تذكار مار بثيون الشهيد
الشهيد مار بثيون: ولد في قرية داوين في محيط دينور إحدى المدن الكبيرة في إقليم لاشبار. والده يدعى دادكوشنب تنصر واقتبل العماذ من أخيه يازدين ودعي اسمه داديشوع.كان الفتى بثيون يراقب بانتباه ما يجري حوله، وخاصة في محيط عائلته. فقد ولد في وسط مجوسي، وكمل ممارسة المجوسية مع ذويه. وها هو الآن يلاحظ التبدل الجدري الذي حدث في حياة عمه يازدين، وسيرته الجديدة المكرسة للعبادة والصلاة والزهد. كما لاحظ تنصر أبيه وقبوله العماذ مع أهل بيته.
وصار يراقب عن كثب عمه الناسك، حتى أعجب بحياته وأراد السير على خطواته. فالتحق به وعاش معه أربع عشرة سنة يتفقه في حقائق الإيمان وممارسة الفضائل، منكباً على الأسفار المقدسة ينهل منها ويتشبع من كلام الله.
انتشر خبر هذين المتوحدين، وتلألأت أعمالهما الصالحة كالشمس، فقصدهما الناس طلباً للصلاة والشفاء من الأمراض. واعتنق عدد كبير من الناس الديانة المسيحية ونالوا العماذ منهما. وقد شعر الراهبان يازدين وبثيون برغبة عارمة لنشر الإيمان بين المجوس، فانطلقا يبشران بالإنجيل، وكرمهما الله بإجتراح الأعاجيب لمجده تعالى.
وبعد رحيل عمه يازدين إلى الأخدار السماوية، قرر السير على خطاه وتوسيع نطاق تبشيره. وكانت الحالة العامة أنذاك تسمح بهذه الدعوة الدينية، فالاضطهادات القاسية التي أجج نيرانها شابور مدة أربعين سنة، والمعروفة بـ الاضطهاد الأربعيني قد خمدت بعض الشيء.
وقد رسم بثيون كاهناً في زمن لم يحدده المؤرخون، فأزداد همة ونشاطاً، وأنطلق في سعيه الحميد لنشر اسم يسوع، غير مبال بتهديد المجوس ووعيدهم. وفي ضميره يرن صوت المعلم الإلهي القائل: " لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون قتل النفس ". وكان طلق اللسان، قوي الحجة، مقنعاً في حديثه. فقصد المناطق الجبلية في ماسبادان وميدية وبيت دارايي وكوسايي حتى مهرجنقدق ومنطقة الزاب الأسفل.
وفي فصل الشتاء القارس في الجبال كان يمضي إلى منطقة ميشان " البصرة " الدافئة، لا توقفه صحراء ولا جبال ولا أنهر، لا تهديد ولا وعيد، لا سلاسل ولا قيود ولا سجن ولا موت. فكان مقتنعاً أن الشعب بحاجة إلى عملة نشيطين، وإلى شهود للمسيح بحياتهم وليس بالكلام فحسب. فنجح في رسالته وتبعه عدد كبير من الناس، فبنى لهم الكنائس. وكان لا يمل من المضي سنوياً لزيارة المؤمنين في هذه الرسالة الواسعة، وتفقد أحوالهم حتى سنة استشهاده.
وكان في مقدمة من اهتدى وتنصر على يد مار بثيون، شخصيات مهمة في الدولة في تلك المناطق التي بشر فيها. أمثال الراد نايهرمزد، ورئيس الشرطة شاهين، وزميله طهمين، وعامل لاشبار آذورهرمزد وأبنته أناهيذ. فقد اعتنقوا المسيحية، وجاهر البعض بها دون خوف، لكن بعضهم لم يجرؤ على الإعلان عنها خوفاً من المجوس. وقد نال آذورهرمزد وابنته أناهيذ أكليل الشهادة.
بعد أيام قليلة من استشهاد أناهيذ أمر قاضي القضاة المجوسي بالقبض على بثيون، لأنه سبب نشر الدعوة المسيحية في تلك الأصقاع، وجذب عدد كبير من أعيان البلاد إلى ديانته، فأمر الحاكم بتكبيله وإحضاره. فخرجت ثلة من الجنود إلى موضع صومعته وأحاطوا به، ثم أمروه بالخروج إليهم والاستسلام. فخرج من صومعته غير هياب، عالي الرأس. وتقدم بهدوء وأسلم نفسه إليهم، لأنه عرف أنه قد حان موعد جهاده. فأخذوه مقيداً إلى المدينة.
فلما مثل في المحكمة نظر إليه المجوسي شزرا وقال له: " أأنت بثيون الساحر رئيس المسيحيين ". فأجابه بثيون: " لست رئيس المسيحيين، بل أنا عبد الله وخادم المسيحيين، ولست ساحراً ومضلاً. فأنا أعلم الحق وأرشد الناس إلى الطريق المؤدية إلى الحياة الأبدية ".
فغضب الحاكم من هذا الجواب واعتبره تطاولاً عليه، فأمر بأن يكبل بالقيود ويلقى في السجن. وشاء الله أن يكرم عبده الأمين، لعل المجوس يرون الحق فيعدلون ويرعوون. ففي الليل سقطت أوثاق السجين وتفتحت الأبواب، فقام يمشي ويصلي ويشكر الله. واستيقظ جميع المسجونين معه، وإذا بسلاسلهم محلولة وأبواب الحبس مشرعة. فتعجبوا وهتفوا بصوت واحد قائلين: " عظيم هو إلهك يا بثيون وقوي ومجيد، وطوبى للذين يتكلون عليه ".
