ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها/ الحلقة التاسعة
31/10/2009فجر الثورة
أولاً: ساعة الصفر:
كان موعد الحركة للقوات العسكرية قد حُدد الساعة الثالثة فجراً، وفي الوقت المحدد، قبيل تحرك القوات استطاع عبد السلام عارف، وعبد اللطيف الدراجي التحفظ على آمر اللواء العشرين الزعيم الركن [احمد حقي] واعتقال آمر الفوج الثاني العقيد الركن [ ياسين عبد الرؤوف ]،بعد أن فاتحه عبد السلام عارف للانضمام إلى قوى الثورة ورفضه التعاون، وبذلك تمّ لعبد السلام عارف التحرك نحو بغداد بعد أن وزع العتاد الذي كان قد خزنه بصورة سرية استعداداً لهذا اليوم.
وفي الوقت نفسه تحرك عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر نحو مقر الفرقة الثالثة في بعقوبة للسيطرة عليها، واعتقال قائدها اللواء الركن [غازي الداغستاني]الذي كان يعتمد عليه النظام الملكي في حماية النظام.
كما جرى إبلاغ رفاقهم في حركة الضباط الأحرار في الديوانية، حيث مقر قيادة الفرقة الأولى بضرورة اعتقال قائد الفرقة الزعيم الركن [عمر علي ] ومعاونه الزعيم الركن [وفيق عارف] شقيق رئيس أركان الجيش [ رفيق عارف ] ومساعديه.
كان الهدف الأول لعبد السلام عارف السيطرة على دار الإذاعة،لإذاعة البيان الأول للثورة، حيث توجه إليها وبصحبته قوة تتألف من دبابتين فيما سبقه إليها النقيب [خزعل السعدي] وبإمرته ثمان دبابات أخرى، وتمّ لقوى الثورة السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة، وأسرع عبد السلام عارف بإذاعة البيان الأول في تمام الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 14 تموز 1958.
ثانياً:البيان الأول للثورة :
بيان من القائد العام للقوات المسلحة :
بسم الله الرحمن الرحيم :
أيها الشعب العراقي الكريم :
بعد الاتكال على الله، ومؤازرة المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة، أقدمنا على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصّبها الاستعمار لحكم الشعب، والتلاعب بقدراته لمصلحتهم، وفي سبيل المنافع الشخصية.
أيها الأخوان: إن الجيش هو منكم واليكم، وقد قام بما تريدون، وأزال الطبقة الباغية، التي استهترت بحقوق الشعب، فما عليكم إلا أن تؤازروه، وأعلموا أن الظفر لا يتم إلا بترصينه والمحافظة عليه من مؤامرة الاستعمار وأذنابه وعليه فأننا نوجه إليكم نداءنا للقيام بإخبار السلطات عن كل مفسد ومسيء، وخائن لاستئصاله، ونطلب منكم أن تكونوا يداً واحدة للقضاء على هؤلاء والتخلص من شرهم.
أيها المواطنون: إننا في الوقت الذي نكبر فيكم الروح الوطنية الوثابة، والأعمال المجيدة، ندعوكم إلى الخلود للهدوء والسكينة، والتمسك بالنظام والاتحاد، والتعاون، والعمل المثمر في سبيل مصلحة الوطن.
أيها الشعب: لقد أقسمنا أن نبذل كلّ عزيز علينا في سبيلكم، فكونوا على ثقة واطمئنان بأننا سنواصل العمل من أجلكم، وأن الحكم يجب أن يعهد إلى حكومة تنبثق من الشعب، وتعمل بوحي منه، وهذا لا يتم إلا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة، وترتبط برباط الأخوة مع الدول العربية والإسلامية، وتعمل بمبادئ الأمم المتحدة، وتلتزم بالعهود والمواثيق، وفق مصلحة الوطن، وبقرارات مؤتمر[باندونك]، وعليه فأن الحكومة الوطنية تسمى منذُ ألان {الجمهورية العراقية}، وتلبية لرغبة الشعب قد عهدنا رئاستها بصورة وقتية إلى مجلس سيادة يتمتع بسلطة رئيس الجمهورية، ريثما يتم استفتاء الشعب لانتخاب الرئيس، فالله نسأل أن يوفقنا قي أعمالنا لخدمة وطننا العزيز إنه سميعٌ مجيب.
