تذكار مار طهمزكرد الشهيد
طهمزكرد الشهيد: كانت المسيحية مزدهرة في مدينة كرخ سلوخ " كركوك ". وقد بشرت بواسطة الرسولين أدي وماري. ويتحدث التقليد أن الرسولين لدى دخولهما إلى المدينة، استقبلهما رجل يدعى يوسف. وحينما تتلمذ واعتمد بنى كنيسة دعيت " دير يوسف ". وفي السنة الثامنة من عهد الملك يزجرد ( 399 _ 420 ) أثار اضطهاداً عنيفاً على كنيسة الله. ظناً منه أن الأعداء ينتصرون عليه بسبب المسيحيين. وكان أسقف المدينة في تلك الفترة يدعى يوحنان. فكتب يزجرد إلى طهمزكرد حاكم نصيبين طالباً منه أن يأخذ معه اذفراكرد حاكم منطقة أرزون، وسورين حاكم حدياب وبيت كرماي، ويذهب إلى كرخ سلوخ ويحاولوا الضغط على المسيحيين في تلك المنطقة، لكي يحملوهم على جحود المسيح والسجود للنار. وإلا فليسلموا إلى التعذيبات والتنكيلات، ثم إلى الموت بالسيف. فجاء طهمزكرد ورفاقه ودخلوا المدينة في 15 تموز، وألقوا القبض على أشراف المدينة ورؤسائها. وعذبوهم ثم زجوا بهم في السجن. ثم أرسلوا رجالاً لا يعرفون للرحمة معنى، وأوصوهم بأن يأتوهم بجميع المسيحيين مخفورين، لكي يهلكوهم بمختلف أنواع الموت، إن لم يجحدوا إيمانهم.ولما رأى الأسقف يوحنان ما حدث، اعتكف في الكنيسة مع رعاياه وهم يبتهلون إلى الله ليأتي إلى نجدتهم. واستمروا هناك حتى 20 آب. حيث أمر طهمزكرد بفصل الراعي عن رعيته. فزج بالأسقف في السجن حيث جمع غفير من المسيحيين كانوا قد سبقوه إليه.
وبينما كان يوحنان خارجاً من الكنيسة في طريقه إلى السجن، رأى الحاكم طهمزكرد، فقال له بصوت عالٍ: " السلام عليك أيها الحاكم والمحكوم. السلام عليك أيها المؤدِّب والمؤدَّب. السلام عليك أيها المجوسي والمعترف والشهيد. ألا زد يا طهمزكرد وألف لك فرقة لكي تلاقي معها وجه الختن الذي دعانا إلى ملكوته. فأرى أنك مثل شمعون الصفا ستُصلب منكس الرأس في سبيل المسيح ".
وكان في السجن أسحق بن هرمزجرد وهو من عظماء عشيرة شهيرة في كرخ سلوخ. فهذا فتح فاه وقال لطهمزكرد أقولاً نبوية: " يا طهمزكرد إنك مزمع أن تنال شهادة حسنة في سبيل الرب، فتكون عوض الذئب حملاً، وتقدم جسدك ذبيحة مقدسة مقبولة مرضية عند الله ".
وأصدر طهمزكرد أمراً بنهب أموال المسيحيين من سكان المدينة، وألقى رجاله القبض بهمجية وشراسة على مطرابوليط أربيل، وأسقف بيث نوهدرا، وأسقف معلثا، ومطرابوليط شهرقرد، وأسقف لاشوم، وأسقف ماحوزا، وأسقف خربه جلال، وأسقف بلد، مع الكثير من اكليروسهم ورعاياهم. ويقال أن عددهم كان يربو على مائة وثلاثة وثلاثين شخصاً. وقد دخلوا المدينة وهم يرتلون المزامير والتسابيح وكأنهم في تطواف. وضموا إلى السجناء المسيحيين سكان المدينة، والذي كان عددهم عشرين ألفاً. ولما سمع السجناء أصوات التسابيح من القادمين إليهم فرحوا فرحاً عظيماً. أما أتباع طهمزكرد فحينما رأوا تلك الألوف العديدة من الناس، وسمعوا أصوات تسابيحهم ترتفع إلى عنان السماء، تولاهم الخوف والهلع، لأنهم ظنوا أن ثمة انتفاضة.
