Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

جدل الشرعية

 

   هل يكفي ان تصل الى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع لتمتلك الشرعية، فتتصرف بالبلاد كارث، وبالشعب كعبيد؟ تبدل وتغير بلا حسيب او رقيب؟ تصادر الحقوق ولا تحترم الاخر، تقمع المعارضة وتسحق الارادة الشعبية؟.

   برايي، فان الجواب لا، لا يكفي، فصندوق الاقتراع اول الشرعية التي ستظل ناقصة اذا لم تتبعها خطوات اخرى لتكتمل وتثبت، منها:

   اولا: الانجاز، فالسلطة التي لا تنجز شيئا للناخب تفقد شرعيتها، والى ذلك اشار امير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الاشتر لما ولاه مصر {هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاْشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْوةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلاَدِهَا} فبالانجاز تتكرس شرعية السلطة، والعكس هو الصحيح، فالفشل يثلم شرعيتها.

   ثانيا: النظام، فالسلطة التي تفشل في بسط النظام في البلاد تفقد شرعيتها، فالمجتمع، عادة، لا يتحمل الفوضى الى ما لا نهاية، يقول امير المؤمنين {لاَبُدّ لِلنَّاسِ مِنْ أمِيرٍ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ ، يَعْمَلُ فِي إمْرَتِهِ المُؤْمِنُ وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الكَافِرُ ، وَيُبَلِّغُ اللّه‏ُ فِيهَا الأجَلَ ، ويُجْمَعُ بِهِ الفَيْءُ ، وَيُقَاتَلُ بهِ‏العَدُوُّ ، وَتَأمَنُ بِهِ السُّبُلُ ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضّعِيفِ مِنَ‏القَوِيِّ ، حَتّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَراحَ مِنْ فَاجِرٍ}.

   ثالثا: القانون، فالسلطة التي تطلق يد الجماعات والميليشيات في البلاد لتعبث بامن المواطن وبامن البلد، فتقتل وتسحل الجثث وتذبح على الهوية، تفقد شرعيتها، فالقانون هو جوهر السلطة، والذي يجب ان يكون فوق الجميع ليستتب الامن لكل المجتمع، بلا تمييز بين قريب من السلطة او بعيد عنها، فلا شرعية لسلطة تامن في ظلها جماعات العنف والارهاب لتوغل في دماء الابرياء، وقد اشار الامام امير المؤمنين عليه السلام الى ذلك بقوله {إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِىءٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ}.

   كذلك، لا شرعية لسلطة تحرض على العنف والكراهية والتكفير، ولا شرعية لسلطة هي أذن لكل نمام يحرض ضد الاخرين، يقول امير المؤمنين عليه السلام في عهده المشار اليه {أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْد، وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْر، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لاَ يَضِحُ لَكَ، وَلاَ تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاع، فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌ، وَإِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ}.

   رابعا: المساواة، فالسلطة التي تميز بين ابناء المجتمع الواحد على اساس الدين مثلا او القومية او المذهب او الاتجاه الفكري او الخلفية السياسية، ان كل ذلك يفقدها الشرعية، اذ لا شرعية لسلطة تتسبب بتمزيق المجتمع وتفريق وحدته وتعبث بنسيجه الاجتماعي، اذ يجب ان تكون السلطة لكل الناس، حتى لؤلائك الذين لم ينتخلبوها، فانقسام الشارع في نظر السلطة وفي تعاملها اليومي وفي المشاريع العامة يفقدها الشرعية، ولذلك ربط امير المؤمنين عليه السلام بين السلطة والعدل، اي الحق والانصاف، والذي هو لكل الناس في ظل حكومته بلا تمييز ابدا، ومن اي نوع كان، فكتب الى سهل بن حنيف الانصاري، وهو عامله الى المدينة، في معنى قوم من اهلها لحقوا بمعاوية {أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلاَ تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ، وَيَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَكَفى لَهُمْ غَيّاً، وَلَكَ مِنْهُمْ شَافِياً، فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى والْحَقِّ، وَإِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَالْجَهْلِ، وَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا، وَمُهْطِعُونَ إِلَيْهَا، قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَرَأَوْهُ، وَسَمِعُوهُ وَوعَوْهُ، وَعَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ، فَهَرَبُوا إِلَى الاْثَرَةِ، فَبُعْداً لَهُمْ وَسُحْقاً، اِنَّهُمْ ـ وَاللهِ ـ لَمْ يَنْفِرُوا مِنْ جَوْر، وَلَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْل، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هذَا الاْمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللهُ لَنَا صَعْبَهُ، ويُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ، إِنْ شَاءَ اللهُ، وَالسَّلاَمُ}.