بغداد في اليوم السادس والعشرين من شهر ذي الحجة 1377هجرية والموافق لليوم الرابع عشر من تموز 1958. (1)
الزعيم الركن عبد الكريم قاسم القائد العام للقوات المسلحة
ثالثاًً: مهاجمة قصر الرحاب ومقتل العائلة المالكة:
كان إذاعة البيان الأول للثورة بصوت عبد السلام عارف إيذانا بحلول ساعة الصفر، وتحرك القوات العسكرية الثورية بقيادة الضباط الأحرار للسيطرة على جميع المرافق العامة، وكافة الأهداف المحددة، حيث واصلت تقدمها، وسيطرتها على وزارة الدفاع، ومديرية الشرطة السيارة، ومعسكر الوشاش، ومطار بغداد الدولي، والاتصالات السلكية واللاسلكية، فيما تقدمت قوة أخرى إلى قصر الرحاب حيث يتواجد الملك فيصل الثاني، وولى العهد عبد الإله، وكان على رأس تلك القوة إحدى سرايا المشاة بقيادة آمر السرية الرئيس [منذر سليم] مكلفة باحتلال قصر النهاية ومعه أمراء الفصائل كل من الملازم [عبد الجواد حميد] والملازم [عبد الكريم رفعت]، وكانت ملاكات السرية غير كاملة، ولدى كل جندي عشرون طلقة بندقية، وعندما اقتربت السرية من الباب الخارجي للقصر أحس بهم حرس القصر، وبعد تبادل الكلام والصياح بين الطرفين أطلق الجنود بعض الاطلاقات بأمر آمر السرية ، وعلى أثر انسحاب الحرس إلى داخل القصر تقدمت السرية، ودخلت إلى حديقة القصر، وأخذ الجنود وضع الانبطاح مستفيدين من شجيرات وسواقي الحديقة، ومن ثم بدأ إطلاق النار.
وحيث أن العتاد كان على وشك النفاذ لدى الجنود فقد أصبح موقف السرية محرجاً جداً ، وفي تلك اللحظات الحرجة حضرت مدرعة عسكرية بقيادة الملازم الأول [عبد الرزاق غصيبة] ومعه الملازم [جبار خضر الحيدر] وهما من الحزب الشيوعي قدما للاستفسار عن الموقف بعد أن احتلا معسكر الوشاش، وبعد أن أخبرهما آمر السرية بالموقف وحاجته إلى عتاد سارعا بالذهاب إلى مدرسة الأسلحة في معسكر الوشاش مقابل القصر، وكان فيها آنذاك كل من الملازم الأول [عبد الستار العبوسي] والملازم الأول [عبد الله الحديثي] وهما من الضباط المعلمين في المدرسة لتدريب التلاميذ على رمي الصواريخ من القاذفة حجم 105 مم المحملة على سيارة جيب فقام عبد الستار بفتح مشجب المدرسة، وأخذ العتاد وركب معهما الملازم [مصطفى عبد الله] الذي كان من ضباط الدورة التدريبية وذهبوا جميعا إلى قصر الرحاب، وقاموا بتسليم العتاد، واستمر تبادل إطلاق النار والتحاور بين الطرفين للتسليم للثوار دون قيد أو شرط، فمن جانب الثوار كان المفاوض آمر السرية، ومن الجانب المقابل كان المفاوض مرافق الملك الملازم الأول [ يونس ثابت] والذي هو بنفس الوقت ضابط الخفر لتلك الليلة، كما كان في القصر رئيس خفر هو الرئيس [محمود صالح]الذي اتصل بمقدم الخفر لتلك الليلة المقدم [ طه البامرني] الذي كان في مقر لواء الحرس في ثكنة قصر الزهور، إلا أنه لم يستجب لطلب تحريك القطعات لصد الثوار، وفي هذه اللحظة تقدم الملازم الأول [عبد الستار العبوسي] بعجلته وبمدفعها ضد الدبابات وأطلق طلقة واحدة أصابت عمود شرفة الباب ومن ثم أطلق الطلقة الثانية فأصابت جدار القصر الأيسر، وعندها ظهرت راية بيضاء علامة الاستسلام .