فلما استيقظ السجان ورأى الأبواب مفتوحة، خاف من العاقبة لظنه أن المسجونين قد هربوا. ففكر بالانتحار والتخلص من المسؤولية، فاستل خنجره ليقتل نفسه وإذا بصوت بثيون الهادي يدعوه إلى التريث، لأن كل نزلاء السجن في داخله ولم يفر أحد منهم.
ثم أمر الحاكم بإلقائه في النهر ليغرق وينتهي أمره. لكن المياه توقفت عن الجريان بقدرة الله فلم يمت. وبينما وقف كثيرون متعجبين ومندهشين من المنظر الرائع، ولسان حالهم يقول: " عظيم هو إلهك يا بثيون ". فإن الحاكم عندما بلغه ما حدث صرخ بعصبية، ونسب ذلك إلى السحر. فأمر بإخراجه من النهر، فعادت المياه إلى مجراها الطبيعي.
ولم يرتدع الحاكم مما جرى ولم يستسلم، بل صرخ مقسماً بحياة يزجرد ملك الملوك أنه سيبيد بثيون من الوجود. فأمر بطرحه بالنار، فحين دخلها خمدت. وهكذا أنقذ الله صفيه من موت محتم، كما أنقذ الفتية الثلاثة قديماً من أتون النار.
فلما رأى الحاكم أن بثيون خرج من النار سالماً أزداد غيظاً وشراسة، وأعاده إلى السجن ريثما ينتظر في مصيره. فأبقاه محبوساً نحو شهرين، وبعد ذلك أمر بإحضاره. وفي مجلس ضم أرباب الدولة إلى جانب الحاكم، صدر الحكم القاضي بقتل الراهب بثيون عن طريق قطع أعضاءه في أيام معدودات.
فسيق إلى موضع العذاب قرب صومعته في الجبل، بينما كان يرفع تراتيل الحمد واشكر لله، طالباً نعمة الإيمان والثبات لإخوته وشعبه، ونعمة الهداية لقاتليه، ولسان حاله يردد كلام المخلص: " لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، ولا يستطيعون قتل النفس. بل خافوا الذي يقدر على أن يهلك النفس والجسد جميعاً في جهنم ".
وعندما وصل الموكب الحزين إلى موضع القتل، عرضت على بثيون آلات التعذيب والتنكيل لعله يخاف أو يهتز فيتراجع من هول منظرها. لكنه أزداد شجاعة وحماسة، فتقدم منها وأخذها بيديه وشرع يقبلها فرحاً قائلاً: " أشكرك يا رب السماء والأرض لأنك أهلتني أن أشاهد ما تتزين به أعضائي من الحلي والإكليل ".
وكانت تعليمات الحاكم أن تنزل بالراهب الشيخ أشنع طريقة للعذاب والموت، وهي التي كانوا يطلقون عليها اسم " تسع ميتات ". فأمر مبهورزين الذي عهد إليه تنفيذ الحكم الجلادين بقطع أعضائه على مراحل الواحد بعد الآخر. ودام التقطيع والتعذيب المروع ستة أيام على ما ورد في سيرة حياته. أما في الصلاة الطقسية لكنيسة المشرق " الحوذرة " فيحدد فترة تعذيبه وتقطيع أعضائه بخمسة أيام.
ففي كل يوم يقطع من جسمه عضو، بدءاً من أذنيه وأنفه، ثم يديه ورجليه، ثم ذراعيه، ثم ساقيه وفخذيه تاركين الضحية في حالة العذاب ألممض. وكان الجلادون يعمدون إلى تعليق الأعضاء المبتورة أمام عيني الضحية، لكي يضيفوا عذاب النفس إلى العذاب الجسدي. أما القديس فكان مغمض العينين يتمتم في نفسه مصلياً: " اسمع يا رب صلاتي، وأقبل تضرعي من أجل شعبك ".
وفي اليوم السادس تقدم الجلاد لقطع رأسه، فطلب منه أن يمهله لحظة ريثما يرفع صلاته الأخيرة قبل ملاقاة ربه. فشرع يقول: " أيها الآب الضابط الكل خالق السماء والأرض، السامع صوت الخطاة والقابل طلبة التائبين. أنت يا رب أقبل صلاة عبدك في هذا اليوم الأخير من حياتي. إني أتضرع إليك أن تسمع صلاة جميع الذين يدعونك باسمي، فتمنح لهم ما يطلبون منك، وتخلصهم من الشرور المحدقة بهم، وتشفيهم من أسقامهم ".
وعندما انتهى من صلاته تقدم من السياف، فحز رأسه ورفعه بيمينه عالياً وعرضه على الحاضرين. ثم علقه على صخرة كانت تطل على الطريق الملكي، الذي يبدأ من المدائن ويخترق المملكة ماراً بالأقاليم الشرقية وينتهي في خراسان. وجرى ذلك في 25 تشرين الأول سنة 448.
وأمر مبهورزين الذي أشرف على قتل بثيون أن تحرس جثته المقطعة عشرة أيام، فلما انتهت المدة المقررة اجتمع المؤمنون وساروا إلى موضع الاستشهاد، فجمعوا أوصاله المباركة، واخذوا جثمانه الطاهر وكفنوه بإكرام مهيب، ودفنوه في لحف الجبل حيث بقايا رفاقه الشهداء الذين سبقوه المجد السماوي.
وعلى أثر استشهاده البطولي تشجع طهمين ورفاقه الفرسان ونيهورمزد القائد وغيرهم ممن سبقوا وآمنوا على يده ولم يتجاسروا حتى تلك الساعة للإعلان عن إيمانهم فاعتمذوا. فمنهم من بقي البلدة وبعضهم هجرها إلى بلاد الله الواسعة.[1]
وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار بثيون الشهيد في 25 تشرين الأول.
--------------------------------------------------------------------------------
1_ سيرة الشهيد مار بثيون الأب بطرس حداد ص 7 _ 20.