Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

حتى يغيروا (19) ما قبل الندم

NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
قراءة في حلقات
ان العراق الجديد الذي يحتاج الى ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد التغيير الذاتي اولا.

هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.

وقلنا، بان من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛

اولا: ثقافة الحياة

ثانيا: ثقافة التعايش

ثالثا: ثقافة المعرفة

رابعا: ثقافة الحوار

خامسا: ثقافة الجرأة

سادسا: ثقافة الحب

سابعا: ثقافة النقد

ثامنا: ثقافة الحقوق

تاسعا: ثقافة الشورى

عاشرا: ثقافة الاعتدال

حادي عشر: ثقافة الوفاء

ثاني عشر: ثقافة المؤسسة

ثالث عشر: ثقافة الحاضر

رابع عشر: ثقافة المسؤولية

خامس عشر: ثقافة الشفافية

سادس عشر: ثقافة الانجاز

سابع عشر: ثقافة القانون

ثامن عشر: ثقافة الانفاق

تاسع عشر: ثقافة الدعاء

عشرون: ثقافة الفرصة



اذا اردنا ان نعرف، بتشديد الراء وكسرها، الفرصة ببضع كلمات فمن الممكن القول بانها (زمن خارج المالوف) او انها (زمن خارج الروتين) وان الامم والشعوب لا تنهض الا اذا عرفت كيف تقتنص هذا الزمن تحديدا اما الروتين والزمن المالوف عندها فلا تنهض به، فقد يكون عاملا للاستمرار بعد اقتناص الزمن الاستثنائي، الا انه لا يمكن ابدا ان يكون هو الزمن الاستثنائي.

ان الشعوب التي تمر عليها الفرصة وهي مستيقضة فتقتنصها، لهي الشعوب التي تستحق الحياة، وهي التي تتطور وتنهض من خلال التجديد، اما الشعوب التي تمر عليها الفرصة وهي في غفوة او في نوم عميق ولهو دائم، فانها شعوب لا تستحق الحياة، وهي شعوب ميتة وان عاشت على ظهر هذا الكوكب.

ولذلك فان العقل والمنطق يحرضان دائما على اقتناص الفرص، فرص الخير، لانها هي التي تؤسس لاحداث القفزة الحضارية في حياة الامم، فلقد جاء على لسان امير المؤمنين عليه السلام قوله {انتهزوا فرص الخير، فانها تمر مر السحاب) او في قوله {الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير} ما يحتم على المرء، فردا كان ام جماعة (شعبا) ان يكون مستنفرا ويقضا دائما ليستشعر الفرصة اذا مرت، فلا تفوته لان {الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود} على حد قول امير المؤمنين، كما ان {الفرصة خلسة} على حد قوله عليه السلام، فهي عندما تمر على المرء وكانها تتلصص عليه او ان تدب امامه دبيب النمل، فقد لا تحدث ضجيجا او قرقعة فتمر من دون ان يشعر بها المرء، فكيف اذا كان نائما او في غفلة؟.

ان كل عمليات التغيير الاجتماعي في العالم، ولدى كل شعوب الارض، لا تتحقق الا باغتنام فرص الخير، اما الحياة الروتينية والزمن المالوف الذي تعيشه الامم فهو ليس اكثر من دورة حياتية متكررة لا تغير شيئا من واقعها خاصة اذا كان سيئاز

واذا كانت هذه القاعدة تنطبق على الشعوب، فانها تنطبق كذلك على الافراد، ولذلك يجب؛

اولا: ان يبادر المرء لاغتنام الفرصة فلا يجلس منتظرا، فقد يطول انتظاره بلا نتيجة، اي ان عليه ان يذهب الى الفرصة فليس دائما هي التي تاتي اليه، فعن امير المؤمنين عليه السلام {بادر الفرصة قبل ان تكون غصة} وعن الامام الباقر عليه السلام قوله {بادر بانتهاز البغية عند امكان الفرصة}.