خرج الملك فيصل الثاني وولي العهد عبد الإله والملكة نفيسة، أم عبد الإله، والأميرة عابدية، شقيقة عبد الإله، والأميرة هيام زوجة عبد الإله وابنة أمير ربيعة بلاسم الياسين، أكبر إقطاعيي العراق، وبمعييتهم الخادمة رازقية، والطباخ التركي، حاملين الرايات البيضاء ومعلنين الاستسلام، وكان يتقدمهم الملازم الأول [يونس ثابت] وهو رافع المنديل الأبيض، وعند اقترابهم من الثوار، وعلى بعد عشرون متراً أو أقل نهض الجنود وهم بوضع التهيؤ للرمي لغرض استلام الخارجين، وفي لحظة مفاجئة سحب الملازم الأول يونس ثابت مسدسه وأطلق عدة عيارات منه أصاب بها الملازم [مصطفى عبد الله] وعدد آخر من الجنود كما فتح بعض الجنود النار من شرفة القصر في الطابق الثاني، وعلى الأثر بادر النقيب [عبد الستار السبع] ورفاقه الثوار إلى إطلاق النار على جميع أفراد العائلة المالكة وأرداهم قتلى في الحال، ما عدا الأميرة هيام زوجة عبد الإله التي أُصيبت بجروح، لكنها استطاعت أن تزحف إلى داخل القصر، ثم نُقلت فيما بعد إلى المستشفى، وهكذا كانت نهاية العائلة المالكة في العراق. (2)
و هنا يتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية حول حقيقة مقتل العائلة المالكة:
1ـ هل كان مقرراً قتل الملك فيصل، وعبد الإله وبقية الآسرة المالكة ؟
2ـ هل تلقى المهاجمون أمراً من قيادة الثورة بقتل العائلة المالكة أم تصرفوا بذاتهم؟
3ـ لماذا لم يدافع لواء الحرس الملكي عن القصر؟
فيما يخص السؤالان الأول والثاني أدعى كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في لقاءات متعددة معهما بأنهما لم يأمرا بقتل الملك وولي عهده عبد الإله، والعائلة المالكة، وكان هدف الثورة إلقاء القبض على الملك وعبد الإله، وتقديم الثاني للمحاكمة، حتى أن عبد الكريم قاسم كان يحتفظ بتقرير قدمه له النقيب عبد الستار السبع يؤكد فيه أنه هو المسؤول عن قتل العائلة المالكة، وأنه لم يتلقَ أمراً من أحد. (3)
وهنا يتبادر للذهن السوآل التالي: إذا كان من المقرر اعتقال الملك وعبد الإله وعدم قتلهما، فلماذا لم يلتزم المهاجمون بالأمر؟
ولماذا لم يحاسبوا على عملهم هذا؟ بل تم تجاهلها، ولم يتعرض لها أحد من المسؤولين فيما بعد.
وأغلب الظن أن التخلص من العائلة المالكة كان قد تقرر سلفاً بغية منع أي محاولة لإجهاض الثورة سواء كان ذلك من قبل القطعات العسكرية الموالية للملك، أو من عدوان خارجي يدبره حلف بغداد، مما قد يؤدي إلى مواجهة دموية لا أحد يعرف مداها، فكان قرار قتل العائلة المالكة دفعاً لما قد يحدث ما هو أعظم بكثير سواء كان ذلك من وقوع حرب أهلية، أو رداً لعدوان خارجي. أما ما يخص السوآل الثالث، فأغلب الظن أن أمر لواء الحرس الملكي [العقيد الركن طه البامرني] ـ كردي الأصل ـ إما أنه كان مع الثورة أو أنه تعاطف معها في اللحظة الحاسمة، وإلا لكان قد قام بعمل الكثير دفاعاً عن القصر، والعائلة المالكة، حيث كان لواء الحرس الملكي مجهزاً تجهيزاً جيداً ومدرباً تدريباً عالياً، ويملك كميات كبيرة من العتاد في حين أن قوى الثورة كانت لا تملك سوى كمية قليلة جداً من العتاد.
