Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

حتى يغيروا(21) وعاء المعرفة

NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
قراءة في حلقات
ان العراق الجديد الذي يحتاج الى ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد التغيير الذاتي اولا.
هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.
وقلنا، بان من الثقافات التي يحتاجها العراق الجديد، هي؛
اولا: ثقافة الحياة
ثانيا: ثقافة التعايش
ثالثا: ثقافة المعرفة
رابعا: ثقافة الحوار
خامسا: ثقافة الجرأة
سادسا: ثقافة الحب
سابعا: ثقافة النقد
ثامنا: ثقافة الحقوق
تاسعا: ثقافة الشورى
عاشرا: ثقافة الاعتدال
حادي عشر: ثقافة الوفاء
ثاني عشر: ثقافة المؤسسة
ثالث عشر: ثقافة الحاضر
رابع عشر: ثقافة المسؤولية
خامس عشر: ثقافة الشفافية
سادس عشر: ثقافة الانجاز
سابع عشر: ثقافة القانون
ثامن عشر: ثقافة الانفاق
تاسع عشر: ثقافة الدعاء
عشرون: ثقافة الفرصة
واحد وعشرون: ثقافة العدل


اثنان وعشرون: ثقافة المعرفة

لا يمكن لنا ان نتصور تغييرا حقيقيا من دون البدء بحملة معرفية شاملة تمس القواعد والوسائل والمناهج، فكل شعوب العالم، قديمها وحديثها، التي سعت الى التغيير بدات من المعرفة، من خلال اصلاح مناهج التعليم والمعرفة وتغيير الادوات والوسائل بما يضمن لها تحقيق ثورة معرفية حقيقية.
ولن يشذ العراق الجديد عن هذه القاعدة، وان ما يؤسف له حقا هو اننا في العراق لم نفكر بذلك لحد الان على الرغم من مرور ثمانية اعوام على التغيير، اذ لا زالت المعرفة ومناهجها وطرقها واسسها وادواتها هي هي ذاتها لم تتغير، ولذلك فلا يمكن ان نرى افقا جديدا للمجتمع اذا بقي الامر على حاله.
وانا هنا ساحاول ان اتلمس الطريق الى صياغة ثورة معرفية جديدة تساهم في تغيير المجتمع نحو الافضل، بما يساعد على تحقيق التغيير الجذري المطلوب.
في البدء يلزمنا ان ننتبه الى امرين في غاية الاهمية:
الاول: هو ان المعرفة لا تعني القراءة والمطالعة، على اهميتهما، وانما تعني الوصول الى غور العلم، اي سره وباطنه، وتاول الحكمة، اي الوصول الى دقائقها، من اجل انتاج الافكار، والا فان الذين يقرؤون كثيرون جدا، الا ان اصحاب المعرفة الحقيقية، اولئك الذين يفكرون عندما يقرؤون، قليلون جدا، وربما نادرون، ولذلك قسم امير المؤمنين عليه السلام العلم والمعرفة الى قسمين بقوله {العلم علمان، مطبوع ومسموع، ولا ينفع المسموع اذا لم يكن المطبوع} فبالقراءة والمطالعة يكسب المرء العلم المسموع، اما العلم المطبوع فلا يكسبه المرء الا بالتفكر والتفكير، او في قوله عليه السلام {اعقلوا الخبر اذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فان رواة العلم كثير، ورعاته قليل}.
لقد وصف امير المؤمنين عليه السلام هذه الحقيقة بقوله عندما سئل عن الايمان {واليقين منها على اربع شعب؛ على تبصرة الفطنة، وتاول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الاولين، فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكانما كان في الاولين، والعدل منها على اربع شعب؛ على غائص الفهم، وغور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط في امره وعاش في الناس حميدا}.
الثاني: هو ان التفكر الذي يستتبع القراءة لا يمكن تحقيقه الا بثلاثة شروط؛
الف: القراءة بعقلية منفتحة، غير منغلقة، وبقلب منفتح غير متعصب، وبصدر واسع للاطلاع على كل الاراء والافكار في كل قضية من القضايا مورد القراءة.
