Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

تدمير بابل في القرن الواحد والعشرين الميلادي

بلاد الرافدين عرف باسم نهريه الخالدين الدجلة والفرات وعرف باسمه المرادف الآخر بلاد ما بين النهرين منذ أقدم الأزمنة بل إن هذه الأرض المعطاء هي المكان الأول الذي أحس الإنسان لأول مرة بوجوده عبر الكتابة المسمارية التي دون بها قصة الإنسان الأول، ثم عرف عن إنسان هذه الأرض بأنه أخترع أولى الآلات و عرف أساس التكنولوجيا عبر استخدام العجلة و بدأ الزراعة المنظمة و انشأ الدول و الإمبراطوريات وترك من بعده الأديان والأساطير والشرائع ومعالم حضارات راقية،و عبر الزمن كانت بلاد ما بين النهرين معرضة لغزوات متكررة تأتيها غالبا من الشرق والشمال ،من أولئك الأقوام المتاخمين له و تتميز بلادهم بقلة الأراضي السهلية الخصبة و قلة الموارد وخاصة المياه إضافة إلى الجشع و الطمع و الحسد المتأصلة في النفس البشرية، وعبر الزمن كان أيضا هناك الفرق و البون اللذين كانا يتسعان مع الوقت في وجود بناء حضاري شامخ في بلاد ما بين النهرين وبدائية وبدواة الأقوام المجاورة فكان ذلك عامل إضافي أخر يدفع هؤلاء لتكرار الغزوات على العراق،و كان و سيظل أبرز شاهد على تلك الغزوات البربرية الغزو الفارسي للعراق في القرن الرابع قبل ميلاد السيد المسيح(ع) و تدمير الحضارة البابلية،و لكن في العصر الراهن عندما انتهى (عصر الغزوات و الفتوح) و ليس في الإمكان تدمير بلاد ما بين النهرين بالغزوات و الاحتلال ،يتم اللجوء إلى أساليب أكثر عصرية و متقدمة تكنولوجيا لإفقار و أقفار و تدمير بلاد ما بين النهرين الخالد،ولا حاجة لتذكير بالغزو العلني والخفي القادم من شرق العراق هذه الأيام و بكل الأساليب والوسائل الوحشية والإجرامية و الدنيئة و التي أصبحت معروفة للقاصي و الداني ليس في العراق و المنطقة فحسب بل في كل أنحاء العالم،غير إن هناك هجمة خفية أخرى على العراق أكثر خفاء و مكرا و دناءة من الغزو والاحتلال قادمين من شرق العراق، تستهدف العراق أو بلاد ما بين النهرين و تريد هذه الهجمة الجبانة أن تلغي أسم بلاد ما بين النهرين في أن يكون اسما للعراق وذلك باستهداف النهرين العرافين الخالدين الدجلة و الفرات بتنشيفهما و منع وصول أي مياه في مجراهما إلى العراق و ذلك بالنسبة لدجلة القادمة من تركيا عبر الأراضي العراقية مباشرة و نهر الفرات القادم من تركيا أيضا عبر الأراضي السورية،فخلال العقد الماضي و العقد الحالي في فترة عشرين سنة و التي ستنتهي خلال أعوام قليلة ستستكمل تركيا بناء أكثر من عشرين سدا عملاقا على نهري الدجلة و الفرات داخل أراضيها، و باستكمال هذه السدود العشرين ليس يمكن القول بل الجزم و استنادا إلى مصادر تركية نفسها حول طاقات هذه السدود بأنه خلال بضعة أعوام سوف لن تسيل قطرة ماء واحدة خلال مجراي الدجلة و الفرات باتجاه الأراضي العراقية و السورية إلا بقرار سياسي و اقتصادي تركي، وهذا القرار لم يكن عبر التاريخ التركي إلا قرارا قوميا متعصبا إن لم نقل شوفينيا تجاه العراق و العرب ، و واضح ذلك عبر الشعار القومي التي يتداول في تركيا بين فينة أخرى و الذي يقول (يجب أن تكون المياه مقابل النفط ) مع دول الجوار و المحيط.

و منذ عامين تقريبا و بالتحديد عندما أنشئت وزارة الموارد المائية و أستلم الوزير الوطني و الشجاع الدكتور عبد اللطيف رشيد مقاليد هذه الوزارة كثرت بيانات و احتجاجات و استنكارات و استذكارات و ندوات الخ، هذه الوزارة الوطنية بوزيرها و كوادرها لتنبيه بالخطر و المحدق بالعراق عاجلا و القادم من شرقه كالعادة عبر التاريخ ولكن ليس هناك من مجيب، أن تستجيب تركيا للمطالب العراقية المشروعة و بالذات في هذا الوقت حيث يمر العراق بأشد حالاته من الضعف و الكبوة فهذا مستحيل بعينه ،و لكن الغريب و العجيب في أمر هذه الحكومة و التي السيد وزير الموارد المائية وزير فيها الم تسمع أو ترى الخطر المحدق بالعراق وهو أكثر خطورة من الغزو الأمريكي والإيراني و التو راني (في قديم الزمان)،و هو يستهدف العراق اسما (بلاد ما بين النهرين) و ماضيا و حاضرا و مستقبلا في أهم و اخطر موارده المياه و الزراعة و المدنية في العراق؟