وصعد طهمزكرد إلى الموضع الذي يدعى " بيت تيتا " حيث قتل الشهداء في عهد الملك شابور. وجلس على منصة القضاء، وعرض أمام تلك الجموع مختلف آلات التعذيب وقال لهم: " لقد أمر الملك يزجرد بأن تباد حياتكم بهذه الآلات الرهيبة، إذا لم تطيعوا أوامره وتلبوا إرادته، وتسجدوا للشمس وتكرموا النار والماء ". ومع هذه الآلات أتوا بستة عشر فيلاً لكي تدوس بأقدامها جميع الذين لا يجحدون المسيح.
فأخذ أسحق آلات التعذيب وشرع يقبلها ويضعها على عينيه ويقول: " سلام على هذه الآلات التي بواسطتها ندخل بلاط الملكوت السماوي، وننعم بمظال النور التي هيأها لنا المسيح ربنا منذ إنشاء العالم ". ثم فتح فاه وقال للحاكم: " لماذا أنت واقف أيها الحاكم؟ أقترب وأنجز ما أُمرت به ".
فلما سمع طهمزكرد هذه الأقوال حتى أمر بتمديد أسحق على الأرض، وغرز أوتاد في يديه ورجليه، وجرد جسمه بأمشاط حديدية حتى انتزعت لحمانه من عظامه. ثم أمر بأن يأتوا بجميع السجناء المسيحيين ليعذبوا مثل أسحق. فأسرع أولئك القديسون إلى موضع القتل والموت وهم يرتلون المزامير والتسابيح. فمنهم من بتروا رجليه، ومنهم من قطعوا لسانه، وغيره قلعوا عينيه، وأخر سلخوا جلد رأسه. وفي الأخير أمر الحاكم بأن يأتوا بقصب وأغصان ودهنوها بالنفط، واجلسوا القديسين وأضرموا النار بالحطب، واحرقوا أجسام الشهداء. وهكذا أدوا الشهادة للمسيح، وكان ذلك اليوم يصادف 24 من شهر آب.
حينئذ أرسل أحد الحكام الذين مع طهمزكرد إلى الأساقفة ليسألهم: " من هو رئيسكم؟ ". فسكتوا جميعاً. وكان ثمة غلام أسير وهو ابن أرملة من الكرخ اسمه ديندوي. فقام هذا الغلام وقال ببسالة لهؤلاء الأساقفة: " تشجعوا يا آباءنا بالرب ولا تخافوا وأجيبوا الأعداء. وإلا فسلموا الرئاسة إلى أهل الكرخ. فنتقبل نحن عوضكم عذابات المضطهدين ". وفي الحال اتفق مطرابوليط شهرقرد والأساقفة الذين معه، وكتبول كتاباً وختموه بتوقيعهم وقالوا: " بك تليق المطرابوليطية أيها الغلام، إذ صرت في هذه الساعة الرهيبة إيليا الثاني وداود الصبي ". ومن ذلك اليوم استقرت رئاسة المطرابوليطية في الكرخ. ثم وضعوا أيديهم عليه وباركوه ورسموه بأيديهم المكبلة بالسلاسل.