لكن طه البامرني آثر الوقوف مع الثورة، ولم يحاول المقاومة بل سارع إلى الاستسلام لقوى الثورة.
أخذت جثث أفراد العائلة المالكة في سيارة ـ بك آب ـ عسكرية إلى الطب العدلي في باب المعظم، وفي الطريق أوقفت الجموع الهائجة السيارة، وأنزلت جثة عبد الإله من السيارة ومثلوا فيها، وعلقوها على أحد الأعمدة الكهربائية، وكان هذا العمل يمثل أساء كبرى للثورة، وما كان ينبغي السماح لتلك العناصر القيام بهذا العمل، الذي لم يجلب أي فائدة للثورة بل أساء إليها، على الرغم من كل ما أقترفه عبد الإله من جرائم بحق الشعب والوطن.
أما نوري السعيد، أخطر رجالات العهد الملكي، والحاكم الفعلي للعراق، والمعتمد الأول للسفارة البريطانية في بغداد، والذي كان يشغل منصب رئيس وزراء الاتحاد الهاشمي، فقد أسرع للهرب من قصره حال سماعه إطلاق النار، وقبل أن تصل إليه قوات الثورة، حيث أستخدم زورقاً صغيراً، عبر به متنكراً نهر دجلة إلى جانب الرصافة في كرادة مريم، حيث قصد دار الدكتور[صالح مهدي البصام]، وانتقل بعد ذلك بسيارته إلى دار صديقه المدعو [الحاج محمود الاستربادي]، ومنه أنتقل مرة أخرى إلى دار شقيق الوزير ضياء جعفر، المدعو[هاشم جعفر]، وكان يرتدي ملابس نسائية وعباءة، خوفاً من الجماهير المتحمسة لإلقاء القبض عليه.
لكن نوري السعيد شكّ بابن هاشم جعفر، الذي خرج من الدار، خوفاً من إبلاغ السلطة الجديدة عن مكان وجوده، فغادر الدار متوجها إلى قصر الإقطاعي الكبير [ محمد العربي ] في منطقة البتاويين وبرفقته زوجة الاستربادي وخادمه.
وفي الطريق اكتشفته جماهير الشعب، فراح يطلق النار في الهواء من مسدسه، لعله يستطيع التخلص منهم، لكنه فشل في ذلك، وأضطر إلى أن يطلق آخر رصاصة على رأسه، مفضلاً الانتحار على الوقوع بأيدي الشعب، وقد مثلت الجماهير بجثته. (4)
رابعاً: الثورة تواصل تثبيت أقدامها:
اندفعت قوات الثورة، بعد إذاعة البيان الأول لأحكام السيطرة على بقية القطعات العسكرية والمرافق العامة في شتى أنحاء القطر، فقامت قوة عسكرية بالسيطرة على قاعدة الحبانية، البريطانية وأجهزة الرادار فيها، دون أية مقاومة، وتمّ نزع سلاح القوات البريطانية المتواجدة في القاعدة وتولى مسؤولياتها الزعيم الركن [محي الدين عبد الحميد ]أحد أعضاء اللجنة العليا لحركة للضباط الأحرار، وكان لهذه العملية أهمية كبرى في دعم الثورة وحمايتها، ومنع القوات البريطانية من تقديم أي دعم للنظام الملكي. (5)
وفي الموصل سيطر الزعيم الركن [ ناظم الطبقجلي] آمر اللواء الخامس وآمر موقع الموصل على المدينة، وهي ثاني مدن العراق، دون إراقة قطرة دماء.
