Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

تذكار مار قرداغ الشهيد

مار قرداغ الشهيد: هو ابن النبيل الفارسي الوثني كوشناوي، المتحدر من سلالة الملوك الآشوريين. وكلمة قرداغ تعني بالفارسية " الغار الموسم بالنار "، وهنالك من ينسبها إلى الكلمة الكلدانية نودس " قرداح " وتعني " حداد ".

ولد قرداغ في حدود سنة 325 م أيام حكم الملك شابور الثاني. بعد تخرجه من المدرسة العسكرية، وتمرسه بفنون القتال والفروسية، تزوج من فتاة شريفة المنبت تدعى " شوشان " ابنة النبيل نكوركان، وكان قد بلغ في حينه الخامسة والعشرين من عمره. وكان قرداغ وسيم الطلعة، مفتول العضلات، غيوراً على معتقده الوثني من عبادة النار والشمس.

وكان ملك الملوك قد قربه إليه، وجعله من خاصته، ومنحه منصب المرزبانية أي " محافظ أو والي أو حاكم " على منطقة أربيل، الممتدة يوم ذاك من نهر ديالى[1] وحتى مدينة نصيبين، حيث الحدود المشتركة بين المملكتين الفارسية[2] والبيزنطية[3].

ولدى تسلمه وظيفته في أربيل، أقام احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة، إكراماً للآلهة ومعابد النار، وأغدق عليها بالهبات النفيسة. ثم شرع ببناء قلعة وقصر على تل يدعى مِلقى، وأنجز البناء خلال سنتين. وأثناء البناء تراءى له ذات ليلة فارس يمتطي جواده " مار كيوركيس "، واخبره بأنه سوف يموت أمام حصنه هذا، شهيداً في سبيل المسيح. ثم أوحى الله له أن راهباً يسكن مغارة في لحف جبل مطل على بلدة شقلاوة[4] في منطقة " بيث بغاش "[5] في أعالي الزاب الكبير اسمه عبد يشوع[6]، سوف ينزل من الجبل ويحضر أمامه لأمر يتعلق بهدايته.

وفي أحد الأيام وبينما كان قرداغ ورفاقه ذاهبون ليلعبوا لعبة الكرة والصولجان، اعترض طريقه الراهب عبد يشوع، فغضب قرداغ وأمر بلطمه وتوقيفه ريثما ينظر في أمره. وعند وصولهم الميدان وبدئهم اللعب، تسمرت الكرة في مكانها أثناء محاولتهم قذفها، وذلك بدعاء عبد يشوع. فعاد قرداغ إلى قصره منزعجاً ومنذهلاً، وأمر بإحضار عبد يشوع لاستجوابه.

وعندما حضر جرى بينهما حوار طويل، حاول فيه عبد يشوع أن يثبت لقرداغ أن تمجيده النار والشمس إنما هو تمجيد لمخلوقات فانية، هي من صنع الخالق الأبدي. ولكن قرداغ صم أذنيه وضميره عن سماع كلمة الحق، وأمر بتقييد الطوباوي عبد يشوع بسلاسل قوية ورميه في السجن.

وفي اليوم التالي خرج المرزبان قرداغ إلى الصيد، لكنه خذل لأن السهام التي كان يرميها كانت تسقط أمامه دون أن تنطلق بعيداً. فأدرك المرزبان أن في الأمر أعجوبة مردها صلوات عبد يشوع الذي أودعه السجن. فرجع إلى قصره كئيباً، عاقداً العزم على إطلاق سراح عبد يشوع في الغد.

وفي منتصف الليل ظهر ملاك الرب لعبد يشوع، وأخرجه من السجن بأعجوبة وقاده خارجاً، حتى أوصله مغارته في الجبل، وهناك تركه واختفى.

وعند الصباح أمر قرداغ إطلاق سراح عبد يشوع، فذهب الحرس إلى السجن لإخراجه، وإذا بهم يفاجأون بسجن خال إلا من سلاسل الطوباوي وقيوده. فاعتراهم خوف وذهول شديدان، وأسرعوا إلى المرزبان يخبرونه بالأمر. فلما علم بالأمر اعتراه الخوف، واعتصره ضيق واكتئاب. وشرع يبكي بندم قائلاً: " حقاً أن إله المسيحيين لعظيم ".

