهول تاركة كل ما لديها من اهل واصدقاء وسكن ووظيفة وما عملت به طوال سنين .. كل ذلك يحصل امام أنظارنا وانظار المسؤولين والمجتمع عموما ، والكل صامتين لا نحرك ساكنا تجاه منع او على الاقل التقليل من حجم الماساة المنتظرة. رغم اننا نسمع كل ساعة بل كل لحظة قصص عن ابنائنا في بلاد الغربة والمهجر تقشعر لها الابدان لما يواجهونه من انحلال اسري وتفكك عائلي ، فبين الحين والاخر نسمع بان السيدة الفلانية قد تركت زوجها بمجرد ان وطأت اقدامها الدولة الفلانية وتزوجت من زنجي او افريقي او الخ ، وان فلان من الناس قد تزوج بامراة اخرى وترك زوجته واولاده في مهب الريح ، وان السيد الفلاني قد استعذب ان يجمع الحرام كله في منزله ويعمل سمسارا اخلاقيا ، واخر يعمل بتجارة الممنوعات كتهريب الناس عبر الحدود او تجارة المخدرات والى اخره من القصص المرعبة ، اما الانسان الذي يحافظ على كرامته وتقاليده الشرقية النبيلة فان سبل عيشه في تلك البلدان صعبة جدا ان لم نقل مستحيلة تماما ، وهذا ما لمسناه من الاخوة الذين عادوا الى ارض الوطن بعد معاناة استمرت سنة او سنتين .. اما نحن فحين نجتمع مع بعضنا ترانا نسب الغربة ونلعنها ونلعن الزمن الذي فرضها علينا ، ولكن بعد يوم او يومين نلاحظ بان الذي كان اشدنا سبا وشتما للغربة قد ترك ارض الوطن وسافر اليها بارادته دون ان يجبره احد على ذلك.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو .. هل ان السفر والهجرة هما حقا بسبب الظروف التي نعيشها ام اصبح غيرة من فلان وتقليدا لعلان ، ام هناك اسباب اخرى تؤدي الى ذلك.. والجواب على هذا السؤال ببساطة شديدة ياتيك من اخوتنا الذين يبغون الهجرة حين تسالهم ، فبعضهم يقول لك ( ليش طلع فلان ، هو مو احسن مني ، اني هم راح اطلع ) ، اما الاخر فيقول ( تعرضت للتهديد ) ، وثالث يقول ( ماكو شغل ، راح نروح ونشتغل ويوميتنا كذا ورقة ) .. وليس هذا فقط ، بل الاخرين الذين لا يفقهون شيئا يقولون ( في الغربة كل شيء متوفر ، الامان والعمل والفلوس والنساء .. الخ ) ..عيشوا في الاحلام قدر ما شئتم ... اذن هذه هي ماساتنا الحقيقية لأننا لا نعلم ماذا نريد .. اذ ان الغيرة تلعب دورا كبيرا في هذا الموضوع لكون فلان ليس افضل من فلان فلماذا هو يتغرب وانا لا.. يا سيدي ان الشخص الفلاني ربما ( والله اعلم ) قد تعرض لموقف حرج جدا وخرج دون ارادته، اما انت فتهاجر بكامل ارادتك .. انت في ارضك سيد وكل محبيك من حواليك ، فاذا احتجت أي شيء فان الكل يهب لمساعدتك وبكل بساطة ، ثم اذا مرضت لا سمح الله فان الجميع يهب لنجدتك ، وان تزوج ابنك او ابنتك فان الجميع يفرح لفرحك ، وان اصاب مكروه واحد من ذويك ترى الجميع يبذلون اقصى جهودهم لدرء ذلك المكروه عنك.. اذن ما الذي اصابك يا سيدي الفاضل .. كيف ترضى لنفسك وانت سيد ارضك بان تكون خادما يعمل في تنظيف التواليتات ودورات المياه ..؟ ، وان تنام ايام وليالي في شوراع خاوية تعاني من البرد والجوع ولا يوجد هناك من يقول لك ( اتفضل استريح يمي) .. هل هذه هي الحياة التي تستعذبها..؟؟ والذي يحز بالنفس اكثر واكثر ، ان بعض من اخوتنا الافاضل كان هنا في موقع وظيفي ممتاز وراتبه لا يقل عن المليون دينار ويمتلك سيارة ( اخر موديل ) ويسكن دارا انيقة وحديثة جدا .. المصيبة الكبرى ان يترك كل هذا ويذهب الى الماساة بنفسه ويعمل هناك عامل خدمة في تنظيف الشوارع ، علما انه كان في بلده مهندسا كبيرا والكل يكن له الاحترام .. والاغرب من كل هذا بانه لم يتعرض يوما لأية مضايقة ابدا ، ورجل اخر كان يعمل معلما وراتبه ايضا لا يقل عن المليون دينار ويمتلك دارا كبيرة وسيارة حديثة جدا وسيارة اخرى للحمل وكان لديه عدة مشاريع يعمل بها ويكسب من الحلال ما قسمه الله ،وهو في وضع اقتصادي واجتماعي جيد جدا ، وهو الان في غربته يعمل ( نزاح) .. نعم نزاح ... أي منظف تواليت.. ( عذرا ليس العمل عيبا بل ان العيب هو ان اترك وظيفتي كمعلم واعمل بمهنة لا تناسبني ولا تناسب شهادتي ) ، يا سيدي لو اردت العمل فاعمل في بلدك ، لماذا تحب تنظيف بلاد الغرباء وتترك القذارة في بلدك .. نظف بلدك اولا .. ولكن ماذا نقول والغيرة قد اعمت القلوب قبل العيون ليتركوا كل هذا العز وتجرفهم الانانية وعدم الادارك الى مستنقع الهاوية الا وهو مستنقع الغربة ،والذي يثيرنا اكثر واكثر باننا نشاهد على الفضائيات العديد من الاغاني ولمطربين من ابناء وطننا الغالي وهم يتغنون بنعمة الوطن وطيبة ارضه وشعبه ويتغنون بامجاده ، نرى بان العيون تغرق بالدموع وتبدأ المناديل بمسح تلك الدموع وتبدأ الحسرات من هذا او ذاك..ولكن دون جدوى .. فهذا حسام الرسام يغني للوطن ويلعن الغربة وكذلك ماجد المهندس وهيثم يوسف وكاظم الساهر والخ .. فهل كل هؤلاء المطربين وكل الشعراء الذين كتبوا ماساتهم في الغربة هم كذبة ام منافقون ام والحقيقة تقال يهزهم الشوق والحنين للعودة الى ارض الوطن ، فالغريب يبقى غريبا مهما طال الزمن به ويموت بعيدا عن ارضه .. وهنا تستحضرني قصيدة للشاعر العربي الكبير ، الشاعر القروي رشيد سليم الخوري حيث شدى بها في غربته فيقول:حتام احيا غريب مالي وطن
يا يوم وصل الحبيب انت الزمن
لله ذاك النسيم ما اطيبا
لله ذاك الغدير ما اعذبا
لله تلك الطيور ما اطربا
عن كل شاد عجيب ينفي الشجن
في شدوه للقلوب سلوى ومن
تحياتي