ثانيا: ان لا يتردد في اغتنام الفرصة فاذا مكنته من نفسه فعليه ان يبادر لاغتنامها فورا، والا فقد تذهب بعيدا عنه، فعن امير المؤمنين عليه السلام قوله {ايها الناس، الان الان، من قبل الندم، ومن قبل ان تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وان كنت لمن الساخرين، او تقول: لو ان الله هداني لكنت من المتقين، او تقول حين ترى العذاب لو ان لي كرة فاكون من المحسنين} او في قول الامام الحسن المجتبى عليه السلام {يا ابن آدم، انك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن امك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، فان المؤمن يتزود والكافر يتمتع}.

ثالثا: ان لا يترك الفرصة بانتظار غيرها مثلا او مترددا في اهميتها، فقد تكون آخر الفرص او افضلها، ولذلك لا ينبغي لعاقل ان يترك الفرصة بحجج واعذار واهية، فعن رسول الله (ص) انه قال {من فتح له باب من الخير فلينتهزه، فانه لا يدري متى يغلق عنه} وعن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام انه قال {من انتظر بمعاجلة الفرصة مؤاجلة الاستقصاء سلبته الايام فرصته لان من شان الايام السلب، وسبيل الزمن الفوت} وعنه كذلك {ترك الفرص غصص} وعن امير المؤمنين عليه السلام انه قال {من اخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها} وعنه عليه السلام {اشد الغصص فوت الفرص} وعنه عليه السلام {افضل الراي ما لم يفت الفرص ولم يوجب الغصص} فالمشورة التي تضيع فرصة لا خير فيها ابدا، فتجنبها.

رابعا: ان يدقق في وقت الفرصة، لان زمنها محدود ووقتها غير ممدود، ولذلك يجب ان يكون على حذر عند اتخاذ قرار الاغتنام والاقتناص، فلا يستعجل قبل اوانها ولا يتاخر عن اوانها، فعن امير المؤمنين عليه السلام انه قال {من الخرق المعاجلة قبل الامكان، والاناة بعد الفرصة} او في قوله {الامور مرهونة باوقاتها} وقوله {من ناهز الفرصة امن الغصة} و {الصبر على المضض يؤدي الى اصابة الفرصة}.

خامسا: ان لا ينشغل بندب نفسه اذا ما فاتته الفرصة، فقد تمر الاخرى وهو مشغول بالويل والثبور ومجالس العزاء، ولذلك فان العاقل اذا ما افلتت منه فرصة، يتوقف متفكرا بالاسباب التي ادت الى ذلك ليتعلم الدرس من اجل ان لا تفوته اخرى، اما غير العاقل فانه ينشغل بالحسرة والندامة والثبور اذا ما مرت عليه فرصة وكانها الوحيدة في حياته، فتمر اخرى واخرى وهو في غفلة.

سادسا: ان بعض الناس من يضيع الفرص لانه لا يصبر عليها فيستعجلها فلا تاتي له كما يريد، فيلومها او يلوم حظه، ناسيا او متناسيا بان الفرصة كالنبتة عليه ان يرعاها اشد رعاية لتؤتي ثمارها، فهي تموت اذا لم تر النور وتموت اذا قطع عنها الماء كما انها تموت اذا استعجل حصادها قبل اوانها وتفسد اذا انتظرها اكثر من اوانها، فالصبر على الفرصة احد اعظم مقومات اقتناصها بالشكل الصحيح والسليم، فبالمثابرة يغتنم المرء فرصته التاريخية.

فعندما سأل أحد الصحفيين توماس أديسون عن شعوره حيال (25) ألف محاولة فاشلة قبل النجاح في اختراع بطارية تخزين بسيطة، اجاب بالقول: لست افهم لماذا تسميها محاولات فاشلة؟ فانا الان أعرف (25) ألف طريقة لا يمكنك بها صنع بطارية، فماذا تعرف أنت؟.
ان أديسون الذي يعتبر اليوم بحق من أعظم المخترعين في التاريخ شكاه معلموه عند دخوله المدرسة من بطء استيعابه، فقررت والدته ان تعلمه في المنزل الى حين، ولقد كان مولعا بالعلوم، ففي سن العاشرة اعد مختبر كيمياء في منزله لينتهي به المطاف الى اختراع اكثر من (1300) جهاز واداة علمية كان لها الاثر الواضح في حياة انسان العصر الحديث.

