Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

برسم الإفراط والتفريط أعياد مع وقف التنفيذ!

يقع مستقبل البشرية على خط استواء الحياة يصعد شمالا نحو قطب الرجاء وينزل جنوبا نحو قطب الخوف، وبين هذين الخطين تتقلب حياة المرء بين مواسم الأمل والألم، وفصول الفرح والترح، يعمل ويتقاعد، يجهد ويستريح، يقعد وينام، يجد ويلعب، فهو في دائرة كهربية متواصلة تظهر فعاليتها من اجتماع السالب والموجب، فالمصباح لا يسمى مصباحا ما لم يتفاعل الخطان المتضادان، والحياة لا تسمى حياة ما لم تتفاعل الأضداد، فالمرء لا يأنس بدفء الحرارة ما لم تعض البرودة جسده، ولا يعرف السعادة ما لم يتذوق مرارة الحياة، فالسعادة عملية نفسية تراكمية تنقل الإنسان إلى ظرف جديد يتحسس فيه التغيير، وقد تتوسع حجم السعادة لتشمل الدوائر القريبة من أهل وعشيرة وتتسع أكثر لتشمل المجتمع.
وأفضل السعادات وأرقاها اجتماعيا تلك التي تتسع مداها لتضم أوسع الناس، ولذلك تبانت المجتمعات والعقائد والأديان على توفير فرص زمنية أو مكانية أو كليهما معاً للسعادة الجماعية التي تخرج الأمة من رتابة الحياة وكدها ونصبها إلى بحبوحة من العيش الهنيء ولو لفترة، تستعيد معها الأمة نشاطها وحيويتها، ولذلك كانت الأعياد الدينية والقومية والوطنية فرصة طيبة للشعور بالفرح والحبور وبخاصة لأولئك الذين صرفتهم متاعب الحياة ومشاغلها عن تلمس راحة الحياة وكرمها وفيضها، فيسعد الجميع كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، راعيهم ورعيهم.
فالعيد مناسبة طيبة لتنشيط دورة الحياة وتفعيلها، فظاهرها الإستراحة والدعة، وحتى في تعبها راحة، فالتنقل والسفر وصرف الأموال لزيارة الأهل والأقرباء والأصدقاء يعتبر من الناحية الإقتصادية هدرا للمال والزمن، ولكن في العرف الإجتماعي تمثل هذه الحركة شدّا من لحمة المجتمع وتجديدا للدماء في شرايينه، وتحريكا للمياه الإجتماعية الراكدة، فإسعاد الأب لأسرته راحة، وإدخال الفرح في بيوت الأرامل والثكالى والأيتام سعادة ما بعدها سعادة، وإكرام الضيف سعادة، وإغناء الفقير سعادة، وإنارة الأزقة فيه إدخال للبهجة في قلوب الأطفال وعموم الناس، فكل فعل منضبط على طريق إنعاش النفوس وبخاصة في المناسبات والأعياد هو أداء راق، يوافقه الشرع ويرضاه العرف ويتقبله المجتمع.