يجب ان تكون القاعدة في قبول او رفض الفكرة ليس في النظر الى قائلها، ابدا، وانما يجب ان يكون القبول من منطلق القناعة، والرفض من منطلق اللاقناعة، وكل ذلك لا يتاتى الا بدراسة الفكرة وتاملها بحرية العقل والتفكر، اما الذين يتوقفون عن التفكر والتفكير، ليدعوا احدهم فقط يفكر وينتج الفكر فهم عبيد الفكر واسرى تفكر غيرهم، وهذا امر مرفوض لانه لا يساهم في انتاج الفكر الجمعي، وانما في صناعة العبودية بشكل آخر.
يجب ان يكون ما يهمنا هو الفكر وليس الشخص، لنقتفي اثر الفكر ولا نعبد الشخصية، مهما كانت، لان عبادة الشخصية تنتهي بنا الى العبودية الفكرية والثقافية وهذا مرفوض جملة وتفصيلا، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام {اعرف الحق تعرف اهله}.
باء: القراءة بلا احكام مسبقة، ليتسنى للقارئ ان يستقبل وجوه الاراء بعقلية منفتحة، وعدم وضع خطوط حمراء على هذا المؤلف مثلا او ذاك الكاتب، او تلك الفكرة، مع الملاحظة الطويلة والموازنة الدقيقة.
بهذين الشرطين ينجح الانسان في تحقيق المعنى العميق الذي قصده امير المؤمنين عليه السلام بقوله {فانك اول ما خلقت جاهلا ثم علمت، وما اكثر ما تجهل من الامر، ويتحير فيه رايك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك} والذي يعلق عليه الاديب اللبناني الكبير الاستاذ جورج جرداق في سفره القيم والخالد (الامام علي صوت العدالة الانسانية) (خمسة اجزاء) بقوله:
في هذا القول اعتراف بان الحياة متطورة، وان التعلم انما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور ابنائها، وفيه ايمان بالقابلية الانسانية العظيمة الى التقدم، او قل الى الخير، وما دعوته، الامام علي عليه السلام، الحارة الى المعرفة التي تكشف كل يوم عن جديد، وتبني كل يوم جديدا، الا دليل على الايمان بثورية الحياة الخيرة وامكانات الاحياء، فالمعرفة لديه، يقصد امير المؤمنين، كشف وفتح لا يهدآن.
ولتحقيق ذلك، فان من الاهمية القصوى بمكان هو ان يقرا المرء بين الفينة والاخرى لمن لا يحبه او قل يبغضه من الكتاب والمؤلفين، ليجبر نفسه على التفكر عند القراءة، وليتعلم التبصر عند المطالعة، فالاستمرار على القراءة لمن يحبهم فقط ولمن ينسجمون معه في الراي والفكر، لا يحثه على التفكر عادة، كما ان ذلك لا يثير عنده فضول التدبر والتوقف عند الاراء وهو يقرا ويطالع، ما يعني عدم الاستزادة المعرفية.
ان القراءة على وتيرة واحدة تصيب المرء بالروتين في تلقي المعرفة، وهو امر لا يساعده على التطور والنمو الفكري والعقلي ابدا، فـ {من استقبل وجوه الاراء عرف مواقع الخطا} على حد قول الامام علي (ع).
يجب ان ننتبه الى حقيقة هامة وهي، ان الفكر حاله حال الكائن الحي، يتطور مع تطور الزمن، هذا اذا كان هذا الفكر ينطلق من الانسان واليه، اما اذا كان فكرا جامدا وصلبا يستعصي على التطور، فتاكد بانه فكر غير انساني، بمعنى انه لا ينطلق من مصلحة الانسان ولا ينتهي اليها، وهو فكر مرفوض.