يقول أديسون في ذلك، إن ما حققته هو ثمرة عمل يشكل الذكاء (1%) منه والمثابرة والجد (99%)،
وعن اختراع المصباح الكهربائي الذي حققه بعد ألفي تجربة فاشلة، يقول: انا لم افشل ابدا، فلقد اخترعت المصباح في النهاية، لقد كانت عملية من الفي خطوة، وكان لابد من اجتيازها للوصول الى ذلك.

لقد دمر مختبر أديسون حريق كبير عام 1914 وفي ذلك اليوم هرع تشارلز الابن الأكبر لأديسون باحثاً عن أبيه، فوجده واقفاً يراقب اللهب المتصاعد بهدوء، يقول: شعرت بحزن شديد لاجله، فلقد كان ابي في السابعة والستين من العمر، ولم يكن شابا عندما التهمت النيران كل شئ، ليتمكن، ربما من اعادة مجده من جديد، وحين انتبه الاب لوجود ابنه صاح به قائلا: تشارلز؟ اين امك؟ فاجابه بانه لا يعرف، حينها طلب منه ان يجدها حالا قائلا له: اوجدها بسرعة فلن تشهد منظرا كهذا ما حييت، وفي صباح اليوم التالي تفقد اديسون الركام الذي خلفه الحريق وقال:
هناك فائدة عظيمة لما حصل بالامس، فلقد احترقت كل اخطاءنا، الحمد لله يمكننا البدء من جديد.

بعد ثلاثة اسابيع من الحريق، استطاع اديسون ان يخترع اول فونوغراف (مشغل اسطوانات) وان من جملة ما اخترع واستحدث من الالات والادوات، الناسخة وطور الالة الطابعة وجهاز الهاتف والحاكي والشريط السينمائي، كما جعل صناعة التلفزيون ممكنة باكتشافه صدفة ما يسمى (اثر اديسون) والذي اصبح اساس انبوب الاليكترون، الا ان اهم اعماله على الاطلاق هو اختراعه للمصباح الكهربائي.

انها قصة رجل (عادي) تقول لنا جميعا (اذا اردت النجاح فان النجاح يريدك ايضا) ولكن بشرط ان تغتنم الفرصة وتواضب على ذلك بعيدا عن ضيق الصدر والافق والتذمر والسام، بل لابد من المثابرة وتكرار المحاولة، فلا تيأس اذا فاتتك فرصة ولا تتذمر اذا غفلت عن فرصة.

ان هناك عددا من المعوقات التي تحول بين الانسان ــ الفرد والانسان ــ المجتمع واغتنام الفرصة منها على سبيل المثال لا الحصر:

اولا: عدم الاستعداد للتضحية، فكما هو معروف فان الفرصة تتطلب نوعا من التضحية، باعتبارها تغيير من نوع ما في حياة الانسان، وبما انه ليس كل الناس وليس كل الشعوب مستعدة للتضحية من اجل فرصة تغيير ولذلك فانهم يضيعون الفرص الواحدة تلو الاخرى.

ثانيا: روح القناعة والاكتفاء الذاتي والقبول بالامر الواقع، والاستسلام للحال، معوقات ثقافية ومعنوية تحول دون اقتناص الفرصة.

ان بعض الناس، وكذلك بعض الشعوب، تعتقد بان الله تعالى كتب عليها ان تشقى في هذه الحياة فماذا ستفيدها الفرصة اذن؟ فضلا عن ان البعض يتصور بان الفرص خلقت لغيره وليس له، فما الداعي من البحث عنها بين ركام الحياة؟.

ثالثا: المستفيدون من الواقع القائم والمنتفعون من الامر الواقع يكونون في احيان كثيرة عقبات في طريق اغتنام الفرصة لان التغيير يفقدهم الكثير من الامتيازات وربما يفقدهم مواقعهم وخصوصياتهم.

