تحية الى (السيدة)
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COMلعلها المرة الاولى التي ينصف فيها الاعلام العربي (الدراما التلفزيونية تحديدا) الشعب العراقي المظلوم، ربما لان كاتب القصة والسيناريو والحوار هذه المرة مواطن عراقي هو الزميل حامد المالكي، الذي قدم للمشاهد العربي خلال شهر الله الفضيل رمضان الكريم، واحدا من افضل الاعمال الدرامية بعنوان (السيدة) والذي عرضته قناة (سوريا دراما) الفضائية.
فلقد ظل الاعلام العربي، خاصة الطائفي منه والعنصري، يطعن بكل شئ اسمه العراق، خلال السنوات السبع التي اعقبت سقوط الصنم في بغداد، في مسعى منه لتشويه الحقائق وتقديم صور سيئة الى الراي العام العربي تحديدا، فيما ظل هذا الاعلام يتجاهل معاناة العراقيين مع النظام الشمولي البوليسي البائد، وسياساته الرعناء التي اعتمدت القتل والملاحقة والاعتقال والتعذيب والحروب العبثية، والتي اضطرت الكثير من العراقيين الى الهجرة الى خارج بلادهم هربا من بطش الديكتاتورية، والنجاة بجلودهم، من دون ان تستقبلهم حتى الدول العربية التي ترفع شعارات العروبة والاسلام، والتي وقفت الى جانب نظام الطاغية تعتقل من يلجا اليها من العراقيين وتسلم من تطالب به اجهزة النظام القمعية، ليتم نقله بالحقيبة الديبلوماسية الى العراق ليقتل هناك، وقد تتم تصفيته في البلد (المضيف) بكاتم صوت على يد احد ازلام النظام البائد اذا اقتضت ضرورات العجلة والاستعجال والظروف الفنية، كما حصل للكثير من المواطنين العراقيين خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، طبعا باستثناء الشقيقة الجمهورية العربية السورية التي احتضنت العراقيين وامنت لهم حياة كريمة، فامتلأت منطقة السيدة زينب في ريف دمشق بهم، وهي محور احداث الدراما.
ولقد نجح مسلسل (السيدة) في تسليط الضوء على كل الحقائق التي سعى الاعلام العربي الى اخفائها عن الراي العام، واحيانا قلبها راسا على عقب، منها على سبيل المثال لا الحصر:
اولا: عظمة المعاناة التي عاشها العراقيون في ظل نظام الطاغية الذليل صدام حسين منذ ان نزت عصابته على السلطة في بغداد بانقلاب عسكري (سرقة مسلحة) في 17 تموز عام 1968.
ثانيا: السياسات اللاانسانية التي مارستها الديكتاتورية ضد العراقيين الذين حاولوا معارضة النظام ولو بشق كلمة، كالقتل والتغييب في مطامير السجون والملاحقة والاغتيال، لتنتهي بالمقابر الجماعية والانفال والحرب الكيمياوية المحرمة دوليا، كما حصل في مدينة حلبجة الشهيدة.
ثالثا: اماطة اللثام عن سياسات التمييز الطائفي التي كان يمارسها النظام البائد، ليس مع المواطن العادي فحسب، بل حتى مع اعمدة الحكم، فعندما لا يكون ارفع مسؤول في الدولة، في الاجهزة الامنية عصب النظام الديكتاتوري مثلا، من مذهب (القيادة) على حد وصف المسلسل، او من نفس البلدة، فان صاحبه يتعرض للتمييز الطائفي والمناطقي والطعن والتشكيك في انتمائه الوطني، فما بالك بالمواطن العادي؟.
رابعا: اعتبار ان ما حدث في التاسع من نيسان عام 2003 هو سقوط للديكتاتورية ولذلك استبشر العراقيون خيرا اذ اعتبروا سقوط الصنم بداية تغيير مرجو يبرق فيه الامل بحياة افضل ومستقبل واعد.
خامسا: نقد الاعلام العربي (الفضائيات) على لسان حتى العراقيين الذين يعيشون بعيدا عن بلدهم، والذين يتهمونه بالتضليل والانحياز ضد عملية التغيير التي حصلت في العراق، من خلال التغاضي عن كل ما هو ايجابي، وتهويل السلبيات وتصوير العراق وكأنه ساحة حرب مفتوحة بين المواطنين.
سادسا: اظهار التغيير الكبير الذي حصل في العراق خلال الفترة الممتدة بين 2006 و 2010، ان على الصعيد الامني او المستوى المعيشي او غير ذلك، وهي الفترة الزمنية الاخطر التي مرت على العراق بعد سقوط الصنم، والتي حاولت خلالها جماعات العنف والارهاب الوافدة من الخارج والمتحالفة مع ايتام النظام البائد، تفتيت اللحمة الوطنية واثارة الحرب الطائفية والقتل على الهوية، لولا ان من الله تعالى على عباده في العراق بالحكمة والصبر ليتجاوزوا المرحلة بسلام، بالرغم من عظم الثمن الذي دفعوه بسبب ذلك.
