تفعيل تقرير بيكر-هاملتون كان فرصة ذهبية لحل الأزمة العراقية
اشتدت مخاوف المجتمع الدولي من استمرار تفاقم وتدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في العراق نتيجة تصاعد موجات العنف والإرهاب والقصف والقتل العشوائي أو الطائفي للمدنيين الأبرياء وما قد يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب أهلية متوقعة في أي وقت يصل نارها وتأثيراتها الخطيرة إلى دول أخرى مرشحة هي الأخرى لمواجهة المصير نفسه كلبنان وسوريا وإيران وباكستان ومنطقة الخليج حيث تعتبر المصدر الرئيس لتصدير الطاقة .وبلا شك فأن اندلاع حرب طائفية لاسامح الله في العراق سيدفع بدول الجوار إلى التدخل بشؤون العراق بسبب تشابه تركيبات مجتمعاتها مع تركيبة المجتمع العراقي هذا يعني إضافة صعوبات وعوائق أمام الجهود الدولية لإطفاء نار الفتنة .
في نفس الوقت وفي منطقة أخرى من الشرق الأوسط تتضاءل جهود السلام يوما بعد آخر لمعالجة الأزمة اللبنانية التي قسمت اللبنانيين إلى معسكرين يتمسك كل طرف منها بمواقفه المتشنجة وتهيأ لأية توقعات في حالة فشل المساعي الحميدة العربية والدولية لنزع فتيل حرب أهلية جديدة في لبنان ربما تتورط سوريا وإيران فيها وفيما يخص الوضع في فلسطين فأن إخفاق المفاوضات بين الفصائل الفلسطينية للاتفاق على حكومة وحدة وطنية ومعالجة الثغرات لإعادة تطبيق خارطة الطريق قد يسفر عنها انهيار جهود السلام واستئناف الصراع الفلسطيني –الإسرائيلي .
لم تنته قائمة الأزمات والمشاكل عند هذا الحد في الشرق الأوسط ،بل يضاف إليها تنامي التطرف والإرهاب ووصول حل الملف النووي الإيراني إلى طريق مسدود بعد اعتماد مجلس الأمن قرارا بفرض المقاطعة الاقتصادية على إيران بشأن برنامجها النووي الذي يثير مخاوف عربية وخليجية وإسرائيلية وافريقية وغربية .
أمام تدهور الأوضاع الخطيرة في الشرق الأوسط ولأجل تطويق الأزمات وتفكيكها وحلها بالطرق السلمية وكصفقة واحدة لعلاقة بعضها بالبعض الآخر ،بادر عدد من كبار المسؤولين الأمريكان وفي مقدمتهم جيمس بيكر وزير الخارجية السابق إبان حكم الرئيس جورج بوش إلى وبعد دراسة مستفيضة لمجمل الأوضاع الراهنة ،إلى تقديم مشروع سلام تركزت معظم فقراته لحل الأزمة العراقية .... وقد أطلق عليه عنوان (مشروع تقرير بيكر-هاملتون) .
يحتوي التقرير على(79) توصية معظمها يتعلق بإقرار الأمن والاستقرار والسلام في العراق إضافة إلى معالجة المشاكل الأخرى من خلال إيجاد صفقة سلمية شاملة لمشاكل المنطقة المشار إليها آنفا ،وبشكل عام فأن التقرير يتضمن الكثير من الفقرات الايجابية التي يمكن استثمارها وتوظيفها وتطويرها لجعلها قواسم مشتركة لحل المشكلة السياسية في العراق ، مع ذلك لا يخلو التقرير من السلبيات والملاحظات التي وردت فيه وفيما يأتي عرض ملخص لمضمون التقرير .
أولا:- لم يقتصر مشروع بيكر-هاملتون على تقديم الحلول الوسطية لحل الأزمة السياسية في العراق ،بل اتسع ليشمل حلولا لتسوية مشاكل أخرى في منطقة الشرق الأوسط كما جاء ذلك في الفقرات (10-11-12-13-14-15-16-17) وكأن التقرير يشترط حل المشكلة العراقية مع القضايا العويصة التي تعصف بالمنطقة ،هذا التوسع في المعالجة الشاملة يصعب بلا شك من مهمة المفاوضات والجهود الدبلوماسية ويطيل أمد التوصل إلى حلول نهائية لكل أزمة .
ثانيا :- إن توسيع دائرة التفاوض لإقرار المصالحة الوطنية من خلال إدخال دول الجوار كافة كأطراف فيها (الفقرات 3-5-8) قد يثقل كاهل المفاوضات ويحملها طروحات جديدة العراقيون في غنى عنها كما سيعزز ذلك من نفوذ دول الجوار في الشأن العراقي الداخلي فضلا عن ذلك فأن إقحام دول الجوار بحل الأزمة العراقية سيغني بالتأكيد انحياز كل دولة لامتداد مكونتها أو طائفتها في العراق ولدعم فصائلها السياسية القريبة منها وموالية لها مما يوسع من فجوة الخلافات بين الأطراف العربية من جهة ودول الجوار فيما بينها من جهة أخرى .
كان يفترض بالتقرير أن يحدد مسبقا طبيعة المهام الملقاة على دول الجوار وحثها وإلزامها بضرورة الكف عن التدخل بشؤون العراق الداخلية وان اقتضى الأمر إنذارها وتحذيرها من قبل مجلس الأمن في حالة عدم امتناعها عن ذلك وإدراج الإنذار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة .
إذ لا تكفي المناشدات والدعوات عبر التصريحات التي تتناقلها وسائل الإعلام...ولكن مع ذلك ينبغي الانتباه إن ما ذكر لا يعني إهمال دول الجوار تماما عن إشراكها في مفاوضات المصالحة الوطنية بل إن دورها سينحصر في حث الأطراف العراقية التي تدعمها عن إبداء المرونة للتوصل إلى تسوية مرضية فضلا عن توقفها الكامل لتقديم أي دعم مادي وتسليحي للفصائل العراقية بما في ذلك تشديد المراقبة على الحدود الدولية مع العراق لمنع أي تسلل للمقاتلين والأسلحة إلى داخل العراق .
ثالثا :- كما قلنا إن ربط التقرير لازمة العراق مع المشاكل الإقليمية الأخرى يجعل حكومات الدول المعنية في موقف صعب لتأييد المشروع وذلك لاختلاف مواقف الحكومات إزاء كل قضية ،فعلى سبيل المثال ،إن لإيران وسوريا مواقف متشابهة تجاه الملف اللبناني ومختلفة إزاء الوضع في العراق ...فسوريا وإيران مواقفهما تعد سلبية تجاه حكومة فؤاد السنيورة ويدعمان حزب الله في حين يقال أن سوريا تدعم الفصائل (السنية )في العراق وإيران تدعم الفصائل(الشيعية)... فضلا عن إن كلا البلدين لهما مواقف غير متطابقة لحل الصراع العربي الإسرائيلي . ان إدراج حل القضية الفلسطينية مع إيجاد الحلول للازمات الأخرى يرى المراقبون إنها من ضروب الخيال وان المجتمع الدولي عجز أصلا عن حل القضية الفلسطينية لوحدها لأكثر من نصف قرن فكيف يمكن حلها بكل بساطة مع قضايا أخرى شائكة .
رابعا:- لو كانت حكومة الولايات المتحدة قد ركزت فعلا على حل كل مشكلة على حدة لربما استطاعت تحقيق نجاحا بهذا المضمار وللتأكيد على هذا الرأي هو صدور تصريحات لمسؤولين في الشرق الأوسط عبروا فيها عن عدم رضاهم للتقرير إذ لا يمكن لأي حكومة معنية أن تعرب عن موقف شامل تجاه كل المشاكل التي تعصف بالشرق الأوسط واعتبار حلها هو صفقة واحدة .
توصيات ايجابية مهمة
هذا لا يعني أن تقرير بيكر –هاملتون لا يخلو من نقاط ايجابية عديدة التي يمكن توضيفها لحل الأزمة السياسية العراقية وتحقيق المصالحة الوطنية بين الأطراف المتنازعة ومن بين اهم بنود التقرير :
1- تعد الإشارة إلى استعداد الولايات المتحدة تقديم الدعم الكامل للحكومة العراقية والشروع بتحرك دبلوماسي للسلام كما جاء في الفقرة (1) قبل 31-12-2006 وهو بحد ذاتها عامل ايجابي يعكس رد فعل قوي تجاه خطورة ما يجري في العراق آخذين بنظر الاعتبار ما للولايات المتحدة ثقل دولي وتأثير في الساحة الدولية .
2- ان تأكيد الفقرة (2) مجددا على ان أهداف التحرك السياسي والدبلوماسي يصب في مصلحة دعم وحدة العراق وسلامة أراضيه يعزز من نشر الاطمئنان لدى مكانة الأطراف السياسية العراقية التي لا تنفك عن التعبير عن حرصها الشديد للحفاظ على وحدة العراق وشعبه ،يضاف إليها ما ورد من إشارات حول وقف التدخلات وأعمال زعزعة الاستقرار من جانب جيران العراق وتأمين الحدود ومنع امتداد النزاعات وتعزيز المساعدات الاقتصادية والتجارية والعسكرية للحكومة العراقية وإعادة فتح السفارات في بغداد وغير ذلك من النقاط الايجابية التي تخدم المصلحة الوطنية للعراق وتستجيب لمطاليب شعبه .
3- من الفقرات الحيوية المهمة ما تضمنته الفقرتين (20-43) من تقرير بيكر –هاملتون الذي يؤكد على ضرورة استعداد الحكومة الأمريكية مواصلة تدريب قوات الأمن ومساعدتها ودعمها باستمرار بتقديم الإسناد السياسي والعسكري والاقتصادي للحكومة العراقية حتى يصبح العراق اكثر قدرة لممارسة مهمات الدفاع والحكم ويصل الجيش إلى درجة قوية تجعل تخفيض الوجود العسكري والمدني الامريكي في العراق ممكنا.
اذن ماهو الضرر من هذا النص الذي يلبي تطلعات العراقيين وقواه السياسية ويستجيب لدعوات بعض الفصائل السياسية المطالبة برحيل قوات الاحتلال والفصائل الأخرى التي تعمل على اقرار الامن والاستقرار من خلال تعزيز قدرات الجيش، ان تاكيد التقرير على اعادة تأسيس الجيش واضفاء الهيبة عليه وتسليحه هو من مطالب الفصائل التي انتقدت بشدة قرار حل الجيش والقوات المسلحة الأخرى بعد 9-4-2003 .
4- ان تضمن الفقرة (22) من التقرير اشارة إلى استعداد الحكومة الامريكية الاعلان انها لا تسعى إلى اقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق واشترطت حصول موافقة الحكومة العراقية عن أي طلب لاقامة قواعد مؤقتة ،هذا النص بحد ذاته يبدد مخاوف العراقيين إزاء الوجود العسكري على اراضيهم .
5- لعل احد اهم الموضوعات ما جاء في الفقرة (23) ايضا التي تدعو الرئيس الامريكي الاعلان عن تأكيد بلاده انها لا تسعى السيطرة على نفط العراق وهو نص يعد بمثابة رد على المزاعم التي روجت حول مصادرة النفط العراقي من قبل حكومة الولايات المتحدة والسيطرة على انتاجه وتصديره .
6- نصت الفقرتين (26 و27) على مراجعة الدستور العراقي وبمساعدة الامم المتحدة واعادة المفصولين السياسيين إلى الحياة الوطنية والمشاركة في الحكومة وغيرها من الإشارات التي تتطابق مع طروحات معظم الفصائل السياسية خارج السلطة وهذا ما يدعو فعلا إلى التفاؤل للتوصل إلى مصالحة وطنية شاملة .
7- وفيما يخص تقاسم الثروات الطبيعية بشكل عادل ،فأن الفقرة (28) من التقرير قد عالجت هذه المسألة بروح من العدالة والمساواة وبما ينسجم مع معايير القانون الدولي والوطني عندما ذكرت (يجب ان تعود عائدات النفط إلى الحكومة المركزية ويتم اقتسامها على أساس عدد السكان ) أليس هذا ما يطلبه الفرقاء والفصائل السياسية كي لا يكون هناك اجحاف او تهميش او مصادرة لحقوق أي مكونة ،ثم ان هذا التوزيع للثروات مطبق في الدول الفيدرالية وغير الفيدرالية في العالم وهو اساس الحكمة والعدل .
الخاتمة :-
بشكل عام لايمكن لأية مبادرة من هذا النوع او مشروع لاقرار السلام والمصالحة الوطنية ان ينجح دون ان تقوم الاطراف المعنية من جانبها بدراسته والاستعداد لتخفيض سقف مطاليبها وشروطها وصولا إلى قواسم مشتركة تحفظ حقوق الجميع وعلى اسس متينة تكون عماد الدولة العراقية الجديدة.