أما في كركوك فقد أصدر قائد الفرقة الثانية الزعيم الركن [عبد الوهاب شاكر] أوامره بالزحف إلى بغداد، لكن الضباط الأحرار في الفرقة كانوا أسرع منه، استطاعوا السيطرة على مقر الفرقة واعتقاله، وبذلك زال أخطر تهديد للثورة من قيادة الفرقتين الأولى، والثانية، وتمّ تعين الزعيم الركن ناظم الطبقجلي آمر موقع الموصل، وآمر اللواء الخامس قائداً للفرقة المذكورة،وسارع الطبقجلي إلى التوجه إلى كركوك لاستلام مهام منصبه الجديد. (6)
أما في بعقوبة القريبة من بغداد فقد أخذ الزعيم عبد الكريم قاسم على عاتقه مهمة السيطرة على الفرقة الثالثة في بعقوبة التي كان يقودها الزعيم الركن غازي الداغستاني، و كان يشغل منصب معاون رئيس أركان الجيش في الوقت نفسه، ويعتمد عليه النظام اعتماداً تاماً في حمايته من أية محاولة انقلابية، واستطاع الزعيم عبد الكريم قاسم بمعاونة بعض ضباط الهندسة في الفرقة المشاركين في الثورة من اعتقال غازي الدغستاني ومنعه من التحرك لحماية النظام، وتمت السيطرة على الفرقة. (7)
وهكذا استطاع عبد الكريم قاسم حماية مؤخرة قوات الثورة التي قادها عبد السلام عارف، والتي دخلت العاصمة بغداد، وتوجهت قواته على الفور نحو بغداد التي دخلها في الساعة العاشرة صباحاً، وأتمت قوات الثورة السيطرة على المرافق الرئيسية فيها، وفي مقدمتها دار الإذاعة والتلفزيون، وقصر الرحاب حيث تتواجد العائلة المالكة، ووزارة الدفاع، ومعسكرات الرشيد، والوشاش، وأبو غريب، ومطار بغداد الدولي، ومديرية الشرطة السيارة التي كان يعتمد عليها النظام لحماية بغداد، وهكذا استطاعت الثورة أن تثبت أقدامها، ساعة بعد ساعة، وبدأت المراسيم الجمهورية تتوالى من دار الإذاعة لأجراء التغيرات الضرورية في أجهزة السلطة الحساسة، والعسكرية والأمنية منها على وجه الخصوص، ولا شك أن جماهير الشعب كان لها دوراً كبيراً في نجاح الثورة واسنادها.
وفي الديوانية حاول اللواء الركن [عمر علي] قائد الفرقة الأولى في الديوانية التصدي للثورة والزحف إلى بغداد، فأصدر أوامره إلى اللواء الأول في المسيب الذي يقوده الزعيم الركن [ وفيق عارف ] شقيق رئيس أركان الجيش، وإلى آمر حامية البصرة الزعيم الركن [ناجي طالب] للتحرك نحو بغداد .
لكن عدداً من الضباط الأحرار بقيادة العقيد [ فاضل عباس المهداوي] كانوا أسرع منه، حيث تمكنوا من اعتقال [وفيق عارف]، والسيطرة على اللواء المذكور.
أما في البصرة فقد كان آمر الحامية العسكرية فيها أحد أعضاء اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار [الزعيم الركن ناجي طالب ] قد سيطر على البصرة، مما أُسقطَ في يد الزعيم الركن [عمر علي] قائد الفرقة الأولى الذي أصدر له الأمر بالاستعداد للتصدي للثورة.
كما أن الجماهير الفلاحية التي هبت لمساندة الثورة، والتي أحاطت بمقر الفرقة كان لها أثرها البالغ في إفشال خطط قائد الفرقة اللواء الركن [عمر علي] للزحف إلى بغداد، وإخماد الثورة .(8)
وفي الأردن حاول الزعيم الركن [هادي علي رضا] قائد رتل الهادي، والملحق العسكري في الأردن [صالح مهدي السامرائي] وبدعم من السلطات الأردنية السيطرة على الرتل، والتوجه به نحو بغداد، لإجهاض الثورة، لكن الضباط الأحرار أخذوا زمام المبادرة للسيطرة على الرتل رافضين تلقي الأوامر منه معلنين تأييدهم للثورة، واستلام الأوامر من قيادتها في بغداد.
ومساء يوم الثورة تلقى الضباط الأحرار في الرتل أمراً من القائد العام للقوات المسلحة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم بالعودة إلى [H3] داخل الحدود العراقية، واتخاذ الحيطة والحذر خلال الانسحاب.
