بعض الحل في: مجلس الوجهاء العراقي
لا يمكن النظر إلى الوضع السياسي الذي آل إليه العراق بعد انتخابات آذار عام 2010 م إلا القول بأن الحكومة المستقبلية برئاسة المالكي أو بغيره والمسماة حكومة الشراكة الوطنية هي واقعها حكومة شراكة مفروضة إقليميا ودوليا بفعل ممارسات داخلية مشبعة بالإثرة والإستئثار من قبل كتل سياسية محسوبة على الطيفين الشيعي والسني والأول بمراهقته كان ممهدا لتعنت الثاني بتمرُّسه، مما جعل تشكيل الحكومة يطول أكثر من ثمانية أشهر ليشكل الرقم القياسي في موسوعة غينيز للأرقام القياسية كأطول فترة يستغرقها تشكيل حكومة، على أن هذا التأخير في واقعه لم يعطل مصالح الناس فلا الرواتب تجمدت ولا الناس توقفت عن الزواج والإنجاب، فحكومة المالكي استطاعت رغم الصعاب الكبيرة والتحديات الجسيمة والمخاطر القادمة من حلفاء الأمس قبل فرقاء اليوم أن تقود سفينة الحياة السياسية، وهذا من عطف الله على الشعب العراقي قبل عطف الساسة المنشغلين بعقد الصفقات الخارجية على حساب الداخل العراقي.ومع أن المشرعين العراقيين لما بعد 9/4/2003م أقروا بأن النظام السياسي العراقي قائم على التعددية في كل شيء بما فيها التعددية السياسية والحزبية، وأنَّ حجم التعددية في مجلس النواب العراقي هو الذي يفرز شكل الحكومة وصورتها، لكن معظم الكتل السياسية لم تستطع حتى اليوم أن تتجانس مع ما تفرزه صناديق الإقتراع رغم أنها ناضلت لعشرات السنين من أجل الوصول إلى لحظة الإقتراع الحر الذي شهده العراق لمرات عدة تحت جنح السيارات الملغومة والقذائف المتطايرة على بغداد من رصافتها وكرخها!
وهذا الواقع يفرض انطباعاً في الأذهان بأن عدداً غير قليل من الساسة العراقيين لم يهضموا لقمة الديمقراطية بصورة سليمة، ولازالت العقلية الذكورية التسلطية بواجهات دينية وإجتماعية ومالية هي الحاكمة على العقلية السياسية العراقية، وبخاصة عند أولئك الذين فقدوا وبشكل ملحوظ حظوظهم في عدد المقاعد في المجالس المحلية ومجلس النواب العراقي عن انتخابات عام 2005 م، ولا يلام مثل هؤلاء على طبيعة تفكيرهم وأدائهم، لأنهم لم يعهدوا الانتخابات داخل كتلهم حتى يقبلوا بنتائج الانتخابات المحلية والعامة، فلو أن زعيم كل كتلة أو مجلس أو تيار جاءت به الانتخابات الداخلية الحرّة إلى سدة الزعامة، فانه من الطبيعي أن يرضى بنتائج الانتخابات العامة ولا يحاول عرقلة تشكيل الحكومة مع علمه التام أن توزيع المسؤوليات من رئاسات ووزارات سيادية وخدمية وعامة يتم حسب النقاط بملاحظة عدد المقاعد بخاصة عندما يكون الفائز في الانتخابات تحالفاً من مجموعة تكتلات وتيارات وأحزاب.
وفي الديمقراطية المتمدنة فان زعيم الحزب الخاسر هو أول من يقدم استقالته من الحزب، ولكن مع هذا لا تعني الاستقالة هي نهاية العمل السياسي، فعلى سبيل فإن وزير الخارجية البريطاني الحالي وليام جيفرسون هيغ (William Jefferson Hague) المولود عام 1961 م كان من قبل زعيما لحزب المحافظين في الفترة (1997- 2001 م) ولكنه استقال عندما فشل حزبه تحت زعامته من تحقيق الإنتصار في الانتخابات عام 2001 م.
ومن الطبيعي فإن الفهم الديمقراطي لم يصل في العراق إلى هذا المستوى من الإدراك، وأول خطوة في هذا المضار إذا أراد ساسة العراق للبلد الخير وللشعب الرفاه أن يتم العمل بالنظام الحزبي بحق وحقيقة أي أن تقام الانتخابات داخل التكتلات نفسها حتى يقتنع الحركي أن الرئاسة داخل مكونه الحزبي ليست سقفا محدودا ومحصورا في شخص أو أسرة أو بلدة بعينها وليست إرثا ذريَّا، وعلى سبيل المثال فإن زعيم حزب العمال البريطاني الجديد إد ميليباند (Ed Miliband) لم يكن بريطانيا أصالة فوالده رالف ميليباند (Ralph Miliband) المتوفى عام 1994 م بولندي يهودي جاء في الحرب العالمية الثانية مهاجرا إلى بريطانيا من بلجيكا، وفي عام 1969 م ولد إدوارد صاموئيل (Edward Samuel) الذي اختصر اسمه إلى (إد) وانتسب إلى حزب العمال وتنقل في المسؤوليات ثم أصبح زعيما له من خلال انتخابات داخل الحزب بعد أن تنافس على الزعامة مع أخيه وزير الخارجية السابق ديفيد رايت ميليباند (David Wright Miliband) المولود هو الآخر في لندن عام 1965 م. ومن المفارقات الحسنة أن مدير الحملة الانتخابية الداخلية لميليباند هو المحامي والنائب المسلم عن منطقة توتنغ (Tooting) جنوب لندن ووزير العدل الحالي في حكومة الظل السيد صادق خان المولود في توتنغ سنة 1970 م، وهو الآخر ليس ببريطاني الأصل فوالده السيد أمان خان سائق باص أجرة باكستاني الأصل.
