Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

بنذير بوتو بين الشجاعة والمغامرة

كان مصرع السيدة بنذير بوتو الذي هز الشارع الباكستاني ودوى صداه في الأوساط الدولية مشهداً دراماتيكياً متوقعاً ، نظراً لحالة الإحتقان القصوى التي عمت البلاد واربكت اوساط النظام الحاكم ، ولحدة ردود الفعل عند القوى الإسلامية المتشددة وفي مقدمتها تنظيم القاعدة الذي استنفر قواه في وئد المشروع الذي حملته هذه السيدة الديمقراطية لتحريك الوضع الباكستاني باتجاه التغيير الديمقراطي في البلاد ، ووضع حد لنشاط القوى الإسلاموية التي طبعت باكستان بطابع الدولة الإرهابية وحطت من سمعتها بسبب تحولها الى حاضنة الإرهاب وزعمائه ومدارسه وانتشار فيها مراكز تدريب وتعبئة الطالبان وعناصر القاعدة وقيادتها .
اصرت السيدة بوتو على لعب دور تاريخي في الدفاع عن الديمقراطية في بلادها عن طريق التعبئة السلمية ، لدحر النظام العسكري المتهم بتقاعسه وتماطله في التصدي للنشاط الإرهابي المستحكم في منطقة واسعة من باكستان . ومن أجل ذلك تحدت جميع التحذيرات والتهديدات بشجاعة وعادت الى وطنها المضطرب بعد غياب طويل ، لتواجه منذ أول خطوة فيه محاولة اغتيال ، عبر حادث دام استهدفها وكاد أن ينهي حياتها .. أجل حلت في وسط فوضى عارمة دون حماية تذكر ، رغم أنها طالبت بها من رأس النظام الحاكم الجنرال برويز مشرف ولم يلب طلبها ـ بحسب زعمها ـ طالبت بالحماية لأنها كانت على علم مسبق بأن مهمتها تلك محفوفة بالمخاطر . لكن ذلك لم يمنعها من الإقتحام بشجاعة وهي تزهو بوسط الآلاف من المناصرين لها ولمشروعها في التبديل الديمقراطي .. وجدت نفسها بين حشود كبيرة من الجماهير في كل جولاتها ، تلتف حولها في إعادة الديمقراطية التي يناضل مـن اجلهـا حزبهـا ( حزب الشعب ) الذي أوصل والدها ذو الفقار علي بوتو الى رئاسة الدولة ، عبر انتخابات ديمقراطية في سنة 1971 ليفتح عهداً جديداً بعد عقود من حكم الجنرالات ، لكن سرعان ما شعرت الإدارة الأمريكية آنذاك بخطورة وجود نظام ديمقراطي في بلد مثل باكستان وجدت فيه منطقة نفوذ مهمة لها في شبه القارة الهندية ، بعد قيام دولة الصين الشعبية واتسام الهند بسياسة ممالئة للإتحاد السوفيتي . في سنة 1977 تم الإطاحة بذلك الزعيم الديمقراطي على يد الجنرال ضياء الحق ذي النزعة الإسلامية ، ولم يكتف بتنحية بوتو ( ذو الفقار ) وإنما همَّ بملاحقته حتى برر إعدامه تحت ذرائع وتهم باطلة الصقها به للتخلص منه سنة 1979 حسب ما أملته سياسة امريكا في تلك الحقبة ، وتم التخلص بعد ذلك حتى من ولديه غيلةً بطريقة الإغتيال واحداً إثر الآخر .
مكَّنتْ الجماهير الشعبية بنذير بوتو من الوصول الى رئاسة الوزراء عن طريق الإنتخابات في سنة 1988 تم اقصاؤها بعد فترة وسجنها ، أعيدت للمرة الثانية في مطلع التسعينات ثم انتهت رئاستها أمام هجمة شرسة من المعادين ، وعلى اثرها تم ابعادها عـن منصبها والى خارج الوطن .
لا شك أن ما صممت القيام به الشهيدة بوتو ، كان من تخطيط الدوائر الأمريكية وفق ستراتيجية دعم وتفعيل القوى العلمانية في الشارع الباكستاني ، وتعبئتها تحت قيادة إمراة شجاعة تتمتع بمراس طويل في العمل السياسي ( الجماهيري والسلطوي ) في بلدها ، وتمت دعوتها لهذه المهمة بعد أن اظهرت اندفاعاً للقيام بها ، لتدارك تدهور الأوضاع في وطنها الذي استحال الى مركز تجمع القوى الإرهابية التي تلقى كل الدعم من الأحزاب الإسلامية المتشددة من داخل باكستان وخارجها .
لم تجد أمريكا حلاً آخراً غير هذا ، بعد أن خيّب الجنرال ( مشرف ) ضنها بما يبديه من الضعف في مواجهة الوضع المتردي في بلده ، بسبب تصاعد مد القوى الإسلاميـة ونشاطاتهـا الإرهابيـة ، المد الذي أثار مخاوف الإدارة الأمريكية من وصول هذه القوى الى مراكز القرار في دولة باكستان ووضع اليد على قوتها النووية . وتاتي المخاوف الأمريكية في مكانها إزاء تصاعد نفوذ القاعدة في تلك البلاد وازدياد انتشارها ، كما يدلل ذلك ظهور عناصرها للعيان عبر وسائل الإعلام المرئية ، وهي في حالة التواجد والإنتقال والسيطرة على مناطق ومدن في اقاليم القبائل الباكستانية ، وخاصة في منطقة وزيرستان . وهذا ما يولد شكوكاً بأن النظام الباكستاني من رئيسه والى قواته المكلفة بملاحقة عناصر الإرهاب طيلة الست سنوات ، لم يكونوا جادين بهذه المهمة ، مما ولد قناعة عند العديد في الأوساط الأمريكية المسؤولة بأن ( برويز مشرف ) نفسه لم يفِ بالتزاماته بعد تعهده بتصفية قواعد الإرهاب وتجمعاته في باكستان ، علماً بأنه كان قد تسلم تهديداً شديد اللهجة من الإدارة الأمريكية تنذره به ـ بعد اسقاط حكومة طالبان ـ من مغبة عدم التعاون معها في ملاحقة زعماء القاعدة وعناصرها المتلجئين للتمركز والإحتمـاء في بلـده . وقـد صـرح ( مشرف ) بذلك التهديد مؤخراً أمام الجمهور الأمريكي في احد لقاءاته مع الرئيس الأمريكي في واشنطن .