سابعا: اظهار حرص العراقيين على بناء بلدهم على اسس سليمة، والسعي الحثيث لتصحيح الاخطاء التي حصلت بعد سقوط الصنم، ولذلك فالمواطن العراقي يهدد ابن عمه اذا ما فكر في العمل كـ (مزور) للوثائق وغيرها، رافضا ان يكون تعميم الخطا وانتشاره في المجتمع وفي دوائر الدولة الجديدة باعثا على السكوت عليه او التمادي فيه والاسترسال معه، فالخطا قد يكون خطيئة اذا اضر بالصالح العام.
ثامنا: توضيح اسباب العلاقة الحسنة بين المواطن العراقي العادي والاميركان من اجل انجاز مصالح الشعب العراقي والدفاع عنها، والتي دفعت بالعراقي المغترب الى ان يتفهم ذلك بلا ريب او تردد.
تاسعا: الكشف عن ان عناصر العنف والارهاب الذي اجتاح العراق وتورط بدماء العراقيين الابرياء، ودمر البنى التحتية هم اما من العناصر التي تسللت من خارج الحدود لتدمير العراق والعملية السياسية الجديدة، او من العناصر المنحرفة والفاشلة المشبعة بروح الانتقام، التي تتقلب في توجهاتها وانتماءاتها حسب المصلحة الشخصية بعيدا عن روح الشعارات التي ترفعها كالمقاومة والجهاد وما اشبه.
عاشرا: لقد ارخ العمل لواحدة من اكثر المآسي الانسانية التي مرت على العراقيين وهم يحاولون الهرب من نار الاستبداد والديكتاتورية، الا وهي غرق السفينة التي كانت محملة بمئات العوائل العراقية المظلومة في عباب البحار، ما ادى الى استشهاد كل من كان على ظهرها.
ولقد ادى الفنان العراقي جواد الشكرجي دور الضحية كانموذج عراقي على احسن وجه.
وبهذه المناسبة اتمنى ان يتذكر العراقيون هذه الماساة كشاهد على ظلم النظام البائد للعراقيين، بنصب تذكاري مثلا، كما اتمنى على الحكومة العراقية ان تكرم ذوي الضحايا بصورة من الصور.
كلمات الشارة التي كتبها للمسلسل الشاعر العراقي ضياء الميالي، هي الاخرى نجحت بامتياز في تصوير الوجع العراقي على احسن وجه، فالكلمات المعبرة والراقية التي استعملها الشاعر عبرت بشكل دقيق عن آلام العراقيين ومعاناتهم وظلم الزمن لهم، في اشارة منه الى ما ظل يقدمه العراقيون من خيرات بلادهم الى بقية الشعوب العربية، التي انكرت عليهم الجميل عندما احتاج العراقيون لمن يقف الى جانبهم في معاناتهم الكبيرة، على الاقل بتفهم ما يجري ووعي الحقائق وليس طمسها وتشويهها والوقوف ضد معاناتهم وتسقط عثراتهم، هذا اذ لم يكن الامر موقفا معاديا يشجع الارهابيين للسفر الى العراق لقتل الناس وتدمير الحياة.
لقد قدم العمل بدور الحاج نعمة (ابو سعد) نموذجا رائعا لشخصية الانسان العراقي الطيب والناجح والمتزن والمسالم والعاقل والحكيم، بالرغم من ظروف الغربة القاسية والهجرة خارج الوطن، والذي يحب الخير للاخرين بلا تمييز او تعصب، القادر على حل مشاكله ومشاكل الاخرين بعقليته المنفتحة وخبراته المتراكمة واتزانه وهدوئه واستيعابه الصحيح للامور على قاعدة الواقعية الايجابية بعيدا عن المثالية.
ان العمل مارس نقدا بناءا للكثير من الظواهر السلبية في المجتمع العراقي، الاجتماعية منها والاخلاقية والسياسية، كظاهرة التزوير والرشوة والفساد المالي والاداري والمحسوبية وقاعدة (الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب) وغير ذلك من الظواهر التي اساءت للعملية السياسية الجديدة التي تجري فصولها في البلاد منذ سقوط الصنم ولحد الان.
ولقد تميز النقد بمقبولية عالية لانه جاء دقيقا غير مهولا او مضخما، ومنصفا وسليما، كما ان العمل مارس هذا النقد بكل ادب وواقعية جمة، ما يشير الى ان العمل الدرامي ادى رسالة الاعلام الحقيقي على احسن وجه، والتي تتمثل برصد الخطا الى جانب تبيان الحقائق، فالاعلام الحقيقي الهادف لا ينظر بعين واحدة، وانما بعينين اثنتين، يثني على ما هو صحيح في الاولى، ويرصد الخطا ويؤشر عليه في الثانية، وبذلك يساهم مثل هذا الاعلام في تنمية الواقع وتصحيح الاخطاء وتحميل المجتمع مسؤوليته التاريخية، حتى لا يقول احد لا ادري او لم اكن اعرف ولو عرف لفعلت.