وقد حقق الضباط الأحرار في الرتل الانسحاب على وجه السرعة، و الوصول إلى [H3 ] في الساعة الخامسة من صباح يوم 15 تموز 1958، فيما وصلت الدبابات التابعة للرتل ظهر السادس عشر من تموز، وبذلك استطاع الضباط الأحرار الاثنان والعشرون من إحباط مساعي آمر الرتل، والملحق العسكري، والقيادة الأردنية باستخدام الرتل في محاولة إجهاض الثورة، وبذلك تحول ذلك الرتل من مصدر خطر على الثورة إلى داعم لها، وإسنادها وحماية حدود العراق مع الأردن من أي محاولة للتدخل من جانب القوات الأردنية، أو الدول الأجنبية. (9)
استطاعت قوى الثورة تدعيم مركزها وتحصينها ضد أي محاولة لإجهاضها من قبل القيادات الموالية للنظام الملكي، ومن قبل الملك حسين الذي أعلن أنه الوريث الشرعي للإتحاد العربي، مدعوماً من قبل الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين الذين سارعوا لإنزال قواتهما العسكرية في كل من بيروت وعمان في محاولة للسيطرة على القوات العراقية المرابطة في الأردن، واستخدامها رأس رمح لإجهاض الثورة، لولا أن استطاع الضباط الأحرار السيطرة الكاملة على كامل القطعات العسكرية بوقت قياسي قصير جداً.
وأخذت برقيات التأييد من القطعات العسكرية في كافة أنحاء العراق تتوالى على قيادة الثورة، وتمّ إبلاغها بسيطرة قوى الثورة الكاملة على كافة المدن وكافة مرافق البلاد دون إراقة الدماء، وهكذا تمّ حسم المعركة مع النظام الملكي الرجعي بأقل ما يمكن من الخسائر البشرية، حيث بلغ عدد القتلى حوالي الثلاثون فرداً من ضمنهم الأسرة المالكة، كما تم حسم الثورة في وقت قياسي قصير جداً أذهل الإمبرياليين، وأعوانهم داخل البلاد.
خامساًً: الثورة ورد الفعل العربي والدولي:
أصيبت القوى الإمبريالية ودول ميثاق بغداد بصدمة كبرى لم يكن يتوقعونها من قبل، بهذه السرعة التي استطاعت قوى الثورة حسم المعركة مع النظام الملكي، تلك الصدمة التي أفقدتهم توازنهم، وجعلتهم يسارعون إلى إنزال قواتهم العسكرية في الأردن ولبنان، حيث أنزلت بريطانيا قواتها في الأردن، فيما أنزلت الولايات المتحدة قواتها في لبنان، وحيث حشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية في محاولة الاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة.
وفي الوقت نفسه، أصدر حلف بغداد بياناً أستنكر فيه أحداث الثورة، واصفاً إياها بأنها [ تأثير هدام قادم من الخارج، وأن قادة الانقلاب يستلهمون أفكارهم من دول أجنبية].(10)
كما أصدرت الحكومة التركية بياناً حول الثورة جاء فيه:
[ إن المغامرين السياسيين في العراق يرتئون من وراء الانقلاب القضاء على حلف بغداد الذي يعتبر مصدر السلام في الشرق الأوسط، وإن اختيار يوم اجتماع مجلس الحلف لتنفيذ الانقلاب هو خير دليل على ذلك].(11)
وفي الوقت نفسه قابل الملحق العسكري الإسرائيلي في أنقرة [الباي ميشيل] رئيس أركان الجيش التركي يوم 15 تموز، وأجرى معه محادثات مستفيضة حول الوضع الجديد في العراق، وابلغه أن الولايات المتحدة وبريطانيا ستتكفلان بحماية نظام الحكم في الأردن ولبنان، وإن إسرائيل ستفصم الوحدة بين سوريا ومصر، وأن على تركيا أن تتعاون مع إيران لإعادة النظام الملكي إلى العراق.
وفي 18 تموز صرح وزير خارجية تركيا في مؤتمره الصحفي بأنقرة قائلاً :
[ إن رئيس الاتحاد الهاشمي هو الملك حسين، وأن الحكومة الشرعية الآن هي حكومة الأردن].
