بين الرافضين والمؤيدين ظهرت الحقيقة وغابت السيادة
إن مدلول مفردة السيادة لا يعني حصرا معناها التقليدي المتعلق بإستقلالية الحكومة أو الدولة او الحزب فحسب ، بل يذهب أبعد من ذلك ليشمل كينونة المواطن كوحدة إجتماعية متحرّكة مع متغيّر الزمن لتطوِر وجوده و وتحقق سيادته التي تتحدد درجتها طبقا لإمكاناته الفكرية والمادية ، وتأسيسا على هذا المفهوم ، إتفق علماء النفس و الإجتماع على أن قوام المواطن وقدراته الفردية تشكل حجر الزاوية في ، أولا ً بناء العائلة الناجحة المتسيّده على قراراتها و المحصِّنة لخصوصياتها ، ثمّ بتلاحمها مع العوائل الأخرى وتراصفها الجماعي في إحترام القانون والنظام المعمول به في ذلك (الزمكان) تنطلق رحلة بناء المجتمع المتطوروالمتمكّن من بناء دولة ً وحكومة ذات سيادة كاملة .الإتيان بمفهومنا أعلاه و تطبيقه على حال مكوننا القومي (الكلدواشوريالسرياني) في داخل الوطن وخارجه ، سيؤدي بنا إلى معرفة حقيقة علمية مفادها أن تنوّع التخبط الحاصل هو نتاج بديهي لثقافة التبعية الفكرية الموزعّه مابين تأليه الكنيسة المنشغلة بتخندقاتها المذهبية من جهة وتصادمها مع تقدميّة الفكر الشيوعي المادي العلماني من جانب أخر وبين هذه وتلك برزت وبشكل فجائي حاجة المرحلة للفكر القومي التي تبدو خجولة ومتأخرة علاوة على إرتباكها لدى البعض .
لمزيد من التوضيح نقول ، من يتابع عقود تاريخ النضال القومي الأشوري و(ليس الكلداني)، في بدايات القرن الماضي ، يتحسس وبشكل ملموس غلبة البصمة الكنسية التي إستحوذت على ريادة الدور في تحريك الناس و(تأجيج) العمل القومي، وهي (الكنيسة) في نفس الوقت تعاني تحت تأثير الإنشقاقات المذهبية ، إذن كانت البصمة الدينية قد فرضت نفسها_في فترة التسلط الروحي _ على معظم ما يتعلق بالشأن القومي الآشوري وتجييره لصالح مؤسستها ، ولأن الصراع الديني في حينها كان في أوج عظمته وهو شغل رجالاته الشاغل، مما تسبب في ذوبان وتقهقر الفكر القومي أمام مصلحة الكنيسة ، فالكنيسة كما هو معلوم ، بقت و لقرون عديدة بمثابة المؤسسة او الشريحة النخبه التي إنفردت في قيادة مجتمعها الذي قسّمته بعد أن تقاسمته مذهبيا ، بحيث ظل الحافز الأقوى في كل ما نادى وقام به رجالات الدين الكنسيون آنئذ مسّخرا لهدف إبقاء سلطانهم الروحي قويا ومتسلطا تارة عبر إثارة الخطاب الدفاعي عن مفهوم المسيحية وتارة أخرى عبر إستغلال الشأن القومي في الوقت الذي كانت كنيسة المسيح تقود سلسلة إنقسامات مذهبية متتابعه على أيدي رجالاتها لدرجة جعلتها تتعامل بتأرجح سواء في تحالفها أو تضاددها مع العثماني المسلم السني و المسيحي الروسي الأرثودوكسي والمبشر الكاثوليكي الإنكليزي والفرنسي وهكذا الفارسي الشيعي حسب ما تقتضيه مصلحتها (الكنسية) في غياب لدور المثقف السياسي وفكره القومي الحقيقي، فعلت الكنيسة كل ذلك فقط من أجل إبقاء التيجان والكراسي والصلبان مرصّعة بالذهب الخالص تحت شمّاعة قدسية الكنيسة و ألوهية راعيها الأول سيدنا المسيح له المجد .
في العمل السياسي كما هو دارج ومعروف ، يفترض بالناشط الواعي أن يأخذ العبرة من تجارب الماضي الفاشلة والناجحة على حد سواء تفاديا للفشل وتحاشيا لمآسيه ، لكن الغريب الذي يحصل اليوم هو عملية مطابقة لسابقتها ، مع الفارق أن الذي يسعى اليها اليوم هم البعض من دعاة اليسارية الذين يصرّون على إعتقادهم ان زج الكنيسة هوعامل قوة لهم مستنسخين بذلك نفس تلك التجارب الفاشلة التي نعيش مخلفاتها اليوم هذا لو عفينا اليساري عن أحكام فكر اليسارومستحقاته .