ومنذ تلك اللحظة حصل انقلاب عظيم في حياته، فدخل غرفته ورسم على الجدار الشرقي علامة الصليب، وطفق يصلي بحرارة، ويتضرع من أجل أن يرى عبد يشوع ثانية، لكي يستغفره ذنبه. فاستجاب الله صلواته، إذ ظهر له عبد يشوع بعد أيام في الحلم، وأنبأه بمكانه. وفي الصباح استعد بسرعة للرحيل، فغير ثيابه متنكراً، وامتطى صهوة جواده، آخذاً معه اثنين من خدمه الأمناء، وساروا نحو الجبل قاصدين مغارة عبد يشوع. وما أن وصلوا سفح الجبل، حتى نزل إليهم عبد يشوع مستقبلاً إياهم بفرح وسرور. فترجل قرداغ عن حصانه وارتمى عند قدمي عبد يشوع طالباً منه المغفرة والسماح. فأنهضه عبد يشوع وقبله، واقتاده إلى مغارته، وهناك شرعا بالصلاة والتعبد. أما الخادمان فإنهما اقتادا حصان سيدهما إلى دير سبريشوع القريب في لحف الجبل.

وكان على الشمال من مغارة عبد يشوع بنحو تسعة أميال، راهب تقي يسكن صومعة هناك في أعلى الجبل، اسمه بويا[7] أو بيري. وكان قد تنسك منذ سنة 285، وقد أمضى في صومعته نحو 68 سنة. فأوحي إليه أن ينزل إلى مغارة عبد يشوع ليشاهد المهتدي قرداغ ويفرح به، وعند وصوله اندهش عبد يشوع وهو يرى الشيخ الجليل قد برح صومعته بعد كل هذه السنين الطويلة. فبادره الربان بويا معاتباً، لأنه لم يدعوه إلى وليمة الرب مع قرداغ، ثم عانقهما وجلس يحدث قرداغ بكلام الرب، وأمضى معهم ثلاثة أيام، ثم رجع الربان بويا إلى مغارته. أما قرداغ فقد أمضى لدى عبد يشوع خمسة أيام، وهو يلتمس منه أن يمنحه العماد المقدس.

وفي عشية اليوم السادس ظهر مار كيوركيس في حلم عبد يشوع، طالباً منه ألا يتأخر في فتح باب الشهادة أمام قرداغ. وفي الصباح أخذ عبد يشوع قرداغ إلى دير سبريشوع، وهناك نال قرداغ وخادميه العماد بفرح وحبور. ثم عادوا إلى مغارة عبد يشوع وامضوا لديه سبعة أيام أخرى.

بعدها قفل قرداغ وخادميه راجعين إلى مقرهم في حصن مِلقى، بعد أن ودعوا عبد يشوع والإيمان يغمر قلوبهم. وما أن وصل قرداغ قلعته، حتى احضر أحد الرهبان ليعلمه المزامير، ويقرأ له الإنجيل المقدس. وأخذ يغير منهاج حياته، فامتنع عن أكل اللحم، وابتدأ بتوزيع الهبات والهدايا على الأديرة والأيتام والفقراء والمرضى. مما شكل إزعاجاً لذويه، وخصوصاً والده وزوجته اللذين لاحظا علاوة على اعتناقه المسيحية، تبديده لأموالهم وأملاكهم. وبعد أيام تراءى لزوجته رؤيا عجيبة جعلتها تؤمن برسالة زوجها.

وبعد مضي سنتين ونيف على اقتباله المسيحية ذهب لزيارة مار عبد يشوع، ومكث لديه شهراً كاملاً، مع ترددهما أيضاً لزيارة الربان بويا في صومعته. فانتهز الأعداء الفرصة للإغارة على جيشه وممتلكاته، فاكتسحوا ولايته وعاثوا فيها خراباً ودماراً، وقتلوا الكثير من فرسانه وسبوا الباقين، ومن ضمنهم زوجته وجميع أهل بيته. وما أن علم بما حدث حتى ودع مار عبد يشوع والربان بويا طالباً بركتهما، وانطلق في أثر الأعداء ببقايا فرسانه البالغ عددهم 234 فارساً، الذين اقتبلوا جميعهم العماد.

ولقي قرداغ أعداءه على ضفة الخابور[8] أمام جبل قردو، فهجم عليهم مكبداً إياهم خسائر فادحة في الرجال والمعدات، وفر الناجون من أمامه، فلحق بهم حتى غرقوا في النهر. وقد جرت المعركة نحو سنة 356، ويقال أن الموقع الذي دارت فيه رحاها هو قرية بصي دوا وتعني بالكلدانية " ساحة الحرب "، والمعروفة اليوم بـ بيدار[9] قرب مدينة زاخو[10] العراقية. ورجع قرداغ من المعركة غانماً، ومعه زوجته وأهل بيته وجميع السبايا.