وتتسرب أرقام من بعض التقارير الأمريكية بمبالغ تقدر بمليارات من الدولارات مدفوعة من قبل الولايات المتحدة للرئيس الباكستاني ، لقاء تبنيه مهمة تصفية الإرهاب ، والنتيجة كانت الفشل الذي كَثُرَ عنه الكلام في الوسط الأمريكي حيث راح يلوِّح عن وجود تماطل واضح عند مشرف في هذا الشأن . وتذهب بعض المصادر المسؤولة في الحكومة الأمريكية الى تفسير موقف الرئيس الباكستاني بمحض مناورة لإدامة حالة الإرهاب ، من أجل إدامة استلام المبالغ بموجب الصفقة القائمة بينه وبين الأمريكان . والحق يقال بأن موقف الحكومة الباكستانية من مسألة ملاحقة الإرهاب ، قد تتداخل فيها مساومات عديدة قائمة على الإبتزاز للحصول على دفوعات كبيرة المبالغ من أمريكا او حتى من مراكز دعم وتمويل التنظيمات الإرهابية وصانعي عناصر الإرهاب ، كالمؤسسة الدينية الوهابية وسالكين نهجها . وإلاّ كيف تستعصي على نظام يرأسه جنرال ، تصفية البؤر الإرهابية التي تزيد انتشاراً ونشاطاً في بلاده وهو المسؤول الأول والأخير في اجتثاث شأفتها . إذ لا عذر له أمام العالم ببقاء بلده منطلقاً لإرهاب عام ، يهدد بتدمير الحضارة الإنسانية . ولا نتصور بأن السيد بوتو كانت تغالي فـي مقدرتهـا ـ التي اعلنت عنهـا ـ على تطهير بلدها من هذه الآفة .
ومن هذا التصور يُعزى سبب الرغبة الأمريكية في التغيير الديمقراطي في باكستان ، لترتيب الأوضاع بالشكل الذي يقوِّض النفوذ الإسلامي السياسي للوصول ، الى إنهاء ظاهرة احتضان قادة الإرهاب والقضاء على العوامل المساعدة لوجودهم ولإنتشار نشاطهم .
لما تكفلت السيدة بوتو بإنجاز المهمة الصعبة القائمة على ستراتيجية قلب الموازين في بلد كبير وذي تاريخ طويل من حكم الجنرالات ، لابد أنها كانت تُقدِّر خطورة المجابهة مع جبهة عريضة من المناوئين لمشروعها ابتداءاً من رئاسة النظام ذي الطابع العسكري ومروراً بالقوى الأصولية الشرسة في بلدها ، وحتى مع قوى إقليمية متمثلة ببعض الأنظمة الشمولية مضافاً اليها شرائح كبيرة من مجتمعاتها التي تدين بالولاء للعقلية السلفية الرافضين جميعاً لمبدأ اضطلاع إمرأة بمأثرة تاريخية في منطقة الأحداث الساخنة ، وطرح نفسها كنموذج في منطقة اسلامية لاتبيح للمراة الظهور بقدرات مثل هذه على المسرح السياسي ، وبنفس الوقت لا يروق لها قيام أي نظام ديمقراطي في بلد عنوانه الجمهورية الباكستانية الإسلامية .
كانت الشهيدة بوتو شجاعة في هذه المواجهة وكانت مؤمنة برسالتها ، ولا نظن شططاً في تعهدها أمام شعبها والعالم بقيادة التغيير ، وإنقاذ بلدها وتطهيره من براثن الإرهاب المتعشش فيه والذي اضر بسمعة باكستان الدولية ، ولعله يسبب لها ما لا تحمد عقباه . ورغم أنها كانت تقود ثورة سلمية لتحقيق مشروعها ، بيد أنها كانت في مأزق خطر تركب مـده بمزيـد مـن الثقـة بالنفس ، الأمر الذي جعلها غير آبهة بالمخاطر وبما كان ينتظرها . نستطيع أن نقول بأن بوتو استهانت بكيد الأعداء ، وإلاً ماذا يمكن أن يقال عن غفلتها التي سهلت استهدافها بذلك الشكل . لقد صرحت بنفسها أنها بدون حماية كافية ، ورغم ذلك كانت تتجول من منطقة الى أخرى مخترقةً الحشود وهي في سيارة مكشوفة محفوفة ببعض الحراس فقط . وبالتأكيد لم يكن لها اي جهاز استخباري يمشط أمامها المناطق التي كانت تؤمها ، وتلقي على الجماهير هناك خطبها النارية . ومن هذا المنظور يمكن القول بأن الشهيدة بنذير بوتو جمعت بين الشجاعة والمغامرة . Opinions