يجب ان يظل الفكر متحركا غير جامد، ليقبل التطور، من اجل ان يواكب العصر والحاجة البشرية.
وان من وسائل ذلك هو النقد البناء، ليس للاشخاص، وانما للفكر، فبالنقد يظل الفكر متحركا، وبه لا يتجمد، وبه يتطور جيلا بعد جيل ليواكب العصر والجيل الجديد.
ان تخويف الناس من نقد الفكر ينتهي بالمجتمع الى العبودية، الفكرية اولا ثم العقلية وتاليا الجسدية، وهذا يتنافى ويتناقض مع طبيعة واسباب ووسائل التطور، التي ان لم ياخذ بها المجتمع، اي مجتمع، فستكون عاقبته الانفجار كما يحصل اليوم في البلاد العربية.
جيم: ان يكون طلب المعرفة من اجل التفقه والتعقل، اي ان تكون المعرفة من اجل صياغة الانسان المهذب القادر على التعايش في مجتمعه مع الاخرين والقادر على ان ينفع الناس حسب قدرته وطاقته.
لقد قسم امير المؤمنين عليه السلام طلبة المعرفة الى ثلاثة اقسام، بقوله {طلبة العلم على ثلاثة اصناف، الا فاعرفوهم بصفاتهم، صنف منهم يتعلمون العلم للمراء والجدل، وصنف للاستطالة والختل، وصنف للفقه والعقل، فصاحب المراء والجهل تراه مؤذيا مماريا للرجال في اندية المقال، قد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع، فدق الله من هذا حيزومه وقطع منه خيشومه، وصاحب الاستطالة والختل، فانه يستطيل به على امثاله من اشكاله، ويتواضع للاغنياء من دونهم، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فاعمى الله من هذا بصره، وقطع من آثار العلماء اثره، واما صاحب الفقه والعقل، فانك تراه ذا كآبة وحزن، قد قام الليل في حندسه، وانحنى في برنسه، يعمل ويخشى، خائفا وجلا من كل احد، الا من كل ثقة من اخوانه، فشد الله من هذا اركانه، واعطاه يوم القيامة امانه}.
فاما القسمان الاول والثاني فلا خير فيهما، كما هو واضح ومعلوم، وهما لا يغيران من الواقع شيئا لانهما لا يغيران انفسهما فكيف يغيران الواقع؟ واما الصنف الثالث فهو المطلوب، لانه يتغير اولا ثم يغير.
وللمعرفة شروط:
اولها: ان يكون المرء على استعداد لان يتعلم، فلا يكابر اذا كان جاهلا، ولا يخجل من السؤال، يقول امير المؤمنين عليه السلام في ذلك {قطع العلم عذر المتعللين}.
لقد خلق الله تعالى الناس متفاوتون في العلم، فهم على درجات منه، الا ان المهم في الامر هو انه تعالى لم يفرض التعلم على الجاهل الا بعد ان فرض التعليم على العالم، يقول امير المؤمنين عليه السلام {ما اخذ الله على اهل الجهل ان يتعلموا حتى اخذ على اهل العلم ان يعلموا} ولذلك ينبغي ان يبدي الطرفان (الجاهل والمتعلم) الاستعداد اللازم من اجل نقل العلم من صاحبه الى طالبه، والا فاننا امام ازمة تعليم وتعلم حقيقية.
لقد قال امير المؤمنين عليه السلام الى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري {يا جابر، قوام الدين والدنيا باربعة، عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف ان يتعلم، .....، فاذا ضيع العالم علمه، استنكف الجاهل ان يتعلم}.
ثانيا: ان لا يتردد المرء في ان يقول لا اعلم اذا كان جاهلا في امر سئل عنه، فالاعتراف بالجهل افضل من الاعتداد بالنفس والادعاء بالمعرفة التي تورط صاحبها وترديه في مهالك هو في غنى عنها، وفي ذلك يقول امير المؤمنين عليه السلام {من ترك قول لا ادري اصيبت مقالته}.