خذ مثلا على ذلك، السعي للديمقراطية عند الشعوب، فان الانظمة الحاكمة وشخص الحاكم يعرقل مثل هذه الفرصة اذا ما سنحت لشعبه، لانها قد تسقطه عن عرشه وتفقده السلطة اذا ما وقف الناس امام صندوق الاقتراع لاختيار مندوبيهم وممثليهم للبرلمان او لتسنم مواقع السلطة.

رابعا: المحاصصة هي الاخرى احدى اخطر اسباب انفلات الفرص ممن يستحقها لانها لا تعتمد القدرة والكفاءة والجدارة والاهلية، وانما تعتمد الولاءات والانتماءات.

خامسا: كما ان جهل المرء فيما اذا كانت هذه الفرصة حقيقية ام وهمية؟ هو الاخر سبب من اسباب ضياع الفرص على الكثير من الناس، ولذلك انصح بان يسال الانسان اهل الخبرة والمعرفة عن حقيقة المعروض عليه للتاكد من انها فرصة ام لا؟ فقد تكون فرصة حقيقية سيفقدها والى الابد بسبب جهله بحقيقتها، فليس على المرء اذا مر بمثل هذه الحالة ان يستعجل في قراره ابدا، بل ان عليه ان يتريث فيسال ويستشير قبل ان يقبل او يرفض.

علينا ان نسال اذا كنا نشك في فرصة، فنسال عن حقيقتها ونسال عن كيفية اغتنامها، فالطريقة مهمة بقدر اهمية الفرصة ذاتها.

سادسا: هناك من الفرص ما تاتي لي مباشرة، وهناك من الفرص ما تمر من خلالي لغيري، فاذا جاءتني مباشرة فانعم واكرم، اما اذا مرت من خلالي لغيري فعلي ان ابادر الى ايصالها لصاحبها، لمساعدته على اقتناصها.

هناك بعض الناس من يتعامل بانانية مفرطة في مثل هذه الحالات، فتراه يقتنص الفرصة اذا كانت له ويضيعها او يئدها اذا كانت لغيره وقد مرت من خلاله، وقاعدته في مثل هذه الحالات هي (اما ان تكون الفرصة لي او لا تكون لاحد غيري) وهذه قاعدة خاطئة جملة وتفصيلا، فقد لا اكون مستعدا لفرصة او ان ظروفي لا تسمح لي باقتناصها والاستفادة منها، فلماذا امنعها عن غيري القادر على اقتناصها؟.

ان الفرص يجب ان تقتنص من اجل حياة افضل، فاذا لم تكن لي فلغيري فما الضير في ذلك؟ اوليس هذا الغير هو جزء من المجتمع الذي اعيش فيه وانتمي اليه؟ اوليس تطوره وتحسين حياته سيخدم في نهاية المطاف حياتي؟ فلماذا، اذن، اتعامل بانانية من الفرص؟.

ولنتذكر دائما بان اكثر الفرص تمر بطريق غير مباشرة للناس، كان تاتي الفرصة للبنت من خلال امها او للابن من خلال الاب او للطالب من خلال المعلم والمدرس والاستاذ ولليد العاملة من خلال اصحاب الاموال وللرعية من خلال الدولة، فاذا كان كل واحد من هؤلاء يتعامل بانانية مع الفرصة لضاعت جلها من دون ان يستفيد احد منها، وتلك هي الطامة الكبرى والمصيبة العظمى.

ان المجتمع الناجح هو المجتمع الذي يخلق افراده الفرص لانفسهم ولغيرهم، كما انه المجتمع الذي تخلق فيه الدولة الفرص لرعاياها، لان مجتمع بلا فرص لهو مجتمع ميت لا يقوى على النهوض مهما بذل من مجهود، فالروتين، كما قلت سابقا، لا ينتج تطورا ولا يساعد على تنمية ابدا.

ان كل فرصة بمثابة تغيير او محاولة الى ذلك، ولذلك يجب ان لا تضيع فرصة ابدا، فهي فضاء جديد للتغيير والتنمية والتطوير، فكم من فرصة غيرت وجه العالم؟ وكم من فرصة خير قلبت حياة انسان نحو الاحسن؟ فلماذا نكون لؤماء في تغييب الفرص عن الاخرين؟ ولماذا لا ندل غيرنا عليها اذا لم نكن مستعدين لاقتناصها لاي سبب من الاسباب؟.