سعادة لا تعاسة
ولكن هل يقف الشرع الإسلامي أمام الأعياد والإحتفال بها؟
مثل هذا السؤال الذي يتقلقل في صدور البعض، يجيب عليه الفقيه آية الله الدكتور الشيخ محمد صادق بن محمد الكرباسي في تصنيفه الفقهي الجديد "شريعة العيد" المنضود فقراته من 159 مسألة شرعية، الصادر حديثا عن بيت العلم للنابهين ببيروت في 88 صفحة من القطع الصغير، بتقديم و113 تعليقا لقاضي الشرع الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
فالأعياد دينية كانت أو وطنية، جمعية أو فردية تعلوها غمامة الحبور، لأن الحياة هي إحياء للنفوس المتعبة وإحياء للموات من الإرادات المعطلة، وإماتة للأعراف التي تنسجها عناكب التعاسة، وبخاصة في المنظور الإسلامي الذي يرى أن العمل الصالح عيد وإصلاح الفاسد من أمور الناس عيد، ودفع الضرر عن المجتمع عيد، ودحر جحافل الهموم وتشتيت غمومها عيد، والحاكم الصالح عيد، والقاضي العادل عيد، والموظف العامل الأمين عيد، والجمعيات الخيرية الفاعلة عيد، ومؤسسات المجتمع المدني الناشطة عيد، فكل صغيرة أو كبيرة تصب لصالح الفرد والمجتمع بما لا يخالف الشرع والعرف هو عيد سعيد، لأن زرع طريق الناس بورود المحبة والخير سعادة، ودس أشواك الكآبة تحت مدعى العبادة تعاسة، ويبدي الفقيه الكرباسي أسفه الشديد: "أن تكون هناك شريحة من الناس تعتني بالذكريات الحزينة ولا تهتم بالذكريات البهيجة، وقد أشاعت الحزن بين الناس وسلبت البهجة من قلوبهم حتى آل الأمر أن شبابنا ابتعدوا عن الدين وتركوا الحضور إلى المجالس الدينية حيث وجدوها كلها مواسم حزن وبكاء، مخالفين بذلك نص الأحاديث الشريفة التي وردت في إحياء هذه الذكريات المباركة والشريفة".
ومن يكن شغله الشاغل نشر الغم ولا ينزع عنه لباس الحزن فإنه ولا شك ينقل للآخر رسالة غائمة عن الإسلام، وحسب الدكتور الكرباسي سيكونون: "سببا في مزيد انتقاد الأعداء والمتربصين بالإسلام، إذ اشتهر منهم بأن الإسلام دين الحزن والكآبة ودين لا يتماشى مع العصر، مما دفع ببعض المسلمين إلى الوقوع في التفريط بسبب إفراطهم ونسوا بأن ديننا الحنيف دين الوسط ودين تطور يناسب كل عصر وكل مكان وفيه الثابت والمتحرك مما جعله يفوق كل الأديان ويرتقي على جميع الحضارات"، ولهذا يؤكد على الاحتفال بالأعياد الإسلامية الأربعة: "عيد الأضحى المبارك، عيد الفطر المبارك، عيد الغدير الأغر، عيد الجمعة الجامعة" حیث شُرِّع عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة، كما أن الأضحى شُرِّع في السنة الثالثة (بحار الأنوار: 20/8)، كما أن: "هناك مناسبات أخرى يمكن تسميتها بالإصطلاح الحديث أعياداً، كمواليد المعصومين (ع) وذكريات البعثة والإسراء والمعراج وما إلى ذلك".
وإلى جانب الإفراط في مساحات الحزن، هناك التفريط في ميدان الفرح، فحرم البعض على الناس تنفس الهواء العليل، والإبتهاج بالأعياد ووضع الزينة، فالعبوسة عندهم دين يدان به، والمرح عندهم ضلال، وكل ما يبعث على الحبور هو من وساوس الشيطان، ومثل هذه الشريحة كما يقول الفقيه الكرباسي: "طغى عليها الجمود الفكري مع الأسف فأخذوا يحرّمون كل مظاهر الحزن والفرح معتمدين على أقوال شاذة تاركين وراء ظهورهم فعل الرسول (ص) وأهل بيته (ع) متمسّكين بعمل بعض الصحابة في تعاملهم بالقسوة والجفاء ممن لم يكونوا من أهل بيت الوحي والرسالة".