يقول امير المؤمنين عليه السلام {لا خير في الصمت عن الحكم، كما انه لا خير في القول بالجهل} فيما اوصى ولده الحسن المجتبى السبط عليه السلام بقوله {ولا تقل ما لا تعلم وان قل ما تعلم} فليس المهم ان يتحدث المرء، وانما المهم بماذا يتحدث، والذي يلزم ان يكون في اطار ما يعلمه وليس فيما لا يعلمه.
ان اغلب حواراتنا لا تصل الى نتيجة ايجابية ملموسة، بل ان الكثير منها ينتهي الى الخصام والعراك والقطيعة، لان الطرفين، ربما، يتحدثون فيما يجهلون، ويناقشون فيما لا يعلمون، ويجادلون فيما لا يفقهون، ويتحاورون بتعصب لغير الحق وبلجاجة مفرطة، والتي {تسل الراي} على حد وصف امير المؤمنين عليه السلام، ثم ننتظر منهما ان يصلا الى نتيجة او حتى الى قناعة مشتركة، هيهات هيهات، فالحوار الذي لا يعتمد على العلم والمعرفة والتبصر بالامر الذي يجري فيه الحوار والنقاش، لا ينتهي الى شئ ابدا، مهما طال زمن الحوار وتشعبت اركان النقاش.
ان الكثير من المتحاورين يختلفون حتى في المفاهيم فكيف يصلون الى نتائج مرضية؟ ولذلك تراهم يتحاورون ساعات طويلة ثم ينتهون الى نفس النقطة التي بداوا بها الحوار، وكانهم كانوا يلفون ويدورون في حلقة مفرغة.
اكثر من هذا، فان الكثير ممن يتصدى هذه الايام الى كرسي الافتاء تراه جاهل باصول الفتوى التي تعتمد المصالح والمفاسد بالدرجة الاولى، لدرجة ان الكثير منهم، خاصة فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين، تحولت فتاواهم الى (فتاوى تحت الطلب) يفتون بما يحبه السلطان الظالم ولا يفتون بما يحبه الله ورسوله، ويفتون لصالح ظلم الحاكم الجائر ولا يفتون من اجل الصالح العام ولحماية حقوق المظلومين والمقهورين.
ولقد نبه امير المؤمنين عليه السلام الى مثل هذا الحال بقوله:
ياتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن الا رسمه، ومن الاسلام الا اسمه، ومساجدهم يومئذ عامرة من البناء، خراب من الهدى، سكانها وعمارها شر اهل الارض، منهم تخرج الفتنة، واليهم تأوي الخطيئة، يردون من شد عنها فيها، ويسوقون من تاخر عنها اليها، يقول الله سبحانه: فبي حلفت لابعثن على اولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران، وقد فعل، ونحن نستقل الله عثرة الغفلة.
انها قراءة مستقبلية تنطبق على حال المساجد والمدارس الدينية في الكثير من بلاد المسلمين، خاصة المملكة العربية السعودية، التي تحولت فيها المساجد والمدارس الدينية الى مفاقس وحواضن للارهاب.
ثالثا: اذا اغتر المرء بعلمه فانه الى نقصان لا محالة، فان {عجب المرء بنفسه، احد حساد عقله} على حد قول امير المؤمنين عليه السلام، او كما قال عليه السلام {الاعجاب يمنع الازدياد} ولذلك يجب ان لا يعتد الانسان بما يعلم كثيرا من اجل طلب المزيد من العلم، او لم يقل امير المؤمنين عليه السلام {منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا}؟ فاذا تصور المرء بانه قد حصل على العلم اللازم فسيكتفي بطلب المزيد، ولان العالم في تطور والعلم في تقدم مستمر، ولذلك فهو، بهذه الحالة، سيتوقف عنده زمن العلم فيبدا بالتراجع والتناقص، فضلا عن ان مثل هذا الشعور المريض سيحول بينه وبين التعلم، لانه سيتسلح بالمراء.