وفي اليوم التالي أمر طهمزكرد بإقامة مذبح، وطلب من مسيحيي الكرخ وكانوا نحو ثلاثة آلاف نسمة أن يقدموا الضحايا للآلهة المجوس، فرفضوا وصرخوا قائلين: " معاذ الله أن نترك المسيح الذي صار ضحية عوضنا، ونذبح للشياطين والماردين ". فأمر طهمزكرد بتصفيتهم بأبشع الطرق. وفي بادئ الأمر قتلوا ديندوي ثم الأساقفة، وانقلبوا على الذين معهم فرشقوهم بالسهام، ثم احموا المسامير وغرزوها في بآبئ عيونهم وثقبوا أجسامهم، فاستشهد هؤلاء في 25 آب. وفي اليوم الثالث أمر طهمزكرد فاخرجوا إلى نفس المكان ثمانية آلاف وتسعمائة وأربعين شخصاً ومعهم الأساقفة. وشرعوا يستنطقون فرقاً فرقاً من تلك الجماعة الغفيرة من القديسين، وحينما اعترف جميعهم باسم المسيح ببسالة، عين ثلاثة آلاف مجوسي من الذين لا يعرفون للرحمة معنى لكي ينكلوا بهم. فقتلوا منهم بحد السيف، ومنهم حرقاً بالنار، وآخرون نشروا، وغيرهم رجموا، ودسوا في أعين آخرين ومناخيرهم خلاً وخردلاً إلى أن فاضت روحهم. حتى قضوا عليهم جميعاً بمختلف وسائل التعذيب والتنكيل. وبلغ عدد الشهداء الذين قتلوا على يد طهمزكرد نحو اثني عشر ألفاً.
بعد هذه المجزرة الرهيبة فتح الرب عيني طهمزكرد، فرأى سلماً موضوعة على الأرض ورأسها يبلغ السماء، وعليها يصعد جميع الذين قتلهم. وكان الرب واقفاً في أعلاها، وهو يضع الأكاليل المجيدة فوق هاماتهم. وفي الحال طرأ تغيير مفاجئ على عقل الحاكم، واختلجت فيه عواطف الندامة، وصرخ بأعلى صوته: " إنني مسيحيي ". وهكذا تمت النبؤات التي قيلت عنه. وأخذ يرثي نفسه ويبكي ويبتهل إلى المسيح كي يغفر له دم الشهداء الذي يسفكه.[1]
ثم رفع بصره نحو السماء وهو يقول: " اغفر لي يا رب ذنوبي، فإني قد أخطأت إليك كثيراً، إذ قتلت جماعة لا تحصى من الذين يؤمنون بك. آمنت بك أيها المسيح الإله القوي القدير، وأقر معترفاً أنك الإله الحق، الذي خلق السماء والأرض. فعلمني ما يجب عليَّ فعله لأمحو خطاياي، وأنا مزمع أن أمحوها ليس فقط بدموعي بل بدمي أيضاً ". وللحال أوعز إلى منادٍ أن ينادي بأعلى صوته، أن قد بُطل الاضطهاد، وأطلقت الحرية للمسيحيين. ثم انطلق إلى الكنيسة ولبس حلة العماد، وطلب من الصناعيين أن يصنعوا صناديق ويغشوها بالفضة، ويضعوا فيها ما بقي من أجسام الشهداء.
وبلغ الملك يزجرد خبر طهمزكرد، فكتب لسورين حاكم باجرمي. وأمر أن ينكل به حتى يجبره على العودة إلى دين المجوس. وما أن وصلت إليه أوامر الملك، أمر بإحضار طهمزكرد فأخذ يستنطقه قائلاً له: " قل لي يا طهمزكرد ما الذي حملك على أن تخون الملك فتنبذ ديانته الجليلة، ومع أنك كنت تنكل بالمسيحيين أراك الآن تناضل عنهم ". فقال له طهمزكرد: " إن نور المسيح أشرق عليَّ فاستنار عقلي، فعرفت أن ديانة المجوس باطلة. وأيقنت أن المسيح الذي يسجد له المسيحيين إله حق. فخررت ساجداً له، مقراً بألوهيته ".
فقال له سورين: " تأمل يا منكود الحظ وانظر إلى ما كنت عليه من الكرامة والعظمة، وإن الذي يدينك الآن كان تحت أمرك. فما هذا الجنون الذي اعتراك، فأحببت هذا العار ". فأجابه طهمزكرد: " رأيت أن عظمة هذه الدنيا زائلة فأبغضتها، وإن كرامة العالم العتيد باقية أبداً فعشقتها ".