بهجة الآخر
ومن المفارقات أن البعض يشدد على المناسبات الدينية في أحكامه ويتغافل عن المناسبات الوطنية في بلده، فعلى سبيل المثال يقلل مثل هذا البعض من أهمية الإحتفال بذكرى ميلاد النبي الأكرم (ص) ويضرب صفحا عن الإحتفالات الوطنية من قبيل اليوم الوطني للبلاد، مع أن الإحتفال بذكرى صاحب الرسالة إحياء للنفوس وتذكير للأمة بنبيها وتذكير للبشرية برسول الرحمة الإنسانية، بل إن تذكر صاحب الرسالة الخالدة في يوم ميلاده هو مصداق للمودة والمحبة وإشعار وإشهار بعمق الولاء، كما إن الاحتفال بالمناسبات الوطنية ليس فيه ضير، ولكن ما يصح في المناسبات الوطنية فمن باب أولى يصح في المناسبات الدينية، ولذلك فإن الفقيه الكرباسي الذي يدعو إلى إحياء المناسبات الدينية يرى في الوقت نفسه أن: "المناسبات الوطنية إذا لم تكن منافية للعقيدة لا إشكال من إحيائها".
ولا يقدح بفكرة الإبتهاج بميلاد المعصوم إذا احتفل الآخر غير المسلم بنبيه، فليس هذا من التشبه بالآخر ليكون بدعة محرمة، وإذا كان الآخر لا يقر لخاتم الرسل بالنبوة، فبالقطع فإن المسلمين يقرون لرسول الآخر بالنبوة، بل يذهب الفقيه الكرباسي أكثر من هذا إلى جواز الإحتفال بأعياد الآخر ما لم يخالف العقيدة، إذ: "يجوز إحياء ذكريات أول سنة من التقاويم المختلفة شرط أن لا تكون المناسبة مخالفة للعقيدة، وذلك مثل إحياء رأس السنة الميلادية، ورأس السنة الشمسية"، ويرى أنه: "لا إشكال في إحياء ذكرى ولادة الأنبياء السابقين كالنبي إبراهيم وموسى وعيسى (ع)، ولكن على الطريقة الإسلامية بمعنى عدم الإنخراط في تقاليد الأديان الأخرى المنافية للإسلام".
ومثل هذه المناسبات كما يعلق الفقيه الغديري: "يمكن أن نعتبرها موعداً سنويا لتجديد العهد مع الرب الرحيم بطاعته والإلتزام بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، ولا خصوصية ملحوظة فيها إلا ذلك، إلا إذا عدّ الإهتمام باحتفال رأس السنة في تقويم خاص، من إعانة أعداء الدين فلا يجوز، والواقع الخارجي ليس كذلك، بل وفي الحساب السنوي الشمسي أو القمري أو الميلادي أو الهجري تذكّر وتذكير بأيام الله تعالى، فيشمله قوله الله تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذاريات: 55، و(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) إبراهيم: 5"، ويرى الفقيه الغديري الوجوب من بعض الوجوه للإحتفال بمواليد الأنبياء السابقين على طريق هدايتهم بعدما شاب دينهم التحريف، ولذلك فإن: "إحياء ذكرى مواليدهم- الأنبياء- عليهم السلام بقصد هداية المدّعين لأتباعهم قد يكون واجبا، خاصة في هذا العصر الذي نحن نعيش فيه ووسائل الإعلام الغربي تتهم الأمة الإسلامية بشتى أنواع التهم الباطلة، فيجب على المسلمين الإهتمام الكبير في جلب الآخرين إلى معارف الدين الإسلامي الحنيف وإحياء ذكرى ولادة الأنبياء السالفين(ع) فهي من أحسن الأعمال وأسهل الطرق الموصلة إلى ذلك الهدف السامي".
على طريق التحول
ربما يتساءل المرء: كيف يحتفل المسلمون بأعيادهم في البلدان غير الإسلامية؟
سؤال مشروع، لكون العيد وبخاصة عيدا الفطر والأضحى من معالم المسلم أينما حل وارتحل، فالأمر غير مقتصر على البلدان المسلمة.