وعندما وصل قلعته في أربيل، أمر فوراً بهدم معابد النار وإقامة كنائس وهياكل مقدسة مكانها، حتى حول معبد النار الذي بناه والده في قرية برحبتون إلى دير كبير للرهبان. عندها أخذ المجوس يوشون به لدى ملك الملوك كي ينتقم منه، وكان الملك يحبه جداً لبسالته، فأرسل في طلبه ليستوضحه الأمر.

وعندما مثل بين يديه نصحه بالامتثال لإرادة المجوس، والرجوع إلى دينه القديم، واعداً إياه بهدايا ومكافآت سخية. لكنه رفض طلب الملك. فأمر بربطه وإرساله إلى مقاطعته لمحاكمته أمام حكام الأقاليم، مصحوباً برسائل وجهها إليهم تشير إلى إمهاله مدة سبعة أشهر، عله يرجع عن غيه. كما أمر بهدم الكنائس والأديرة التي بناها، ويقام مكانها معابد للنار. وقد حاول الحكام عبثاً حمله على نبذ مسيحيته، ولم تنجح جميع الأساليب في إخماد جذوة الإيمان الحي المتأججة في قلبه. وقد حاول الحاكم شهرخواست المخول بمحاكمته حمله على نبذ المسيحية، والعودة إلى المجوسية، فرفض طلبه. فأمر بضربه وتعذيبه والتنكيل به، ثم أعاده إلى قلعته في أربيل مغلول الأيدي والأرجل.

وما أن وصل القلعة حتى أخذ يصلي، طالباً من الرب يسوع أن يحل أغلاله. فاستجاب الرب طلبته، فذهل الحضور وهربوا من هناك. فأغلق قرداغ أبواب القلعة، وصعد إلى السطح ليحارب أعداءه، وبدأ يرشقهم بالسهام من قوسه.

أما ملك الملوك فبعد أن وصله الخبر، أعطى أوامره بمهاجمة القلعة، ولكن محاولات قواته باءت بالفشل الذريع. فأوعز إلى وجهاء عشيرته تحت طائل العقاب والتهديد، أن يقنعوا قرداغ بإنهاء العصيان وتسليم نفسه. وقد بذلوا قصارى جهدهم في إقناعه، ولكن دون نتيجة حيث قال لهم: إن ساعة استشهادي لم تدن بعد.

بعد فترة ظهر له مار اسطفانوس في رؤية عجيبة، وهو يُرجم بحجارة لؤلؤية، مما جعلته يدرك بأن ساعته قد دنت. فأبلغ الجموع بعزمه على الخروج، وتسليم نفسه للشهادة، فاستبشر أعداؤه بالخبر، بعد أن يئسوا من قتله أو القبض عليه.

وما أن خرج من القلعة حتى انقضوا عليه، وانهالوا عليه بالحجارة. وقد خرج قرداغ من كومة الحجارة مرتين دون أن يناله أذى، وذلك بفعل إشارة الصليب التي كان يرسمها على جبينه. وبينما كان الفرسان والكهان يحرضون الجموع على رجمه بقوة أشد وحجارة أكبر كي يموت، قال لهم قرداغ: " إني لا أموت إلا حينما يرميني أبي بحجر ". وكان أبوه أحمقاً وثملاً بضلال الوثنية، فأخذ منديله وستر به وجهه، ورمى أبنه بحجر. وفي الحال فاضت روحه الطاهرة، واكتملت شهادته أمام قلعته، كما تنبأ له مار كيوركيس ذات مرة.

وكان استشهاده يوم الجمعة في السابوع الأخير من سابوع القيظ سنة 358 م. ودفن مار قرداغ في تل مِلقى بإزاء قلعته. وقد حول المؤمنين قبره إلى مزار كبير، حيث كانوا يجتمعون كل سنة في يوم استشهاده للصلاة والبركة.[11]

ويحتفل بتذكار مار قرداغ في الجمعة السابعة من سابوع الصيف " القيظ ".





--------------------------------------------------------------------------------


1_ نهر ديالى: هو أحد روافد دجلة، ويصب فيه جنوبي بغداد، طوله 450 كم. على جانبيه آثار لمدن قديمة مندثرة. المنجد في الأعلام ص 293.