أما الملك حسين فقد طلب من الولايات المتحدة وبريطانيا العمل على إعادة العراق إلى وضعه السابق معلناً أنه الملك الشرعي للبلاد. (12)
هكذا إذاً كانت حمى التآمر للاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة تجري على قدم وساق من قبل الإمبرياليين الذين أرعبتهم أحداث الثورة.
لكن رد الفعل العربي، ودول المعسكر الاشتراكي، وفي المقدمة منهم الاتحاد السوفيتي، كان سريعاً وجاداً في تحذير الإمبرياليين وحلف بغداد من مغبة الأقدام على أي خطوة في اتجاه الاعتداء على العراق.
لقد وقف الشعب العربي في مشرقة ومغربه بجانب الشعب العراقي، وأعلن الرئيس عبد الناصر على الفور اعترافه بالجمهورية العراقية الوليدة، وحذر من أن أي اعتداء عليها سوف يعتبر اعتداء على الجمهورية العربية المتحدة، وأنها ستقف إلى جانب العراق وتدافع عنه بكل ما تملك من وسائل واضعاً كل إمكانيات الجمهورية العربية المتحدة على أُهبة الاستعداد للدفاع عن ثورة العراق.(13)
كما غادر الرئيس عبد الناصر بلغراد، حيث كان يقوم بزيارة رسمية ليوغوسلافيا، حال سماعه نبأ قيام الثورة إلى موسكو، واجتمع على الفور برئيس الوزراء السوفيتي [ نيكيتا خرشوف] طالباً منه الوقوف إلى جانب الثورة في العراق، ومنع الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين وحلفائهم في حلف بغداد من أية محاولة الاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة الوليدة، وقد طمأنه خرشوف إلى أن الاتحاد السوفيتي سيقف إلى جانب العراق، وسارع إلى الاعتراف بالحكومة التي شكلتها الثورة، بعد يوم واحد من قيامها.(14)
كما أصدر بياناً في 16 تموز، وأتبعه ببيان ثانٍ في 18 منه، هاجم فيه إنزال الولايات المتحدة وبريطانيا قواتهما في لبنان والأردن، وحذر هاتين الدولتين من مغبة التدخل، والاعتداء على الجمهورية العراقية الوليدة.
كما أرسل رئيس الوزراء السوفيتي [نكيتا خرشوف] في 19 تموز مذكرات إلي حكومات الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا أكد فيها أن التدخل الإمبريالي المسلح في لبنان والأردن، والذي يشكل تهديداً خطيراً على العراق، وعلى السلم والأمن الدوليين، قد يؤديان إلى نتائج غير متوقعة، وفي منتهى الخطورة، ويخلق سلسلة من ردود الفعل، قد يكون من المتعذر وقفها، وطالبت المذكرات بسحب القوات الأمريكية والبريطانية من لبنان والأردن، وعقد مؤتمر لبحث الأمر، وتسوية المشاكل في الشرق الأوسط .(15)
كما أتبع الاتحاد السوفيتي مذكراته هذه بتحذير جديد شديد اللهجة في 20 تموز 1958 حذر فيه حكومات الدول الغربية من مغبة الأقدام على أية محاولة للتدخل في العراق، كما نبه حكومات ألمانيا الغربية آنذاك، وإيطاليا وإسرائيل من مغبة السماح للقوات الأمريكية باستخدام أراضيها لنقل قواتها إلى المنطقة.
كما وجهت صحيفة البرافدا، لسان حال الحزب الشيوعي السوفيتي، تحذيراً آخر للولايات المتحدة، من المضي في مسعاها للعدوان على العراق قائلة:
[ أن المتطوعين السوفيت سيكونون على أُهبة الاستعداد للتوجه إلى الشرق الأوسط إذا لم تتوقف عن محاولاتها للتدخل والعدوان على العراق].
كما وجه الاتحاد السوفيتي تحذيرا شديداً إلى تركيا في 18 تموز 958 من مغبة العدوان على العراق، حيث راحت تركيا تحشد قواتها على الحدود العراقية، وأقرن الاتحاد السوفيتي أقواله وتحذيراته بالأفعال، فحشد قواته العسكرية على طول الحدود مع تركيا، وأجرى مناورات عسكرية واسعة وحمّل الحكومة التركية مسؤولية أي اعتداء تقوم به ضد العراق.(16)
وهكذا أُسقط في يد الإمبرياليين، وأخذوا يحسبون للتحذيرات السوفيتية ألف حساب، واضطروا في نهاية المطاف لتبديل خططهم في العدوان المباشر على العراق بالقوة العسكرية، والعمل على قلب النظام الجديد من الداخل كما سنرى فيما بعد.