في الواقع من خلال التجربة، فإن المسلمين في البلدان الغربية من مهاجرين أو مواطنين خرجوا في السنوات الأخيرة بأعيادهم من المنازل إلى المساجد لتنتقل إلى الساحات العامة، وفي بعض البلدان إلى الدوائر الحكومية كما في بريطانيا حيث يحتفل مجلس العموم البريطاني بعيد الفطر من كل عام بدعوة وجوه وشخصيات إسلامية ومؤسسات فاعلة، فضلا عن اللقاء الجماهيري العام في ساحة الطرف الأغر وسط لندن الذي بدأ الإحتفال به منذ سنوات قلائل، ومثل هذا أخذ دوره في بعض دول العالم، ومع أن الدول الغربية لا تعترف بعطل رسمية للمسلمين في أعيادهم لكن البعض منها مثل بريطانيا بدأت تتفهم ذلك، ولذلك وعلى سبيل المثال تتساهل المدارس بخصوص تغيب الطلبة في عيدي الفطر والأضحى، على العكس في الأيام الأخر فإذا ما تغيب الطالب عن الحضور تجري إدارة المدرسة في اليوم نفسه اتصالا هاتفيا مع الوالدين لمعرفة سبب تغيبه أو تغيبها، بل إن المدارس بدأت في السنوات الأخيرة تسأل الوالدين عن العيدين حتى تكون على بينة من تغيب الأولاد وبخاصة في المدارس التي تشهد كثافة إسلامية ملحوظة.
وبهذا صار الإحتفال بالعيدين واحدا من معالم الحياة في بريطانيا بعامة والغرب بخاصة، على أمل أن تتفهم المجالس الغربية التشريعية ضرورة سن قوانين لاعتبار الأعياد الإسلامية عطلا رسمية، مما يجعل الإحتفال بالأعياد أقرب إلى الوجوب منه إلى الجواز، لأنه إذا عد عدم الإحياء من الجفاء كما يؤكد الفقيه الكرباسي، فإنه في هذه الحالة: "يحرم عدم إحيائها، وحينئذ وجب إحياؤها بمقدار يصدق معه الإحياء"، بل ويذهب بعيدا إلى الوجوب: "إذا أصبح إحياء هذه المناسبات أو بعضها شعاراً للمسلمين أو المؤمنين أو وسيلة للحفاظ على أصل العقيدة، وجب إحياؤها، وكذلك إذا أصبحت وسيلة لترويج الدين"، ولكن بشرط: "إبعاد هذه المناسبات عن المحرمات كالغناء والعزف والرقص واختلاط الرجال بالنساء وتناول المحرمات"، وفي المقابل: "توزيع كل أنواع المشروبات والأطعمة والحلويات فيه أجر وثواب، وبالأخص إذا وزعت على الفقراء"، ولهذا نجد بعض المؤسسات الإسلامية الخيرية في بريطانيا على سبيل المثال تولم في شهر رمضان للفقراء وبخاصة للمشردين من غير المسلمين كتعبير عن المحبة وإنسانية الإسلام في إعانة الفقير، وهو مشروع ينبغي أن يعمم لبيان أهمية الإسلام في متابعة أحوال الإنسان من مسلم أو غير مسلم، لأن الإنسان اخو الإنسان والناس كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) في وصيته للصحابي الجليل مالك بن الحارث الأشتر النخعي (ت 37 هـ) عندما ولاه مصر: أن الناس" صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق"(نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3/605)، وقد سئل النبي محمد (ص): "من أحب الناس إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس" (الكافي: 2/164)، فالمبعوث إلى الناس رحمة يتحدث عن النظير في الخلق لا خصوصية الأخ في الدين.
إن إقامة الإحتفالات وإحياء المناسبات الدينية والوطنية والإجتماعية تعتبر محطة للتزود النفسي والروحي، وهي دعوة للحياة واغتنام مباهجها في الحدود المعقولة، ومن يحظر على الناس الفرح والسرور، يحظر عليهم استنشاق نسيم الحياة!
• إعلامي وباحث عراقي- الرأي الآخر للدراسات بلندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk


Opinions