لقد غير نبي الله يوسف عليه السلام وجه مصر عندما عرف كيف يغتنم الفرصة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، فلو تردد او تباطأ او جامل الملك عندما قال له {انك اليوم لدينا مكين امين} لما استطاع عن يفعل شيئا لا لنفسه ولا لشعب مصر، ولكنه كان مصمما على اغتنام الفرصة في اول محاولة فلم يتردد بالطلب من الملك ان يجعله {على خزائن الارض اني حفيظ عليم} ما مكنه بتوفيق الله تعالى ان يغير وجه مصر ويغير حياة اهل بيته.

لذلك، انصح بان لا يتردد المرء عندما يقف امام فرصة، او يستحي او يطلب الادنى او يجامل، بل يجب ان يبادر لطلب اعلى ما يقدر عليه وهو الابصر بوضعه وقدراته وامكانياته، او ان يدل غيره عليها، المهم ان لا تفلت الفرصة.

لقد خلق الله تعالى الكثير من الفرص الموسمية، اذا صح التعبير، لعباده، ليغتنموها من اجل اعادة النظر في حياتهم الروتينية اليومية ولاصلاح ما يمكن اصلاحه من المشاكل والاخطاء والعثرات التي يتورط بها المرء على طول ايام السنة بسبب ضغط الحياة وزحمة المشاكل، وان من ابرز مثل هذه الفرص الزمنية على سبيل المثال لا الحصر، هو موسم شهر رمضان المبارك الذي سيحل علينا بعد ايام معدودة، فهو فرصة نحو الاصلاح والتغيير وتحسين العمل والاداء، فكم ستكون هذه الفرصة عظيمة اذا استغلها العراقيون:

اولا: لاصلاح الذات التي شابها الكثير من الانحرافات والمشاكل الاخلاقية التي حولت بعض الناس في العراق الى وحوش كاسرة تقتل وتدمر وتفجر مقابل حفنة من الدولارات الملوثة بدماء الابرياء، هذا اذا ظل مثل هذا المواطن على قيد الحياة بعد عمليته الاجرامية، اما اذا انتحر فيها فان ذلك مقابل وعود كاذبة بحضوره حفل عشاء مع رسول الله (ص) وكانه (ص) بعثه الله تعالى ليقتل الناس، وليس انه رحمة للعالمين.

ثانيا: لاصلاح العلاقات الاجتماعية، بدءا من العلاقات العائلية في الاسرة الواحدة مرورا بالعلاقات مع الاقارب ومع الجيران، وليس انتهاءا بالعلاقات مع زملاء المدرسة وزملاء العمل وغير ذلك.

ليقرر كل واحد منا ان ينجز ما يلي في هذا الشهر الفضيل، والذي هو اعظم فرصة روحية لاصلاح الخلل في حياتنا؛

اولا: ان يقرر الاقلاع عن واحدة من العادات السيئة على الاقل التي تطبع عليها كالكذب مثلا او الغش والخداع والنفاق والعصبية وضيق الصدر وعدم الصبر على الامور والزعل والقطيعة.

ثانيا: ان يقرر تعلم ولو صفة حسنة واحدة على الاقل، كالانفاق في سبيل الله والكرم والجود والعدل والاحسان وصدق الحديث وحسن المعاشرة والامانة والوفاء بالعهود واصلاح ذات البين وغير ذلك.

ثالثا: ان يندمج اكثر فاكثر مع القران الكريم وسيرة رسول الله (ص) وائمة الهدى من اهل بيته عليهم السلام، فيقرر مثلا ان يقرا آية على الاقل في اليوم تدبرا وفهما ووعيا، وليس لقلقة لسان لختم القران الكريم فقط، وهي العادة التي تعودنا عليها في شهر رمضان الكريم من كل عام، فان قراءة القران في هذا الشهر الفضيل حسنة كبيرة ولكن ما هو افضل واحسن من ذلك هو السعي لوعي آيات القران الكريم من اجل السعي للعمل بها وتطبيقها على ارض الواقع وفي حياتنا اليومية، ولقد اوصى امير المؤمنين عليه السلام بذلك في وصيته للحسنين عليهما السلام بقوله {الله الله في القران، لا يسبقكم بالعمل به غيركم} فهو لم يوص بالاسراع في قراءة القران او ترتيله وتجويده، وانما اوصى بالاسراع بالعمل به.