نحن لا نريد اعلاما مطبلا، كما اننا لا نريد اعلاما مضللا، فلا الاعلام الناطق باسم الحكومة ينفع في شئ، لانه قد ينظر بعين واحدة، ولا الاخر الذي يتسقط الاخطاء المجهرية ولا يرى المنجزات الضخمة ينفع في شئ كذلك، وحده الاعلام المتزن هو الذي يلعب الدور المحوري في البناء والتنمية والتطوير.
وانني اذ اغتنم الفرصة هنا لاحيي كل من ساهم في انجاز هذا العمل الدرامي المنصف، اتمنى على العراقيين ان يحيوا معي كاتب السيناريو الذي نجح في تقديم خدمة كبيرة لقضية الشعب العراقي الذي تكالب عليه الجميع لاسقاط تجربته الديمقراطية الفتية، من الذين اغمضوا عيونهم من اجل ان لا يروا شيئا.
داعيا بهذه المناسبة كل الفضائيات العراقية الى تكريم العمل بالمبادرة الى عرضه على شاشاتها، والمساهمة في تنفيذ اعمال مماثلة، فلماذا غابت الدراما التلفوزيونية عن الشاشة العراقية؟ ولماذا لم تعد الشاشة العراقية الصغيرة تهتم بمثل هذه الاعمال وهي التي لها الاثر الكبير في التصدي للتضليل الاعلامي البغيض الذي يسعى ليل نهار من اجل طمس الحقائق وتشويه الصورة؟.
كما اتمنى على الحكومة العراقية ان تبادر الى تكريم مؤلف المسلسل لتشجعه وامثاله من الكتاب العراقيين المبدعين لانتاج المزيد من مثل هذه الاعمال الدرامية التي تترك عادة اثرا ملحوظا وملموسا عند الراي العام، فالاعلام كما ارى هو السلطة الاولى، القادر على التصدي للاعداء حتى اكثر من السلاح.
ولا انسى هنا ان احيي قناة (سوريا دراما) الفضائية التي بثت المسلسل، لتكون بذلك السباقة في انصاف الشعب العراقي المظلوم، بالاضافة الى كل الفنانين السوريين الذين شاركوا في هذا العمل الدرامي فنصروا وانتصروا للعراقيين على احسن وجه، خاصة الفنانة السورية القديرة (العراقية الاصل) السيدة منى واصف.
اتمنى على الراي العام العربي ان يكون قد اطلع على جوانب ولو قليلة من الحقائق الناصعة التي عرضها العمل الدرامي فيما تخص الشعب العراقي، من اجل ان يغير وجهة نظره تجاه ما يجري في العراق، ومن اجل ان يعرف كيف كان يعيش العراقيون في ظل النظام الشمولي الديكتاتوري البوليسي البائد، فلا يظلوا ينظرون الى الطاغية الذليل كبطل قومي، وهو الذي لم يدخل معركة الا وانهزم فيها، ولم يزج العراقيين في حرب من اجل حدود او مياه او بئر نفط الا وخسر الارض والعرض والبئر وكل شئ، وليفهموا بان السياسات المتهورة للطاغية الذليل وامراضه وعقده النفسية هي التي سببت باحتلال العراق وتدمير بناه التحتية، وليست جهوده التي بذلها من اجل تحرير فلسطين ابدا، بل على العكس فانه هو الذي اوجد مصدرا ضخما للرزق الى اسرائيل، فهو النظام العربي الوحيد الذي ظل يدفع الملايين لها كتعويضات عن اضرار لم تصب بها لا في حرب ولا في سلم، الا اللهم في قصة الصواريخ المخادعة التي رماها الطاغية عليها والتي لم تصب الا رمال الصحراء.
اخيرا، فلقد كشف المسلسل عن براعة الممثلين العراقيين الذين اضاعهم الزمن الصعب وللاسف الشديد، متمنيا على الدولة العراقية ومؤسساتها المعنية ان تهتم اكثر فاكثر بهذه الشريحة الفنية المهمة في كل مجتمع، فهم كالشموع التي تحرق نفسها لتضيئ الدرب للاخرين، فلد اظهر المسلسل، مثلا، الفنان العراقي المبدع جواد الشكرجي وهو يبذل كل ما بوسعه لتصوير معاناة العراقيين من اعماق قلبه، بحرقة اعصاب قل مثيلها.
فاذا تساءلنا، لماذا يبدع العراقي خارج وطنه؟ وهو في بلده لا ينتج شيئا؟ او ينتج القليل النادر؟ اوليس لان المؤسسة الفنية احتضنته خارج بلاده وامهلته داخل وطنه؟ لذلك فان على الدولة العراقية ان تفكر بشكل جدي بكل طريقة لتعيد الاعتبار الى الفنانين المبدعين من اجل انجاز افضل وابداع اكثر وفرص احسن.
5 ايلول 2010