بين الثورة الفرنسية و "الثورة" العراقية
-1-في 7/3/2010 ستجرى الانتخابات التشريعية في العراق. ومنذ نهاية عام 2009 بدأ الهجوم والتشكيك في صحة هذه الانتخابات من جملة أعداء العراق في الداخل والخارج. وكما تمِّ للانتخابات التشريعية الماضية في عام 2005 من حملات تشكيك ومعارضة وإرهاب وتهديد للمقترعين الذين بلغ عددهم 15 مليوناً، والذين تحدوا الإرهابيين، وجاءوا زرافات ووحداناً، ومنهم من جاء على كرسي العجزة، ومنهم من جاء محمولاً، أو يتكئ على عصا. وكانت ملحمة ديمقراطية رائعة في ديسمبر من العام 2005، رغم ما تخللها من متاعب وعقبات وتهديدات بالقتل والخطف.
-2-
قد يستغرب الكثيرون، وربما يستهجنون أيضاً من عنوان هذا المقال، في ربطنا بين “الثورة” العراقية فجر التاسع من نيسان 2003 ، والثورة الفرنسية 1789 التي دوّت في أوروبا كلها، وفي العالم أيضاً. وكان لها أثرها السياسي الكبير على معظم البلدان الأوروبية.
ويلاحظ القارئ، بأننا وضعنا كلمة "ثورة" عند نسبتها للعراق بين مزدوجين تحفظاً على هذه التسمية السياسية التاريخية. إذ لم يتم البحث والاتفاق بعد – فما زال الوقت مبكراً جداً - على أن ما حصل فجر التاسع من نيسان 2003 ، كان ثورة بالمنطق التاريخي الجديد للألفية الثالثة، وللقرن الحادي والعشرين.
فالبحث فيما حصل في العراق في 2003 مهم جداً، فيما لو علمنا أنه إذا صلُح العراق فقد صلُح العرب، لأن العراق على مدار التاريخ العربي – الإسلامي، كان منبت أكثر من 80% من الثقافة العربية - الإسلامية، خلال 15 قرناً مضت.
-3-
من المؤكد، أن ما أُطلق عليه "ثورة" من حركات سياسية شعبية في القرون الماضية والأمكنة المختلفة، كانت له مواصفات سياسية وتاريخية وثقافية واجتماعية مختلفة عما حصل في العراق عام 2003، وعمّا سيحصل في بلدان أخرى، خلال القرن الحادي والعشرين، وما سيتبعه.
-4-
وسوف ينكر علينا كثير من المنكرين، ربطنا بين الثورة الفرنسية وما جرى في العراق من "ثورة" فجر التاسع من نيسان 2003. وأولى مقدمات هذا الإنكار أن الثورة الفرنسية، كانت ثورة شعبية، قام بها الشعب الفرنسي ضد أسرة البوربون التي حكمت فرنسا طيلة مائتي سنة (1589- 1789)، وامتصت ثرواته وخيراته، وعاثت به فساداً، وظلماً، وطغياناً. في حين أن "الثورة" العراقية، جاءت على ظهر الدبابات الأمريكية – وهي أمنية لكثير من الشعوب العربية، ولكنها لن تتحقق، لأن هناك أمريكا واحدة، و"بوش" واحد - وتمَّت الإطاحة بصدام حسين بواسطة جيوش أجنبية، وليس بقوى شعبية ثائرة، كما تمَّ في الثورة الفرنسية.
وهذا صحيح وواقعي.
ولكن، هل لو لم يكن الشعب العراقي موافقاً، وراضياً، ومرحباً بالقوات الأجنبية التي غزت العراق، وكانت غايتها الأساسية الإطاحة بحكم صدام حسين، وبناء الدولة العراقية الجديدة، ثم الانسحاب من العراق، كما تقرر مؤخراً من قبل إدارة أوباما.. الخ. هل كان باستطاعة هذه القوات غزو العراق؟
وهل كان سيسكت الشعب العراق على وجود هذه القوات، ولا يقوم بمقاومتها، بكل فئاته، ومن كل مناطقه وأقاليمه؟
-5-
قد يقول بعضهم: "لقد قام الشعب العراقي بمقاومة الغزاة، والدليل أن "المقاومة" مستمرة منذ 2004 إلى الآن.
فهل حقاً أن الشعب في العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، يقوم بكافة فصائله وطوائفة بمقاومة الجيش الأمريكي خاصة، والحكومات العراقية المتعاقبة، منذ تسليم الحكم للعراقيين، كما فعل الفرنسيون مع الغزو النازي، لبلادهم عام 1940 إبان الحرب العالمية الثانية؟
أم أن "المقاومة" العراقية كانت مجموعات من الإرهابيين العرب، وبعض العراقيين، تدفقوا على العراق من كل حدب وصوب، منهم من يريد إقامة الخلافة الإسلامية، ومنهم من يريد عوة حكم البعث في العراق، ومنهم من يريد إقامة دولة خمينية شيعية.. الخ.
-6-
ما حصل في العراق عام 2003 من "ثورة" سياسية، سيتبعها حتماً ثورة اجتماعية وثقافية، لم يُكتب بعد، ولم يُؤرخ له بعد.
فدور المثقفين والمفكرين والكتَّاب والشعراء والصحافيين والقادة السياسيين، فيما حصل فجر التاسع من نيسان 2003، لم يُحلل بعد، ولم يُكتب بعد. علماً بأن تفوّق العراق في الشعر العربي الحداثي (الجواهري، والسيّاب، والبياتي، والملائكة، والحيدري، وسعدي يوسف وغيرهم) تفوقاً كبيراً، وظهور شعراء عظام، قادوا الحركة الشعرية العربية الحديثة، فيما أطلق عليه البعض "الاستبداد الشعري"، قد حجب بشكل أو بآخر، نتاج الكثير من المفكرين السياسيين العراقيين المنتشرين في الجامعات العراقية المختلفة، ومعاهد المعلمين كجواد علي، وفيصل السامر، ونوري جعفر ومحمود البريكان، وسيَّار الجميل، ومثال الآلوسي، وإياد جمال الدين، وغيرهم الكثير من المفكرين، الذين أثروا تأثيراً كبيراً في الوعي السياسي العراقي قبل "ثورة" 2003 وبعدها.
-7-
صحيح أنه لم تظهر في العراق الفردية الفكرية والفلسفية السياسية الواحدة المتفردة. كما لم يظهر في العراق فردٌ واحدٌ منفردٌ أشهر كفيلسوف سياسي، من وزن فولتير، أو جان جاك روسو، أو مونتيسكيو، أو دينس ديدرو. ولكن ظهرت كوكبة المفكرين السياسيين التنويريين العراقيين الرافضين للديكتاتورية والصداميّة خاصة، التي كانت على غرار الديكتاتورية البوربونية الفرنسية. وكان صدام حسين – ككثير من حكام العالم العربي - كالملك المُطلق بالحق الإلهي المقدس غير المتوَّج، والخليفة القاهر بالله غير المُستخلف. وهذه الكوكبة من المفكرين هي التي مهّدت الطريق، بل وفتحتها في الوعي العراقي السياسي الجمعي، لما تمَّ فجر التاسع من نيسان 2003.
فسقط لويس السادس عشر، وسقط صدام حسين مثله، وقال الفيلسوف هاليناكس:
" إن الشعب قد يترك الملك يسقط، لكنه يبقى مع ذلك شعباً. ولكن الملك إذا ترك للشعب أن ينفضَّ من حوله، فحينئذٍ لا يبقى ملكاً."
(وللموضوع صلة).