يا له من موزائيق ديمقراطي جميل: زعيم يهودي مهاجر ومدير حملته الإنتخابية مسلم مهاجر في بلد أكثريته مسيحية وشعار عاصمته "لندن عاصمة التعددية الثقافية". ولا أرى أن العراق سيصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من التعددية الحزبية والسياسية الحقيقية في المنظور العاجل، إلا إذا أراد القادة ذلك، وسيكون أفضل من غيره بكثير بخاصة وأن الله حبا العراق بخيارات جسام.
ولكن بالإمكان إيجاد صيغ متطورة لعراق متطور كبديل عن الحلول الترقيعية والمفروضة على كاهل الدستور العراقي من قبيل المجلس الوطني للسياسات الستراتيجية الذي يراد له أن يكون موازيا للسلطة التنفيذية في العراق التي جاءت بها صناديق الإقتراع، وكل القادة في العراق يعرفون أن هذا المجلس يُراد فرضه على الدستور العراقي كما أن هذا المجلس سيقضم صلاحياته من صلاحيات رئاسة الوزراء وليس من رئاسة الجمهورية أو رئاسة البرلمان، لأن رئاسة الجمهورية محدودة الصلاحيات أصلا كما أن صلاحيات رئاسة مجلس النواب محددة بأطر خاصة ضمن سياق فصل السلطات الثلاث، وبالتالي فإن فرض هذا المجلس على الواقع السياسي العراق هو محاولة مستميتة لتقليص صلاحيات رئاسة الوزراء بغض النظر إن كان في الرئاسة المالكي أو الأديب أو نائب من التيار الصدري، أي بتعبير آخر القضم من رقعة التحالف الوطني الذي يمثل الطيف الشيعي في العراق الذي يمثل أغلبية الشعب العراقي بما يفوق الثلثين.
ومن المفارقات أن زعماء الكتل السياسية من داخل التحالف الوطني العراقي هم أكثر المتحمسين لإقامة مثل هذا المجلس مع علمهم التام أنه وجد أساسا ليس لترضية القائمة العراقية أو شخص الدكتور إياد علاوي، وإنما لتقليص صلاحيات رئاسة الوزراء، بل أنهم أكثر المتحمسين لتوسيع صلاحيات هذا المجلس، وما ذلك إلا ليضمنوا سلطة في داخل السلطة العراقية ويداً عليا على النواب العراقيين، لان المجلس الوطني للسياسات الستراتيجية إذا شاء له أن يرى الحياة سيضم إليه زعماء الكتل السياسية التي لم تدخل الإنتخابات أو أنها فشلت في الحصول على ثقة المواطن العراقي في انتخابات عام 2010 م، وهذه طعنة أخرى للديمقراطية الحديثة في العراق التي يراد لها أن تصبح ديمقراطية إقطاعات أسرية ومناطقية وعشائرية ومذهبية رغم أنف الناخب العراقي.
وفي تقديري أن الأزمة السياسية في العراق بحاجة إلى حل جذري، ولعل واحدة من الحلول كما أراها كبديل عن المجلس الوطني للسياسات الستراتيجية هو أن يصار إلى تعديل الدستور بما يسمح بتشكيل مجلس جديد يكون له حق المشاركة في التشريع ومراقبة التشريعات من قبيل مجلس الأعيان كما كان الحال في العهد الملكي، وكما هو المعمول به في الديمقراطيات الغربية والشرقية كمجلس الشيوخ في أميركا ومجلس اللوردات في بريطانيا ومجلس الأعيان في الأردن ومجلس الخبراء في إيران، وأما التفاصيل فمتروك أمرها لمجلس النواب العراقي يتخذ أعضاؤه ما يرونه مناسباً.
ولا يقولن أحد أن هذا تجاوز على الدستور، لأن الدستور كتبه أناس وهو قابل للتغيير ولكن شريطة أن يكون من داخل المجلس وليس مفروضا من خارجه، كما لا يقولن أحد أن بنود الدستور آيات منزلة، لأن حتى الآيات المنزلة من قبل العلي الأعلى صاحب الإرادة المطلقة والعلم المطلق فيها الناسخ والمنسوخ، فما بالك بدستور وضعه إنسان من بنيات عقله القاصر!
ومثل هذا المجلس الذي بالإمكان تسميته بـ "مجلس الوجهاء العراقي" أو "المجلس الوطني لوجهاء العراق" سيستوعب قادة الكتل والأحزاب التي لم تنجح في انتخابات مجلس النواب أو لم تدخلها أصلا وكذلك سيستوعب وجهاء البلد من كل الأطياف والأعراق، هذا إذا أخذ بنظام التزكية في بعض المقاعد والانتخابات في المقاعد الأخرى، وحتى لو تم الأخذ بنظام التصويت العام على كل مقاعد "مجلس الوجهاء العراقي" فإنه سيستوعب وجهاء البلد، وبالتالي سيصار إلى التقليل بشكل كبير من سياسة الترضية لهذا الطرف أو ذاك على حساب الدستور العراقي وعلى حساب أصوات الشعب العراقي الملزمة طيورها في عنق وكلاء الشعب في مجلس النواب العراقي.
* إعلامي وأكاديمي عراقي، الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk