ثقافة قبول الآخر: القيم والمثل المشتركة في الأديان *
معروف أن الدين في المجتمعات الشرقية ومن بينها مجتمعنا العراقي يكاد يكون أحد أبرز العوامل إن لم يكن الأبرز تماما في رسم وتحديد أخلاقيات الفرد وسلوكياته وعلاقاته بالآخرين.وإن ثمة أركان وتعاليم وقيم ومثل كثيرة مشتركة بين الأديان التي يدين بها أبناء الشعب العراقي.
ولا يضع الدين أو يحدد الضوابط الإيمانية والتعبدية وحسب، إنما أيضا الضوابط الأخلاقية والاجتماعية وما يقوم عليها أو ينبثق منها.
والأديان في المجتمعات الشرقية تدعو ضمن أولويات ما تدعو إليه.. إلى الحوار والعيش المشترك وقبول الآخر.
نقرأ في سفر التكوين من الكتاب المقدس عند اليهودية والمسيحية: (قال الرب الإله: لا يَحسُن أن يكون الإنسان وحده، فأصنع عونا بأزائه)، كما نقرأ (انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوانات الدابة على الأرض).
لقد أوصى الله الإنسان بالتسلط على كل ما هو مخلوق من أجل الإنسان ولم يوصيه بالتسلط على أخيه الإنسان.
ونقرأ في القرآن الكريم: (يا أيها الناس.. إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير).. سورة الحجرات، الآية 13.
وقد أثبتت معظم تجارب العالم إن لم أقل كلها.. أهمية التحاور وقبول الآخر على أساس المشترك من المفاهيم والمثل والقيم حتى وإن كان بالحد الأدنى وبما يأتي بالنتائج الإيجابية المرجوة للجميع، يُقابل ذلك عدم جدوى العنف واستخدام القوة وتهميش وإلغاء الآخر في تحقيق الغايات المنشودة.
وانطلاقا مما تقدم، والمتمثل بأهمية الأديان في تحديد سلوكيات الفرد في المجتمعات الشرقية ومنها بطبيعة الحال مجتمعنا العراقي، فالمعروف أن كل الأديان المعتبرة سماوية تشترك في عدد كبير من التعاليم السامية والقيم النبيلة ولسبب واضح وبسيط هو أنها جميعا إنما تنبع من منبع واحد.
وبقدر تعلق الأمر بالعراق، وحيث أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، فإن الأديان السماوية المعترف بها رسميا هي: الصابئية المندائية واليهودية والمسيحية والإسلام، وذلك انطلاقا من ما هو وارد في القرآن الكريم (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).. (سورة المائدة، الآية 69).
ويرد نفس المعنى في عدد آخر من الآيات الكريمات في مختلف السور ومنها الآية 62 من سورة البقرة والآية 17 من سورة الحج، فضلا عن ما يورده القرآن الكريم من تكريم وتوقير لرسل وأنبياء هذه الديانات ومنهم: آدم وشيت وسام بن نوح وإبراهيم أبو الأنبياء ويحيى بن زكريا وموسى والمسيح عيسى بن مريم عليهم السلام جميعا.
ولا ننسى قبل أن نسترسل هنا أن نؤكد على خصوصية واحترام طائفة الإيزيديين في العراق كطائفة دينية مؤمنة موحِدة مسالمة تلتزم وصايا وتعاليم تصب كلها ضمن مفاهيم تمجيد الخالق واحترام قمة خلقه وهو الإنسان.
وأول وأساس ما تشترك به هذه الأديان هو التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ومن ثم أركان الدين كالصوم والصلاة والتطهير من الذنوب والصدقة، يرافقها الالتزام بالوصايا والتعاليم وفي مقدمتها المحبة والسلام والتآخي والمغفرة والتسامح واحترام إنسانية الفرد وحريته وكرامته.
وهذا في الواقع أساس قوي ومتين يمكن أن يُبنى عليه نهج رجال الدين الأفاضل والقادة في مختلف الميادين السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والناشطين في مؤسسات المجتمع المدني بمختلف عناوينها في العراق لترسيخ وتثبيت ثقافة التحاور وقبول الآخر والعيش المشترك وصولا إلى بناء بلد آمن مستقر ينعم بالرفاهية ويخطو بثبات تجاه التطور والازدهار.
وإذا استعرضنا بوجه عام وسريع أبرز تعاليم هذه الديانات وكتبها المقدسة نجد بجلاء ووضوح اشتراكها على نحو واسع في التعاليم والقيم والوصايا السامية والمثل المشتركة التي أشرنا إليها أعلاه.
فأبرز أركان الدين عند الصابئة المندائييين هي التوحيد والطهارة والصوم والصلاة والصدقة. ومن المحرمات عندهم: التجديف باسم الخالق (الكفر)، عدم أداء الفروض الدينية، القتل، الزنا، السرقة، الكذب، شهادة الزور، خيانة الأمانة والعهد، الحسد، النميمة، الغيبة، التحدث والإخبار بالصدقات المُعطاة، القسم الباطل، عبادة الشهوات، الشعوذة والسحر، شرب الخمر، الربا، الانتحار وإنهاء الحياة والإجهاض، تعذيب النفس وإيذاء الجسد.. إلى جانب عدد آخر من المحرمات.
وهي وصايا وتعاليم لو قرئناها بلغة اليوم نجدها تتمحور تماما حول مفاهيم المحبة والسلام والتسامح والشراكة وقبول الآخرم واحترام الكرامة الإنسانية.. وبما ينسجم مع ما أراده الخالق جل وسما لخلقه حيث يرد في الكتب المقدسة للصابئة المندائيين: (وأمرناكم أن اسمعوا صوت الرب في قيامكم وقعودكم وذهابكم ومجيئكم وفي ضجعتكم وراحتكم وفي جميع الأعمال التي تعملون).
أما في اليهودية فنجد الوصايا العشر التي تلخص المئات من الوصايا الواردة في الشريعة الموسوية، وتبدأ هذه الوصايا العشر بالتوحيد من خلال وصية: أنا هو الرب إلهك لا يكون لك آلهة أخرى أمامي، وتستمر لتوصي بإكرام الوالدين وتحريم القتل والسرقة والزنى وشهادة الزور واشتهاء ما هو للآخرين.
وتندرج هذه كلها عند التطبيق السليم ضمن نفس المفاهيم التي أشرنا إليها قبل بضعة أسطر أعلاه.
والأمر ذاته مع المسيحية التي تقوم على المحبة والسلام والتسامح والمغفرة. إذ وبشأن المحبة يُلخص الإنجيل المقدس كل التعاليم والوصايا بوصيتين رئيستين هما: تحب الرب إلهك من كل قلبك وفكرك وقوتك وتحب قريبك كنفسك، والقريب هنا ليس قريب الدم والجسد إنما كل إنسان يتم التعامل معه.
أما بشأن السلام فإن هتاف الملائكة عند ولادة السيد المسيح عيسى بن مريم كان (المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر).. والتحية في المسيحية هي السلام معكم.. أو السلام لكم، إلى جانب تعاليم ووصايا أخرى يحفل بها الإنجيل وتدعو إلى السلام الإلهي والكيفية التي يحصل بها الإنسان المؤمن عليه.. فضلا عن أن من أسماء السيد المسيح في الإنجيل (رئيس السلام).
وبشأن المغفرة فثمة وصية أن يغفر المؤمن للآخرين دونما حدود. لا بل أن الأمر يتجاوز ذلك إلى التوصية بمحبة الأعداء ومباركة اللاعنين والإحسان إلى المبغضين والصلاة من أجل المسيئين على أمل أن تتغلب المحبة على الكراهية والخير على الشر في تجسيد حي لقبول الآخر. وفي الصلاة الرئيسة للمسيحيين والمعروفة بالصلاة الربية، يرد: (واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن أيضا نغفر للمذنبين إلينا).
والسيد المسيح له المجد صلى للرب وهو على خشبة الصليب أن يغفر لصالبيه.
وثمة موقف في المسيحية يبرز هو الآخر وبجلاء مفهوم قبول الآخر عندما أحضر اليهود أمام السيد المسيح إمرأة خاطئة وطالبوا بإدانتها فأجابهم بكلمته الشهيرة (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر).
هذا فضلا عن تعاليم مسيحية أخرى معروفة على نطاق عالمي مسكوني لا مسيحي وحسب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: (ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه).
وفي الإسلام الحنيف نجد الدعوات إلى السلام والمودة والتآلف واضحة وجليلة في نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة. حيث تناولها القرآن الكريم في العشرات من آياته الكريمات، والسلام اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته: نقرأ: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام)، وجعل الإسلام من السلام أيضا تحيته وسمّى الجنّة دار السلام: نقرأ: (والله يدعو إلى دار السلام)، وأيضا: (دعواهم فيها سبحانك أللهم وتحيتهم فيها سلام). وجعل الله السلام جزاءً على رضوانه حيث نقرأ: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام). والآيات التي تناولت السلام كثيرة، تتدرج من قوله تعالى: (سلام قولاً من رب رحيم)، (سلام على نوح في العالمين.. سلام على إبراهيم.. سلام على موسى وهارون.. سلام على آل ياسين... وسلام على المرسلين)، إلى قوله تعالى: (سلام هي حتى مطلع الفجر)، وقوله عز وجل: (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين).