ان من مشاكل اهل العلم هي انهم يانسون بمدح الاخرين لهم على ما يمتلكون من العلم والمعرفة، وفي ذلك امتحان كبير وبلاء عظيم، والى ذلك يقول امير المؤمنين عليه السلام {رب مفتون بحسن القول فيه} فلا يستغربن امرئ ان يحظر الله عليه العلم بسبب ذلك والذي ينتج التكبر في نفسه، فقد قال امير المؤمنين عليه السلام {اذا ارذل الله عبدا حظر عليه العلم}.
على من يريد ان يستزيد من المعرفة ان يتهم نفسه دائما وان يستصغر ما يمتلك من العلم والمعرفة، كما ان عليه ان يتهم حاله بالتقصير في طلب العلم، ليستزيد في كل يوم علما وفي كل يوم معرفة، والا فهو الى نقصان بلا شك، فالعلم بئر بلا قرار وبحر بلا ضفاف، لا ينبغي للمرء ان يتصور ولو للحظة بانه كسب كل العلم وتعلم كل المعرفة، والى ذلك يشير امير المؤمنين عليه السلام بقوله {كل وعاء يضيق بما جعل فيه الا وعاء العلم، فانه يتسع به}.
رابعا: ان لا تستعدي امرا تجهل معانيه، وان لا تستعدي علما لا تفهم فيه، ولا تستعدي معرفة لم تكسبها بعد، وان كان كل ذلك من طبائع البشر، على حد قول امير المؤمنين عليه السلام {الناس اعداء ما جهلوا} الا ان المرء الذي ينشد طلب العلم والمعرفة عليه ان ينآى بنفسه عن مثل هذه المزالق، لان استعداءك لعلم ينفرك منه فلا تستعد نفسك لطلبه باي شكل من الاشكال، وبالتالي ستبني بينك وبين هذا العلم سدا منيعا وحاجزا كبيرا يحول بينك وبينه ما حييت.
خامسا: ان نتعلم فن السؤال لنتعلم فن كسب المعرفة، لان السؤال الصحيح يقود الى المعرفة الصحيحة، والعكس هو الصحيح، فالسؤال الخطا ينتهي الى العلم الخطا، وهذه هي مشكلة الكثير من الناس، فهم لا يعرفون كيف يسالون ثم ينتظرون ان يكسبوا العلم الصحيح، وهذا محال.
على الانسان الذي يصبو الى المعرفة الصحيحة ان يتعلم كيف يسال، لان {حسن السؤال نصف العلم} على حد قول الامام الحسن بن علي السبط عليهما السلام، كما ان من خصوصيات سؤال المجد في تعلم المعرفة هو انه يسال من اجل ان يتعلم ولا يسال من اجل الجدال العقيم مثلا او لاحراج الاخر او ما الى ذلك، فعندما سال احدهم امير المؤمنين عليه السلام عن معضلة، قال له الامام {سل تفقها ولا تسال تعنتا، فان الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، وان العالم المتعسف شبيه بالجاهل المتعنت}.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فانه يقع على عاتق صاحب العلم الذي يريد ان يعلم غيره ان يفهم السؤال جيدا قبل ان يدلي باجاباته، لينجح في ايصال المعرفة المطلوبة لصاحب السؤال، فكم من سائل لا يحصل على المعرفة الصحيحة لان صاحبها لم يفهم السؤال او يتسرع في الاجابة فيدلي بمعرفة لا علاقة لها بالسؤال فتضيع المعرفة الصحيحة على السائل.
لقد تعلمنا في المدرسة ان نفهم السؤال جيدا قبل ان نهم بالاجابة، ولطالما ادلينا باجابة صحيحة ولكن على سؤال آخر هو غير السؤال الوارد في ورقة الامتحان، ثم ننتظر ان نحصل على الدرجة كاملة.
هذا الامر يستتبع ان نتعلم فنا آخر في غاية الاهمية، الا وهو فن التحدث والتعبير عن الراي او التعبير عن الذات.