نعم، إن المنادين بالتسمية الكلدانية كقومية ( ممثلين بالكنيسة وفريقها المدني العلماني المرتبك ) حيث الخلط الواضح ما بين إعتماد تصريح رجل دين يبحث عن فعالية لخدمة مذهبه (الكنسي) وحكر صينية التبرعات(التپسية) ، وبين ناشط متذبذب يستهوي كسب الشهرة ملتحفا من شعار النهضة ( القومي) درعا له للولوج وسط الجموع دون تمحيص و لا دراية بما يفعل .
لقد بدأ الإخوة من دعاة اليسارية والعلمانية مشوارهم (القومي) بخطأ إعتماد الخطاب الكنسي( الكاثوليكي) في طرح مشروعهم القومي(الكلداني) ، وهذا أول مؤشر دامغ يؤكد مدى جهلهم او تجاهلهم لدور وثقل الصراع الكنسي المذهبي الكاثوليكي واللاكاثوليكي الذي طال قرونا وتسبب في تقسيمنا و قتلنا و تهجيرنا ، واليوم يريد منا الإخوة ان نساندهم ونصفق لمسعاهم في إعادة إقحامنا بتجربة ماسوية سبق و فشلت فيها الكنيسة الاشورية ، يوم زجت بجسدها الروحي في إدارة صراع التحرر القومي الاشوري، و حقيقة الامر نؤكدها ونكررها هي أن الكنيسة كانت ترى في حشر دورها في الشأن القومي خيارها الامثل للبحث عن طريقة لتعبئة وتحشيد لمقاومة المذهب الكنسي الجديد والمغايرليصل بهم الامر الى كسب حلفاء لها على حساب الحق القومي التاريخي وهذا ما يحصل امام أعيننا اليوم .
أليوم وعالمنا يشهد منجزات الفكر العلماني ، يريد منا مثقفونا من دعاة الحق القومي الكلداني أن نبصم على أحقية الكنيسة(المذهبية) في تقدّم الركب المنادي بالحق القومي الكلداني ، ويريدوننا ايضا تصديق طرح القائد الروحي الجليل الذي نصّت أطروحة بحثه التي نال فيها شهادته العليا في عام 1959 على اننا كنا شعبا واحدا ، و بجرة قلم وعلى لسانه اصبحنا بليلة وضحاها ثلاث قوميات منفصله ، كيف يعقل ان يتجاهل مثقفينا هذا الأمربهذه السرعة و السذاجة ؟ و كيف تكون السفسطة السياسية إن كان جهدها إلقاءتبعات الصراع المذهبي على كاهل شعبنا يا مثقفينا وكتابّنا الأعزاء ؟
أمّا مطراننا الجليل الذي إعتاد أهلنا سماع كرازاته المطمئنة على وحدة شعبنا كما كان يؤكد من ديترويت وسندياغو ،قائلا بملئ فمه بأن الكلداني هو الاشوري ،والاشوري هو الكلداني لافرق بين الإثنين وليس من اي سبب يفرقهما، ما الذي تغيّر إذن؟ بحيث يصبح الواحد الموحد في الأمس يساوي إثنين وثلاث ؟ يتبين لنا بكل تاكيد ، بعد أن فشل القادة الكنسيين (وليس عامة الناس ) في توحيد مذاهب كنائسهم عادوا الى نبرة التصعيد مستخدمين كل ما في متناولهم من اجل المذهب ليس غير، أنا من جانبي أستغرب (إن كنا مثقفون علمانيون ) وأتساءل ثانية وثالثة ورابعة عن سبب إندفاعنا نحو تبنيّ مشروع نصرة مذهب كنسي على آخر وإدارة صراعه مع الأخر في الوقت الذي ننادي بالنهضة القومية التقدمية ووحدة مصيرها ، أليس في ذلك إجحاف بحق ما ندعيه باطلا بالنهضة القومية؟
فبدلا ًمن أن يتعظ الإخوة ويستفيدوا من تجاربنا السابقة و تجارب المحيطين بنا في العراق، إختاروا أسهل الطرق لتحقيق ما يجول بداخلهم ، وهو ليس أمرا قوميا ولا وطنيا ، حيث منطق العصر المتحضر يلزم كل داعية مثقف وسياسي إن كان لا يحبذ الإنتظام في تنظيم حزبي ، أن على الاقل يصطف مع ما هو علماني صميمي تصان فيه حقوق المتدّين و يحفظ به حق الإنتماء للوطن والقومية ،ولو شاء مثقفنا تشكيل خط سياسي قومي ، يجب عليه إعتماد هذا النهج العلماني المتقدم في معاضدة التوجه العصري والمتحضر.