2_ المملكة الفارسية: ولاية واسعة وإقليم فسيح، أول حدودها من جهة العراق أرجان، ومن جهة كرمان السيرجان، ومن جهة ساحل بحر الهند سيراف، ومن جهة السند مكران. معجم البلدان ياقوت الحموي ج 4 ص 226. وهي اليوم دولة إيران تقع في جنوب غربي آسيا بين الاتحاد السوفياتي شرقاً، وأفغانستان وباكستان شرقاً، وخليج العجم وبحر عمان جنوباً، والعراق وتركيا غرباً. وثلاث أرباع أرضها صحراء قاحلة على سطحها كثبان من الرمل الأحمر ورقاع متحجرة من الملح أطلقوا عليها اسم صحراء الملح. وقد انحصر وجود المياه في الجهات الشمالية والغربية حيت الجبال العالية. منها جبال زغروس في الجنوب. المنجد في الأعلام ص 100.

3_ المملكة البيزنطية: دولة تأسست في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية من البوسفور حتى الفرات، في عهد اركاديوس سنة 395، واستمرت حتى الاحتلال العثماني 1453 عند سقوط القسطنطينية عاصمتها. نشأت أولاً لمجابهة العدو الفارسي، وتوطدت بعد تجزئة الإمبراطورية الرومانية إلى دولتين متميزتبن، لا سيما بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية بأسرها سنة 476. لعبت دوراً هاماً في الخلافات الدينية المسيحية، وعجزت عن صد الفاتحين العرب بعد سنة 632، فانتزعوا منها سورية ومصر وشمالي أفريقيا وبلغوا حدود القسطنطينية مرراً. بلغت أوجها في عهد السلالة المقدونية بين سنتي 867 _ 1057. دخلت في صراع مستمر مع السلالة الحمدانية في حلب، فكانت المعارك سلسلة عمليات مد وجزر مستمرة. عملت الحروب الصليبية على تجزئتها وإضعافها سنة 1204. سقطت أمام ضربات محمد الفاتح سنة 1543. المنجد في الأعلام ص 177.

4_ شقلاوة: مصيف شهير على سفح جبل سفين في شمال العراق. المنجد في الأعلام ص 390.

وتعرف أيضاً بشقلاباد وهي قرية كبيرة مليحة في لحف الجبل المطل على أربل ذات كروم كثيرة وبساتين وافرة. معجم البلدان ياقوت الحموي ج 3 ص 355.

5_ بيث بغاش: منطقة واقعة شرقي داسن وشمالي سلاخ. وهي تشمل المناطق الشرقية التي كان الآثوريون يسكنونها غربي مدينة أورمية، كبيت شمس دين وكاور. وكانت بيث بغاش عائدة إلى مطرابوليط حدياب " أربيل ". ويقول ياقوت الحموي أن بابغيش ناحية بين أذربيجان وأردبيل يمر بها الزاب الأعلى. معجم البلدان ياقوت الحموي ج 1 ص 308.

6_ عبد يشوع: راهب فاضل كان يعيش في كهف مقابل ناقوط ماء مشهور يدعى " حوداو " في وسط واد عميق من غرب جبل سفين يدعى " رهشه دول "، ويبعد عن دير الربان بويا نحو ساعة سيراً على الأقدام. تاريخ شقلاوة الشماس ميخائيل كوسا ص 47.

7_ الربان بويا: راهب كان يسكن في مغارة تبعد عن سكنى مار عبد يشوع نحو تسعة أميال. وقد أمضى في ذلك الجبل ثمان وستين سنة في الزهد والصلاة. ويقع ديره في القسم الأعلى من واد يدعى باسمه، ويشرف على منطقة شقلاوة. ويبعد عن الطريق العام نحو ساعة واحدة تسلقاً. ويضم مجموعة من الكهوف المنظمة التي كانت مأوى للرهبان. تاريخ شقلاوة الشماس ميخائيل كوسا ص 44.

8_ الخابور: ويعرف بالخابور الأصغر تميزاً عن الخابور الأكبر الذي يمر في الجزيرة السورية، ويصب في نهر الفرات. أما الخابور الأصغر فينبع من أرمينيا الجنوبية ويصب في نهر دجلة بين مغارة ومزرة في العراق. المنجد في الأعلام ص 264.

9_ بيدار: من الجملة الكلدانية بصي دوا " بيث دارا " وتعني ميدان الحرب. وهي قرية بجوار زاخو على بعد بضعة كيلو مترات إلى الغرب منها. وكانت مركز مطرانية زاخو حتى بداية القرن العشرين.

10_ زاخو: من الكلمة الكلدانية زضريا " زاخوثا " والتي تعني غلب أو انتصر. مدينة في شمال غرب العراق على الحدود التركية وبالقرب من الحدود السورية. مركز قضاء تابع لمحافظة دهوك.

11_ مار قرداغ الشهيد إدمون لاسو ص 7 _ 18.




Opinions