رابعا: ان يقرر اصلاح ذات البين سواء فيما بينه وبين غيره من اهله واقاربه وجيرانه واصدقائه، او فيما بين الناس، فلقد اوصى الامام امير المؤمنين عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله بقوله {اوصيكما وجميع ولدي واهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونظم امركم، وصلاح ذات بينكم، فاني سمعت جدكما (ص) يقول: صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام}.

خامسا: ان يقرر تبني يتيما في هذا الشهر الفضيل، يطعمه ويكسوه ويتفقده ويتابع حوائجه ويحن عليه، ففي وصيته الانفة الذكر قال امير المؤمنين عليه السلام{الله الله في الايتام، فلا تغبوا افواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم}.

سادسا: ان تقرر كل عائلة ميسورة تبني عائلة فقيرة في هذا الشهر الفضيل، فتطعمها وتسقيها مما تاكل وتشرب عند الافطار وفي السحر، ثم تهديها كسوة العيد عند حلول عيد الفطر المبارك.

سابعا: ان يسعى لتحسين وتطوير علاقاته مع جيرانه، فالجيران هم اللبنة الثانية في المجتمع بعد الاسرة، فاذا صلحت علاقات الجيران صلحت بها علاقات الابعدين، ما يساهم في صياغة مجتمع سليم، ولقد قال عنهم امير المؤمنين عليه السلام في وصيته الانفة الذكر بقوله {الله الله في جيرانكم، فانهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم، حتى ظننا انه سيورثهم}.

ان مثل هذه الخطوات الفردية والاجتماعية اذا ما تحققت في شهر الله الفضيل فانها؛

الف: ستغير من حياتنا اليومية نحو الافضل والاحسن بكل تاكيد.

باء: ستسهم في تغيير قناعاتنا وثقافاتنا وفهمنا ووعينا نحو الافضل.

الف: ستشعرنا بفلسفة الصوم، فيعيش الميسور حياة المعسور، ما يحثه على التواصل مع الفقراء والمساكين طوال ايام السنة.

جيم؛ ستقلل من ضغط الحياة على العوائل الفقيرة التي ستشعر بان الدنيا لا زالت بخير وانها لم تعدم الخيرين الذين يتحسسون الالام والمعاناة التي يعيشها الفقراء.

دال؛ كما انها ستثير في المجتمع العراقي مبدا التكافل الاجتماعي الذي هو عماد تقدم اي مجتمع في هذا العالم، خاصة المجتمعات الاسلامية التي تقوم على اساس مبدا الايثار وليس الاستئثار.

ان بناء المجتمع الصالح عملية لا تتحقق الا بالعلاقات الاجتماعية الحسنة، والتي لا يمكن تحقيقها الا بالتكافل الاجتماعي، والاخير ليس من مسؤولية الدولة فحسب، كما يتصور البعض، وانما هي مسؤولية كل فرد في المجتمع، ولذلك علينا ان نحول شهر رمضان الكريم لهذا العام الى فرصة عامرة بالروح الوثابة والنفوس الطاهرة لتعميم مسؤولية التكافل الاجتماعي على كل فرد من افراد المجتمع العراقي لنساهم في بناء علاقات اجتماعية سليمة تفضي الى بناء مجتمع سليم.

تعالوا، بهذه المناسبة، نقرا معا خطبة رسول الله (ص) التي استقبل فيها مع المسلمين شهر الله الفضيل، رمضان المبارك، فسنجد فيها كل المعاني التي تصب في المسعى الذي يجب ان يبذله الانسان من اجل بناء المجتمع السليم، فقد يوفقنا الله تعالى للعمل بمضامينها، ما ينقذنا من شرور انفسنا، وشرور اعدائنا.