إن ما تنفذها تركيا من مشاريع السدود في أراضيها ليس من باب السيادة الوطنية فهذه المشاريع تستهدف موارد المياه المشتركة و التي تنظمها بين الدول عشرات القوانين و البرتوكولات و المعاهدات و الاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقيات عراقية-سورية تركية سابقة حول تقاسم المياه بين الدول الثلاثة المتشاطئة،و ما يحدث الآن ليس موضوع يمكن إعطائه طرش الأذان و خاصة ما يتعلق بالحكومة العراقية فهو ليس موضوع مؤجل النتائج المباشرة للسنوات و العقود القادمة ،بل إن هذه النتائج بدأت تعطي ثمارها المر و المدمر من الآن في حين إن تركيا لم تستكمل إلا ما يقارب ربع مشاريعها الأروائية من هذه السدود العشرين العملاقة على منابع نهري دجلة و الفرات، بينما وصل نقص في المياه في العراق إلى 40% في هذا الشتاء و ربما في الصيف القادم قد يصل إلى ضعف هذا الرقم أو أكثر.

و هناك كثير من التساؤلات و التكهنات و التفسيرات التي تحاول الوقوف على الأسباب الكامنة للنشاط التركي المحموم في هذه الأيام في التدخل في الشأن العراقي و على عدة أصعدة و بما يزيد النار اشتعالا في العراق،فتارة التدخل باسم ما تسمى قضية تركمان العراق في كركوك و غيرها و تارة باسم الدفاع عن السنة في العراق و ثالثة التصدي لحزب العمال الكردستاني التركي في العراق و رابعة التصدي لما يسمى منع قيام دولة كردية مستقلة في كردستان أو شمال العراق، غير انه لم تشير كليا تقريبا إلى هذا العامل الاستراتيجي في السياسية التركية وهو عامل الطمع الجشع في الاستحواذ الكلي على موارد المياه لنهري الدجلة و الفرات و اللذين كانا عبر التاريخ العامل الأول في قيام العراق و بناء حضارته و رمز مدنيته و رقيه و نهوضه من كل الغزوات و تسلط الطغاة ،و إذا كان النظام في العهد السابق قد سكت و لاذ بشبه صمت في وجه المخططات التركية لكون النظام الحكم في تركيا كان حليفا غير معلن له في كثير من القضايا مثل تنسيقهما المشترك ضد الكرد في البلدين و اعتماد العراق في ظل الحرب مع إيران و بعد غزو الكويت على الموانئ التركية و طرقها البرية لتصدير النفط المهرب و غير المهرب و تزود بالسلع و الأسلحة عبر تركيا و خرق كثير من الشركات التركية للحصار على العراق و التعامل مع النظام على أوسع نطاق و عوامل أخرى كثيرة فدعا النظام بأن يفرط بالحقوق العراقية المشروعة في مياه الدجلة و الفرات،ولكن الحكم الحالي في العراق ليس لديه الحجج لتسكت أكثر من ذلك لما يستهدف به مستقبل العراق بل المستقبل كله فما يبقى للعراق إذا نشفت تركيا النهرين في أرضه و هو حاصل حتما إذا اكتملت المشاريع التركية ،فهذه المشاريع في مجموع طاقاتها تستطيع أن تمنع كليا المياه عن العراق لما يقارب خمس سنوات متواصلة هذا إذا كانت المواسم غزيرة بالأمطار و الثلوج و هذه لا تحصل في مرحلتنا التاريخية الراهنة حيث مشكلة الاحتباس الحراري و التبدل السريع و الشاذ للمناخ و بمعنى أخر فان طاقات السدود التركية لو أنجزت و هي ستنجز خلال السنوات القليلة القادمة قد تستطيع منع المياه عن العراق كليا و تماما ،فليس هذه بمشكلة وزارة واحدة في العراق و لا تستطيع هذه الوزارة مها كانت لديها الحماس و الوطنية و الغيرة و التماس و الإحساس المباشرين بحجم المشكلة و المخاطر المحدقة بمستقبل العراق و شعبه في أعز موارده المياه،و في ظل الظروف الراهنة ليس أمام العراق أمام الإصرار التركي في المضي قدما في تدمير مستقبل العراق بل استغلال (ضعف) العراق الحالي لا بل المشاركة و المحاولة في إضعاف العراق أكثر فأكثر لغاية تنفيذ هذه المشاريع و وضع العراق أمام أمر الوقع ،فأمام كل هذه التحديات ليس للعراق خيارات تذكر في الوقت الحالي بما فيه الخيار العسكري و الاقتصادي ، ولكن هناك خيارين أخربن يمكن اللجوء إليهما ،الأول تكوين أجماع وطني عراقي قوي في التصدي السياسي والدبلوماسي و الإعلامي للمشاريع التركية المدمرة لمستقبل العراق و السعي لدى الدول و المنظمات الدولية و جعل هذه المشكلة ذات طابع دولي ،والثاني خيار قانوني معقول باللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي أو المنظمات و اللجان و المعاهدات الدولية المختصة في شأن اقتسام المياه بين الدول المتشاطئة .

و إلا يصبح العراق( بلاد ما بعد النهرين)؟!



كاتب عراقي مستقل

28\1\2007

Mahmoud-abass1756@hotmail.com

عن موقع كتابات
Opinions