وهكذا صمدت الجمهورية العراقية الوليدة، وأخذت ترسخ أقدامها يوماً بعد يوم، وتوالت اعترافات دول المعسكر الاشتراكي، ودول عدم الانحياز، وبقية الدول العربية.
كما سارع مجلس السيادة بإرسال برقية للرئيس عبد الناصر، أعرب فيها عن شكر الجمهورية العراقية لموقفها من الثورة، وأعلن اعتراف العراق بالجمهورية العربية المتحدة، حيث كان الحكام السابقون قد رفضوا الاعتراف بها.
وفي نهاية المطاف اضطرت الدول الغربية إلي الاعتراف بالجمهورية العراقية كأمر واقع، وخوفا على مصالحها النفطية، لكنها بقيت تتحين الفرص للإطاحة بالثورة.
كان العراق في تلك الأيام الحرجة من عمر الثورة، بأشد الحاجة للأسلحة بسبب التهديدات الأمريكية، والبريطانية والتركية، وظهر بعد قيام الثورة أن كل ما قيل عن تسليح الجيش العراقي من قبل حلف بغداد لم يكن سوى محض خيال، وكان كل هم الإمبرياليين هو حفظ الأمن الداخلي والتصدي لانتفاضات الشعب، فلم يكن هناك رادار، ولا أسلحة متطورة يستطيع العراق بواسطتها الدفاع عن نفسه، ولذلك فقد سارع العراق إلى طلب المساعدة من الشقيقة مصر، وبالفعل أرسلت الحكومة المصرية باخرة محملة بالأسلحة البريطانية الصنع نظراً لأن السلاح العراقي بريطاني المنشأ، كما تم إرسال كتيبة مدفعية مقاومة للطائرات، وسرب من طائرات [الميك ] من سوريا .(17)
كما أرست حكومة الثورة وفداً عالي المستوى ضم كل من الوزراء [عبد السلام عارف] و[محمد حديد ] و[صديق شنشل ] و[عبد الجبار الجومرد] لمقابلة [عبد الناصر] في دمشق، وأجراء محادثات معه حول وسائل دعم الجمهورية العراقية الوليدة، وحول تطوير العلاقات الأخوية بين البلدين، والتنسيق الكامل بينهما، والتأكيد على ميثاق الجامعة العربية، والدفاع المشترك، والتكامل الاقتصادي.
التوثيق
(1) إذاعة وتلفزيون بغداد صبيحة 14 تموز ، ونشرته كافة الصحف الصادرة في بغداد
(2) أسرار مقتل العائلة المالكة ـ فالح زكي ـ ص 93 .
(3)تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري ت نوري عبد الحميد ورفاقه ـ الجزء الأول ـ ص 23 .
(4) صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 54 .
(5) موسوعة 14 تموز ـ العدد 7 ـ ص 166 .
(6) قصة ثورة 14 تموز ـ صبيح علي غالب ـ ص 109 .
(7) موسوعة 14 تموز ـ العدد 6 ـ ص380 .
(8) أسرار ثورة 14 تموز ـ صبحي عبد الحميد ـ ص 85 .
(9) ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 181 .
(10) المصدر السابق ـ ص 211 .
(11) نفس المصدر ـ ص 212 .
(12) نفس المصدر السابق .
(13)نفس المصدر ـ ص 207 .
(14) عبد الناصر والعالم ـ محمد حسنين هيكل ـ ص 189
(15) السياسة الخارجية السوفيتية بين عامي 1955 ـ 1965ـ حماد خيري
(16) أحمد نوري ـ السياسة الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية ـ ص 262.
(17) ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص208
(18)إذاعة وتلفزيون بغداد ـ 14 تموز 1958 .
ملاحظة:للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف
على العنوان التالي:Alhamdany34@gmail.com