يقول (ص):

{أيها الناس، انه قد أقبل اليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه افضل الايام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه الى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل الكرامة، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فأسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة ان يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا ارحامكم واحفظوا السنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر اليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع اليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس حتى يتحنن على أيتامكم، وتوبوا الى الله من ذنوبكم وارفعوا اليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم فانها أفضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة الى عباده، يجيبهم اذا ناجوه ويلبيهم اذا نادوه ويعطيهم اذا سألوه، ويستجيب لهم اذا دعوه.

أيها الناس، ان انفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا ان الله تعالى ذكره اقسم بعزته ان لا يعذب المصلين والساجدين وان لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين.

أيها الناس من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه، فقيل يا رسول الله وليس كلنا قادر على ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: اتقوا الله ولو بشق تمرة، اتقوا الله ولو بشربة ماء.

أيها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الاقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه، ومن كف فيه شره كف عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً اكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة على ثقل الله ثقّل الله ميزانه يوم يخفف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.

أيها الناس ان ابواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فاسألوا ربكم ان لا يغلقها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم ان لا يسلطها عليكم.

فقال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، فقمت وقلت: يا رسوال الله ما أفضل الاعمال في هذا الشهر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا الحسن، ان أفضل الاعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله، ثم بكى. فقلت يا رسول الله ما يبكيك؟. فقال: يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر.}

ان العراقيين اليوم في فرصة تاريخية نادرة لبناء نظامهم السياسي الجديد، نظام يقوم على اسس الديمقراطية وادواتها، مقوماتها التداول السلمي للسلطة والحرية والمساواة بعيدا عن كل انواع التمييز الديني والطائفي والاثني والحزبي والمناطقي وغير ذلك، نظام يعتمد التعددية والتنوع والتعايش والشراكة الحقيقية بين كل مكونات المجتمع العراقي بعيدا عن سياسات الاقصاء والتهميش.

فمنذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 يسعى العراقيون لتغيير حياتهم مقتنصين الفرصة التي منحتها لهم الظروف الدولية التي ساهمت في اسقاط النظام الشمولي البائد.

ومن اجل تحقيق توظيف كامل لهذه الفرصة، يجب اولا ان تكون الفرصة متاحة بالتساوي لكل العراقيين، ليتمكن كل من له القدرة والقابلية على توظيف الفرصة من تحقيق غاياته النبيلة التي تصب بالنهاية في خدمة البلاد حاضرا ومستقبلا، وان علينا ان نتذكر دائما بان سياسة المحاصصة التي تتبعها القوى السياسية التي ورثت السلطة في بغداد بعد سقوط الصنم لا تساهم في تحقيق ذلك ابدا، فالمحاصصة التي تعني التمييز بشكل من الاشكال تهب فرصة لمواطن وتمنع اخرى عن آخرين، ليس على اساس الكفاءة والقابلية والاحقية والاستحقاق العلمي مثلا او العقلي او الخبرة والتجربة ابدا، وانما على اساس قرب المواطن او بعده عن هذا الزعيم او ذاك القائد، بمعنى آخر فانها تعتمد الولاء للاشخاص وللاحزاب ولا تعتمد الكفاءة، فهي تشبه كل الشبه ما كان يعاني منه المواطن العراقي ايام النظام البائد، فالبعثات العلمية مثلا كانت تذهب الى الطلاب الفاشلين ويخسرها الطلاب المتفوقون لان الاسس التي كانت تعتمدها اللجان المختصة تقوم على اساس الولاء للزعيم الاوحد والحزب القائد والى مؤسسة الاتحاد الوطني سيئة الصيت، ولم تكن لتعتمد على التفوق العلمي والدرجات العالية التي يحصل عليها الطالب في الامتحان، وهكذا هو الحال بالنسبة الى كل المجالات الاخرى، العلمية والمهنية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها.