فقال سورين: " أضرب عن هذا الرأي الفاسد الذي ليس من شأنك، وبادر ساجداً للشمس والقمر والنار والماء. وإلا فقسماً بالشمس لأقتلنك قتلة وبيلة ". فرد طهمزكرد بالقول: " حاشاي أن أسجد لخليقة معدومة الحياة والمعرفة والنطق، وأهين بذلك الله الحق الذي كون السماء والأرض. وأما القتل فأنا لتائق إليه كوني به أمحوا ما ارتكبت من الخطايا، كما كنت نظيرك متدهوراً في الضلال والكفر ". فلما قال هذا غضب الحاكم سورين فأمر بجلده. فجلده الجلادون بقساوة شديدة، حتى أن الدم انفجر من كل جانب. فقال له سورين: " ماذا تقول يا طهمزكرد شاهد في أي حال كنت من المجد والعظمة، وفي أي حال أمسيت الآن من الفضيحة والهوان ". فرد طهمزكرد: " إن ما تظنه أنت فضيحة وهوان هو مجد وفخر لنا نحن المسيحيين. فإننا به سنطأ تحت أقدامنا الشمس إلهكم، فندخل السماء ونتوسط في خدور الملكوت ".
ثم أمر الحاكم أن يودعوه السجن إلى أن يخبر الملك يزجرد بأمره. فكتب له وأخبره بكل ما جرى. فأمر يزجرد أن يزيد التنكيل بطهمزكرد، وإن بقي مصراً على رأيه فليصلب منكس الرأس. فأخرج سورين طهمزكرد من السجن وقال له: " صار لك زمان في الحبس، فما الذي قرَّ عليه رأيك. هل تسجد للشمس ".
فرد طهمزكرد بالقول: " إن ما قرَّ عليه رأيي هو أن أموت من أجل الله تعالى الذي خلق الشمس والقمر وكل ما في الأرض والسماء. فلا أرجع إلى ديانتكم الباطلة. ولا أنكر المسيح الذي اعترفت به ".
فاحتدم سورين غضباً، وأمر أن يجرد جسمه بأمشاط من حديد. ففعلوا ذلك بقساوة وحشية، حتى أن العظام انسلخت من الجلد واللحم. وأما هو فكان يرفع بصره إلى السماء مستعيناً بالله قائلاً: " يا رب أعطني القوة وانصرني على أعدائي ". ولما رأى سورين أن عزمه لا ينثني، ولا يضعف أمله مع كل ما لاقى من العذابات، أمر بصلبه منكس الرأس. فصلب كما أمر الملك يزجرد. ولما كان معلقاً على الصليب رفع عينيه إلى السماء وصلى قائلاً: " يا رب ترحم عليَّ واغفر لي ذنوبي الكثيرة. فإني قد ارتكبت خطايا باهظة، إذ تجرأت على قديسيك. وها أني محواً لذنوبي قد سفكت دمي. وأهلني أنت أن أصلب مثلك على الخشبة. فأملي وطيد أنك لا تطردني من أمامك، بل تقبلني في زمرة الذين نالوا مني إكليل الاستشهاد ". وما أن انتهى حتى نفسه إلى الملكوت. وكان استشهاده في 25 أيلول سنة 409.
وفي سنة 470 بنى مار مارون مطران كرخ سلوخ ديراً في مكان قتل الشهداء، وهو موجود حتى الآن ويدعى بالتركية " قرمزي كليسا " أي الكنيسة الحمراء. ويقصدها المؤمنين للتبرك من عظام الشهداء المدفونة فيها.[2]
ويحتفل بتذكار الشهيد طهمزكرد في 25 أيلول.
--------------------------------------------------------------------------------
1_ شهداء المشرق الأب ألبير أبونا ج 1 ص 263 _ 272.
2_ سيرة أشهر شهداء المشرق القديسين المطران أدي شير ج 2 ص 234 _ 235.