أما التسامح فله قيمة كبرى في الإسلام، فهو نابع من السماحة بكل ما تعنيه من حرية ومن مساواة في غير تفوق جنسي أو تمييز عنصري، بحيث حض الإسلام الحنيف، على سبيل المثال، على الاعتقاد بجميع الديانات، حيث نقرأ في القرآن الكريم، سورة البقرة، قوله تعالى: "..آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله".
و التسامح ليس هو التنازل أو التساهل أو الحياد اتجاه الغير، بل هو الاعتراف بالآخر.. وقبوله.
إنه الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق العالمية للشخص، وبالحريات الأساسية للآخرين، وإنه وحده الكفيل بتحقيق العيش المشترك بين شعوب يطبعها التنوع والاختلاف، بحيث قال الرسول العربي الكريم: "الدين هو المعاملة".
ويشهد التاريخ بالنزعة الإنسانية للإسلام، وبالتسامح الذي ربط علاقات المسلمين بباقي أهل الديانات الأخرى، حيث دعا القرآن الكريم إلى مجادلة كل هؤلاء بالتي هي أحسن ومحاولة إقناعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث نقرأ في سورة النحل، الآية 125: (إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). وبهذا المنهج قام الإسلام على مبدأ عدم الإكراه، حيث نقرأ في القرآن الكريم: (لا إكراه في الدين)، (سورة البقرة، الآية 256) .. وعبر تجسيد واضح وجلي لقبول الآخر بغض النظر عن دينه أو معتقده طالما كان خليقة من خلائق الله عز وجل.
إذن.. ومن خلال هذه القواسم المشتركة التي عرضنا أمثلة بسيطة لها، تبرز أهمية القيم والمثل المشتركة ومنها أركان وتعاليم الأديان، والتي ينبغي على كل من هو معني بالأمر أن يعمل عليها ويوظفها بالشكل السليم لتحقيق الغاية المنشودة والمتمثلة بنشر ثقافة التسامح وقبول الآخر وترسيخ مباديء الحريات الفردية والتفاهم والصفح وإقرار حقوق كل المكونات ومساعدة المجتمع المدني على النهوض والتطور.
ومن جهة أخرى، وإذا كان هناك ثمة رأيان في مسألة قبول الآخر: الأول يقوم على ضرورة وجود قواسم مشتركة بين الناس ليعيشوا مع بعضهم بسلام. ومثل هذه القواسم موجودة حتى في الأديان.. كما لاحظنا أعلاه.
والثاني يرى عدم ضرورة وجود مثل هذه القواسم المشتركة، فيقول: ما دام هذا الإنسان الذي أمامي إنسانًا مثلي فهذا يكفيني لكي أعيش معه وأقبله بغض النظر عن معتقده أو لأي جنس من البشر ينتمي، لذلك فلا حاجة للحوار معه وعلي أن أتقبله كما هو.
فإنه وفي جميع الأحوال يبقى الحوار والاختلاف مع الآخر، أمر حتمي، تفرضه طبيعة الحياة. وبما أن الحوار عبارة عن علاقة مباشرة بين طرفين أو أكثر، تقوم على التعبير وتبادل الأفكار والحجج والبراهين بهدف التواصل والإقناع أو التأثير.. فمن الضروري أن يؤدي هذا الحوار إلى شيء من الاختلاف حول بعض الأمور وطرق تناولها. علاوة على أن هذا الآخر ربما اختلفت بيئته عن بيئتنا، وثقافته الاجتماعية عن ثقافتنا، مما يستوجب نوعا من التعايش وقبول الآخر، وقبول الحوار والتعايش معه، طالما أن هذا التعايش لا يمس شؤون العقيدة أو الثوابت الدينية.
ومن هنا تأتي أهمية التأكيد على ضرورة تعزيز مفهوم قبول الآخر في وعي الإنسان والمجتمع وبالتالي تصبح هذه الفكرة بمثابة العمود الفقري لتعايش مختلف الأديان والشعوب على وجه هذه البسيطة ومنها شعبنا العراقي الكريم بكل ألوانه ومكوناته الدينية والمذهبية والقومية.
* مشاركة الكاتب في مؤتمر قبول الآخر الذي نظمته في أربيل منظمة التسامحية العالمية للفترة من 20 ـ 22 كانون الثاني 2009