ان من اولى علامات عدالة الدولة اية دولة، هو احترامها لمبدا تكافؤ الفرص امام جميع المواطنين وبالتساوي، فلا ابن المسؤول يتميز عن الاخرين، ولا اولاد الزعماء يتميزون عن اقرانهم باية فرصة من الفرص، اذ يجب ان يكون الملاك هو التنافس بادوات المهنة والموقع فحسب، فاذا كان التنافس على جائزة معينة فيجب ان يكون ذلك على اساس ما انتجه المتنافسون وليس على اساس اسم العائلة او اسم الاب او زيه او منصبه وموقعه وغير ذلك من الملاكات غير الحقيقية.

لذلك تسمى الولايات المتحدة الاميركية ببلد الفرص لان الفرصة هنا متاحة للجميع وبلا تمييز، ليس فقط للمواطنين وانما حتى للاجئين الذين يفدون للتو الى هذه البلاد بشكل رسمي، فكم من مواطن عراقي حصل على فرصته في الولايات المتحدة بمجرد ان وصل اليها لاجئا مثلا؟ حتى قبل ان يتجنس؟ ولذلك مثلا دخل البيت الابيض رجل اسود من اصول افريقية، وان من بين الوزراء الاميركيين ثلاثة من اصول لبنانية وان الجامعات الاميركية تستقبل الطلاب ليس على اساس اديانهم واثنياتهم واصولهم وانما على اساس تفوقهم الدراسي ودرجاتهم العلمية التي يحصلون عليها بكد ايديهم وبعرق جبينهم، فالتنافس هنا مهني، تخصصي، وليس ولائيا او دينيا او اثنيا او حزبيا او مناطقيا.

تاسيسا على ذلك، فانا ادعو الدولة العراقية الجديدة وبكل مؤسساتها الى وضع حد لسياسات المحاصصة التي تسللت الى كل مفاصلها، فاستحكمت وتمكنت، ما اضاع الفرص على الكثير من المواطنين المتميزين الذين لم يحصلوا على فرصتهم بسبب عدم انتمائهم الى حزب سياسي او عدم ولائهم الى المسؤول او لان آبائهم وعوائلهم لا يحكمون في بغداد.

لقد امتلأت سفارات العراق وقنصلياته في الخارج وجل مؤسسات الدولة في العاصمة بغداد وبقية المحافظات العراقية بشبكة من ابناء واقارب المسؤولين، وياليتهم يمتلكون الكفاءة لقلنا بانهم تسنموا مواقعهم بجدارة، انما فيهم الكثير من الاميين وممن زوروا شهاداتهم العلمية المطلوبة لهذا الموقع او ذاك، فكيف يمكننا ان نبني نظاما سياسيا صالحا في العراق الجديد اذا كان مبدا تكافؤ الفرص غائبا بشكل مخيف؟.

ان النظام السياسي العادل هو الذي يخلق الفرص ويوزعها بالتساوي على رعاياه، كل واستحقاقه، اما النظام السياسي الديكتاتوري والشمولي او النظام الذي يعتمد المحاصصة فلا يخلق الفرص ابدا وانما يخنقها ويئدها، واذا صادف يوما ان خلق فرصة فلازلامه وليس لرعاياه المستحقين لها، ولذلك مثلا راينا كيف ان رسول الله (ص) منح شرف لجوء المسلمين الى ملك الحبشة النجاشي، ليس لانه يصلي صلاة الليل او لانه يزكي او يحج الى بيت الله الحرام، ابدا، وانما لانه كان يحكم في نظام سياسي عادل يمنح فرصة العيش الحر الكريم لرعاياه ولمن يلجأ اليه، ولذلك لجأ اليه المسلمون وهم الذين كانوا يبحثون عن ملاذ آمن يعيشون فيه بعيدا عن اعين قريش وسطوتها وزبانيتها وعيونها وملاحقتها وتعذيبها وقتلها لهم، لمواصلة مشوار حمل الرسالة وتبليغها الى العالم.

كما اننا نرى اليوم كيف امتلأت بلاد الغرب بملايين المسلمين الهاربين من بطش انظمتهم الشمولية التي تحكم بلاد المسلمين بالحديد والنار، بعد ان لمسوا فيها عدلا في توزيع الفرص على رعاياها وعلى من يلجا اليها، لا فرق، في حياة حرة كريمة، على الرغم من ان الانظمة التي تحكم فيها على غير ديننا.

21 تموز 2010
Opinions