بين لغتين
الاولى؛ هي لغة الأرقام والإحصاء. والثانية؛ هي لغة الإنشاء والتهريج.
الاولى؛ تقودنا الى لغة المنطق والعقلانية والوعي المعرفي والبناء السليم، والثانية: تقودنا الى التحشيد والتجهيل والتعمية والتضليل والخداع.
لذلك نرى ان الشعوب المتحضرة تعتمد اللغة الاولى، اما الشعوب المتخلفة فتعتمد اللغة الثانية.
والناس على صنفين: الاول، وهو الذي يكره لغة الأرقام لان مشاريعه قائمة على تضليل الناس وحشدهم خلف القائد الضرورة، اما الثاني، فيكره اللغة الثانية، لان مشروعه قائم على المعرفة والوعي الحضاري.
الذين يكرهون اللغة الاولى، هم الذين تزعجهم الأرقام والإحصائيات، ولذلك تراهم يواجهون هذه اللغة اما بالتشكيك او بتغيير مسار الحديث او انهم يعتبرونها مسيّسة مثلا او تقف وراءها مؤامرة دولية تقودها الصهيونية العالمية، فلم ترَ اي منهم يناقش الأرقام مثلا او النتائج او ما أشبه، ابدا.
اما الذين يكرهون لغة التهريج، فتراهم يعتمدون العلمية في البحث والتحليل، والتي لا تنتجه الا الأرقام والإحصائيات.
الطغاة، او مشاريع الطغاة، هم الذين يوظفون لغة التهريج في خطاباتهم، فترى الناس (سكارى) وما هم بسكارى، يطربون على خطابات جوفاء ومشاريع وهمية وتحشيد أعمى، لان الطاغوت ليس بحاجة الى شعب واعي، وإنما الى قطيع من الأغنام تلهث خلف سيارة (القائد الضرورة) بلا وعي وتصفق له بلا سبب، ولقد نهى الاسلام عن ان يكون الانسان، الذي خلقه الله تعالى فأحسن خلقه وكرمه، إمّعة، فقد ورد عن الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام قوله لفضل بن يونس {أبلغ خيرا وقل خيرا، ولا تكن امّعة، قلت: وما الامّعة؟ قال: لا تقل؛ أنا مع الناس، وانا كواحد من الناس، ان رسول الله (ص) قال: يا أيها الناس، إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر احب إليكم من نجد الخير}.
عندهم، فان المعلومة حجر الزاوية عند التفكير والتخطيط، اما عندنا، فالمعلومة قيمتها بأقل من قيمة البصلة الفاسدة.
نقل لي صديق صدوق بدرجة بروفيسور يعمل في احدى دوائر الإحصاء التابعة للحكومة الأميركية، يقول:
ذات مرة، زار دائرتنا الوزير المعني، وكان عليّ، بصفتي رئيس قسم، ان اقدم له موجز مضغوط عما لدي من احصائيات تخص مجال عملي، فلما وصل الوزير في جولته على أقسام الدائرة إليّ، لخصت له الحال التي تشير اليها الأرقام المتوفرة عندي بكلمتين، فقلت له: السيد الوزير: انها تشير الى زيادة بسيطة جدا في عدد العاطلين عن العمل.
لم ينته الدوام الرسمي ذلك اليوم، الا وقد انقلبت الوزارة رأسا على عقب، ففي الحال استدعاني الوزير وشكل لجنة من الأخصائيين لدراسة الإحصائية التي تجمعت عندي والوقوف على الأرقام والأسباب وطرق معالجة آثارها السلبية.
اما في بلادنا، فإذا كتب احد مقالا إحصائيا، فلم ترَ احد يسال عنها او يدرسها او يأخذها بنظر الاعتبار وإنما ترى (المعنيين) اما يشككون او يسيّسون المقال او طعنون بالنوايا، فيضيّعون الفكرة والمعلومة على الرأي العام، خوفا من الوعي الذي تتركه لغة الأرقام.
ان لغة الأرقام والإحصاء علم عظيم قائم بذاته في البلاد المتحضرة، ولذلك فان مشاريعهم علمية وعملية في آن، ليس على المستوى المدني فقط وعمليات الاعمار والبناء والتكنولوجيا، وإنما على مختلف المستويات، كالتعليم والصحة والبيئة والمرور وغير ذلك، فمثلا، عندما تجري الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، ترى ان مختلف المؤسسات تتسابق بلغة الأرقام والإحصاء الى (تفليس) العملية الانتخابية وعلى مختلف الأصعدة، ولهذا السبب ترى ان الوعي الانتخابي يزداد باضطراد يوما بعد آخر، حتى دخل الأسود الى البيت الأبيض، ولأول مرة في تاريخ البلاد.
اما عندنا، فقبل وبعد كل عملية انتخابية تشهدها البلاد تسيطر على الشارع لغة التهريج والحشد وغسيل الأدمغة، فيما تغيب لغة الأرقام والإحصاء بشكل مرعب.
لابد ان تدخل لغة الأرقام والإحصاء في ثقافتنا، فنتعامل معها في كل ما يخص حياتنا، لنحقق قراءات سليمة لاوضاعنا، وننتبه الى الخط البياني بشكل دقيق، فنعرف، علميا، من اين؟ والى اين؟ وكيف؟ ولماذا؟ وبماذا؟.
ان لغة التهريج لن تبني دولة ابدا، اما لغة الإحصاء فهي التي تقودنا الى بناء الدولة والمجتمع على أسس سليمة، ولذلك وردت في القران الكريم الإشارة الى هذه اللغة بشكل إيجابي كبير لأهميتها، كما في قوله تعالى {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} اما لغة التهريج فقد تحدث عنها بالسلب في قوله تعالى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى* فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ}.
٢٢ مايس (أيار) ٢٠١٤
للتواصل:
E-mail: nhaidar@hotmail. com
Face Book: Nazar Haidar
WhatsApp & Viber: + 1 (804) 837-3920