أن ننتقد و نعترض ونحتج فتلك ظاهرة إنسانية، لكن ضد من؟بالتأكيد ضد من يسعى الى تدميرنا و تهميشنا وتقسيمنا كي يكسرنا ويهضمنا بسهولة( هذا في حال لو كنا نقفه فائدة الوحدة في هذا الوقت بالذات و نؤمن كوننا شعب واحد لا عدة شعوب)، لكن أن نعترض ونحتج ضد من يشارك مشكورا( وليكن ذلك بحسب ما تقتضيه مصلحته) في تعضيد وحدتنا وتقوية وجودنا لمجرد ان النداء صدر من ممثلينا في البرلمان الكردي او من رجل محسوب على الأشوريين (سركيس اغاجان) ، فذلك لعمري خلط للأمور لا أكثر ، رغم اني شخصيا لست من مؤيدي النهج السياسي الذي ينتهجه السيد اغا جان وهكذا لنا الكثير من الإعتراضات على البرلمان الكردي، لكننا لسنا ملزمين ولا بمحسودين حين نرفض إعترافهم وإقرارهم الطوعي بنا على اننا شعب واحد لا يقبل القسمة، لابل علينا ان نصحو بعد أن نشكرهم بروتوكوليا ، ثم نسارع الى إستثمار إقرارهم أيّا كان صانعه للمضي به قدما نحو توليف وتوحيد خطابا سياسيا بعيدا عن تدخل الرموز الدينية ، لان لنا في ذلك تجارب مريرة كما اسلفت .
لذلك نتساءل عن أي منطق إعتمدنا في مطالبة قياداتنا الدينية كي تغامر مرة اخرى في زج خطابها الديني لتمارس الضغط على المسؤولين السياسيين الأكراد وبإلحاح من أجل إقرار تقسيمنا و إدراجنا تحت تسميات منفصلة؟ أي خير نرجوه من هكذا مساعي؟ وماذا سيكون رد فعل الساسة الأكراد حين يهب بطاركتنا يطالبون وبإلحاح على تعريفنا بأننا ثلاث قوميات؟ أنا ارى في ذلك والإخوة الساسة الأكراد يعلمون جيدا، بأن ما يهمّ قيادتنا الدينية هو السبيل ألى ضمان سلطانها المذهبي على عناد المذهب الآخر ولهذا تعددت خطاباتهم وكثرت تناقضاتها ،أما توحيد شعبها(الكلدواشوريالسرياني) المسيحي فلا يهمها بأي شكل بل العكس هو الصحيح المثبت ، وكأن لسان حال رجال ديننا يقول بأن نصرة المسيح المخلص ورسالته لا تتحق و لا تتقدس إلا في تقسيمنا قوميا الى ثلاث او اربع فصائل كي يحفظ المسيح مذهبه الكنسي الذي يقوده ويتبناه ؟؟
نعم هذا هو أخطر ما كنا نخشاه ، ليس على شعبنا فقط، بل حتى على مستقبل ومكانة وسمعة كنيسة المسيح التي عرفها العراقييون وهي تنصر وتساعد من لا صلة لهم بالمسيحية ، بينما حين يأتي الدور على ابناء كنيسة المسيح يمسكوا بيدهم السيف والمعول وينهالوا تقطيعا بشعبنا وهدما بمجتمعه.
الذي يعتقد بأن في هذه التهافتات المرتبكة ملامح أمل لإنهاض شعبنا وتغيير واقعه فهو واهم جدا، والواهم الأكثر هو من يعتبر ان نكباتنا في التاريخ كان سببها الأوحد أطرافا خارج مكوننا وبلدنا. فالدلائل كلها تؤكد اننا أضعنا سيادة كلمتنا على ارضنا بسبب تسلط تاريخي غير متوازن لمؤسسة الكنيسة على مجمل تفاصيل حياتنا اليومية بينما العالم اليوم يخطو حثيثا نحو فصل الدين عن السياسة كي تبقى قدسية الكنيسة محفوظة ومصانة برزانة رجالاتها ووعي ابناء رعيتها.