   خامسا: احترام الاقليات، فالديمراطية لا تعني فقط ارادة الاغلبية وانما يجب ان تتضمن حماية الاقليات بكل اشكالها، حتى السياسية منها والفكرية والثقافية والمناطقية وغيرها، والا فان السلطة تفقد شرعيتها.

   لا شرعية لسلطة تحرض على قتل الاقليات، ولا شرعية لسلطة تغض الطرف عن حقوق الاقليات، لانها ستكون لفئة دون اخرى من المجتمع، وهذا خلاف مباني الديمقراطية.

   سادسا: واخيرا الظرف العام الذي يحكم المجتمع الدولي، والتي تعد اية دولة من دول العالم اليوم جزءا لا يتجزأ منه، خاصة في ظل نظام العولمة والقرية الكونية الذي اعطى للسيادة مفهوما مغايرا عما هو متعارف عليه، فالسلطة التي تحاول التمرد على الظرف العام وتسعى للسباحة عكس التيار تفقد شرعيتها، وربما لهذا السبب عد الفقهاء العرف احد المصادر الهامة التي تحدد نوعية الحكم الشرعي في احيان كثيرة.

   هذا هو الحال في الديمقراطيات العريقة، ولذلك نرى ان السلطة تسقط اذا فقدت واحدة او اكثر من هذه التفاصيل، على الرغم من انها تتاتى عن طريق صندوق الاقتراع حصرا، اما في بلداننا ذات الديمقراطية الناشئة، فان الحال يختلف تماما، اذ يظن القادة ان صندوق الاقتراع يمثل كل الشرعية، ولذلك تراهم يتشبثون بالسلطة على الرغم من ان الكثير من تفاصيل الشرعية يفقدونها الواحدة بعد الاخرى، ولذلك اعتقد ان على شعوبنا ان تتعلم اسس الديمقراطية بالتجربة ان لم تقبل ان تتعلمها من تجارب الاخرين، وعليها ان تعترف بالنقص الذي يلف الشرعية من جانب، وان تثابر من اجل تصحيح المسارات الديمقراطية كلما احتاجت العملية السياسية الى ذلك، بعيدا عن لغة التهديد بالدم والتدمير، كما سعمنا ذلك على لسان اكثر من (فقيه سلفي) في مصر مهددا المجتمع بالسيارات المفخخة اذا ما خلع الشعب الرئيس (الشرعي).

   ان الشرعية لاية سلطة ليست كلمة تقال، ابدا، وانما هي استحقاقات تبدا اول ما تبدا من صندوق الاقتراع، لتتراكم بشكل متوالي، لتنتج سلطة سليمة لا يحق وقتها لاحد ان يعزلها او يطعن بشرعيتها، فصندوق الاقتراع، في هذه الحالة، هو الاداة التي يحتكم اليها الشارع لتحديد الاغلبية التي يحق لها ان تحكم والاقلية التي يحق لها ان تعارض، اما ان تتشبث بنتيجة الاقتراع من دون انتاج الاستحقاقات الاخرى التي تترتب عليه، فان ذلك قمة الغباء السياسي الذي سيودي بالشرعية الاولية التي اكتسبها الفائز في الانتخابات.

   هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان شرعية الفوز بالانتخابات عبر صندوق الاقتراع مستمدة من الناخب حصرا وليس من اي مصدر آخر، اي ان الشعب هو مصدر الشرعية والتي تتجلى في نتائج صندوق الاقتراع، ولذلك ترى ان كل من يفوز بالانتخابات ويحصل على الاغلبية التي تؤهله لتسنم السلطة يتحدث عن الشارع حصرا، لانه مصدر شرعيته، واذا كان ذلك صحيحا، وهو صحيح بلا منازع، فلماذا يتخندق الحاكمون الذين يصلون الى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع بالدين تارة وبالمذهب تارة اخرى؟ لماذا يتشبثون بالحق الالهي؟ وبشرعية السماء، على حد قولهم وكانهم وكلاء عن الله تعالى في الارض، او انهم ظله في الارض؟ الا يعني ذلك انهم بمثل هذه التخندقات يحاولون توظيف ما هو خارج اللعبة الديمقراطية بلعبة سياسية قذرة ما يسبب في تشويه الثوابت وتمزيق المجتمع وتفريق صفه؟.

   وللتوضيح اسوق مثالين، الاول، العراق حيث توظف الاحزاب الحاكمة التخندق المذهبي في صراعاتها السياسية، ظنا منها بانه الاأمن الذي يمكن ان يحتمون به في صراعهم مع الاخر للبقاء في السلطة، وللاسف الشديد فان مثل هذا الصراع يجد موقعه في مجتمعنا، فهو اسهل الخنادق وايسرها بالنسبة الى السياسي، والسبب، لان مجتمعنا متعدد المذاهب، ففيه الشيعة والسنة بنسبة عالية جدا تفوق اي تنوع آخر، اما في مصر فان التنوع المذهبي غير طاغ في المجتمع، وانما يطغى عليه اليوم التنوع السياسي الفكري، اي تنوع جدلية (الديني والليبرالي) فالمجتمع المصري اليوم يحكمه تياران الاول هو قوى الاسلام السياسي، والثاني هو قوى الليبرالية، ولذلك عمدت سلطة الاسلام السياسي الى توظيف الدين في صراعها السياسي ضد التيار الاخر، كما انها اطلقت النار على الاقليات مبكرا، فكفرت واتهمت وهددت في محاولة منها لتوظيف الدين، السلفي تحديدا، في صراعها السياسي، ما اصابها بمقتل اودى بحياتها السياسية الى اجل غير مسمى.

   الملفت للنظر ان قطيع (المثقفين) العربان اظهروا ازدواجية منقطعة النظير في تعاملهم مع الاحداث الاخيرة في مصر مقارنة بما يجري في العراق الجديد منذ التاسع من نيسان عام 2003 ولحد الان، ففي العراق يحتكمون للشعب فيما يروق لهم ويجتهدون بما لا يروق لهم، فعلى الرغم من ان السلطة في العراق الجديد تسنمت الحكم عن طريق صندوق الاقتراع تحديدا، الا انهم ظلوا يطعنون بذلك على مدى عقد كامل لحد الان، معتبرين ان الشرعية الحقيقية في ساحات الاعتصام على الرغم من ان عدد المشاركين فيها لا يتجاوز الالاف او في احسن الفروض عشرات الالاف، اما في مصر فصحيح ان الرئيس المخلوق (رقم 2) وصل الى السلطة كذلك عن طريق صندوق الاقتراع، الا انهم لا يعيرون اهمية تذكر لساحات الاعتصام على الرغم من ان عدد المشاركين فيها وصل الى عدة ملايين، ولما اسقط بايديهم اتهموا الاعلام، كل الاعلام، الذي نقل صورا حية عن ملايين المتظاهرين والمعتصمين، بانه ينشر صورا مفبركة (فوتو شوب) الامر الذي يضحك الثكلى التي مات وليدها في حظنها، واتساءل من هذا القطيع، لماذا تعتبرون صندوق الاقتراع مصدر الشرعية الوحيد في مصر، بينما لا تعيرون لصندوق الاقتراع اية اهمية في العراق؟ لماذا تعتبرون ساحات الاعتصام مصدر الشرعية الوحيد في العراق ولا تعيرون اية اهمية لها في مصر؟ انها الطائفية المقيتة والجهل المركب الذي اعمى بصركم وبصيرتكم فتسببت، مرة اخرى، بسقوطكم المدوي.

   بالنسبة لي فان صندوق الاقتراع هو المصدر الوحيد لشرعية اية سلطة شريطة ان تتراكم (الشرعيات) اعلاه لتنتج سلطة كاملة الشرعية، وعندها يمكننا الدفاع عنها حتى الموت، لانها، والحال هذه، ستمثل الارادة الشعبية والوطنية الحقيقية، اما ان تستولي على صوت الناخب وتحصل على الاغلبية ثم تسبح عكس التيار الشعبي، فهذا ما يسقط شرعيتها ان عاجلا ام آجلا، ولعل في تجربة مصر الاخيرة خير دليل على ما اقول.

   ان السلطة بحد ذاتها لا تمنح الحق للحاكم، فلا يجوز اعتبار الحاكم على حق دائما لانه تسنم السلطة بشرعية صندوق الاقتراع، كما ان شرعية الاخير من الناخب فلا يحق للحاكم ان يدعي انه يجسد الارادة الالهية او ان شرعيته من الله تعالى التي تمنحه الحق في ان يفعل ما يشاء، فيكفر من يشاء ويرمي بالنار من لا يحب، ابدا، فمصدر الشرعية هو الشعب والشعب وحده، والذي يتجسد بصندوق الاقتراع حصرا، شريطة ان تتكامل هذه الشرعية مع النقاط الست اعلاه.

   ان اعتراف الرئيس المصري المخلوع (رقم 2) باخطائه دليل واضح على ذلك، على الرغم من انها جاءت بعد نهاية المباراة ولذلك لم تنفعه شيئا، ما يدلل على ان الشرعية لا تاتي من صندوق الاقتراع فحسب وانما تكملها خطوات اخرى، وهي لا تمنحه حق الاقصاء للاخر، ولا تسقط عنه سر النجاح، واقصد به الاعتراف بالفشل في وقته وليس متاخرا، لان ذلك ينطبق عليه قول الله تعالى {ولات حين مندم}.


   7 تموز 2013

 

NHAIDAR@HOTMAIL.COM

Opinions