ان مشكلة الكثير منا هو انه يحمل علما غزيرا ولكنه لا يعرف كيف يتحدث به فهو جاهل في فن التحدث، لا يعرف كيف يعبر عن نفسه او عن المعرفة التي يحملها في ذهنه، ولذلك اسباب كثيرة، منها ان اغلبنا يهتم بكسب المعرفة الا انه لا يتعلم فن التعبير، ورحم الله الامام المرجع السيد محمد الحسيني الشيرازي الذي ما زاره امرئ الا واوصاه بان يتعلم فن اللسان (الخطابة) وفن البيان (الكتابة) الى جانب طلب العلم والمعرفة، لانه كان يعتبر ان سر فشل الكثير من اهل العلم والمعرفة هو فشلهم في ايصال ما يملكون الى الناس والى من يحتاج علمهم، بسبب عدم معرفتهم بفنون اللسان والبيان.
وها هم الكثير من السياسيين في العراق الجديد، ومنهم وزراء ونواب في البرلمان، فشلوا في ايصال رسالتهم ورسالة العراقيين الى الراي العام لانهم لا يعرفون شيئا عن فنون اللسان والبيان، فتراهم اذا وقف احدهم امام عدسة الكاميرا لا يقدر على ان يصف جملة مفيدة واحدة يقنع بها المتلقي، واذا ادلى بتصريح الى الاعلام فان نتيجته عليه لا له بسبب سوء التعبير ورداءة المعنى.
ان الكلام يعبر عن شخصية المرء، والحديث يعبر عن حجم معارفه وعلومه وثقته بنفسه وبرسالته، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين عليه السلام بقوله {تكلموا تعرفوا، فان المرء مخبوء تحت لسانه} فكيف يريد من لا يقدر على الكلام الصحيح والتعبير السليم ايصال رسالته بشكل صحيح وسليم الى المتلقي؟.
كم اتمنى ان يهتم اصحاب الرسالات بفنون اللسان والبيان كاهتمامهم بجمع الثروة، مثلا.
سادسا: حذار من الثرثرة، فليس كل ما يعلمه المرء يقوله في كل آن ومكان، كما انه ليس كل ما يعرفه المرء يدلي به بمناسبة وبغير مناسبة.
لقد حذرنا امير المؤمنين من هذا المرض الخطير بقوله {لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، فان الله فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة}.
كما ذكرنا عليه السلام بقوله {الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فان تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فرب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة}.
ان واحدة من اخطر مشاكلنا هي الثرثرة في كل زمان ومكان، ربما من اجل ان يستعرض المرء عظلاته ليقول لمستمعيه انه يفهم في كل شئ وانه صاحب علم ومعرفة لا يضاهيه به احد، فيورط نفسه بكلام ليس له معنى وبمعلومة غير دقيقة قد تجره الى التهلكة اذا لم يثبت صحتها، ان لم يكن ذلك في الدنيا ففي الاخرة.
لقد حذر امير المؤمنين عليه السلام الحارث الهمذاني من ذلك في كتاب طويل بقوله {ولا تحدث الناس بكل ما سمعت به، فكفى بذلك كذبا، ولا ترد على الناس كل ما حدثوك به، فكفى بذلك جهلا}.
ان كثرة الكلام تزيد من احتمالات الخطا، ولذلك ينبغي للعاقل ان لا يثرثر وان يزن كلامه قبل ان يدلي به، وان يتاكد من المعلومة قبل ان يفشيها، ولقد قال امير المؤمنين عليه السلام {من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار}.
ما اعظمها من معادلة تبدا بالثرثرة وتنتهي بصاحبها الى النار، افلا ننتبه الى كلامنا، فنصون السنتنا قبل ان تقودنا الى النار؟ وكلنا يتذكر القول الماثور (لسانك حصانك، ان صنته صانك، وان هنته هانك} او قول الامام (ع) {اللسان سبع، اذا خلي عنه عقر} وقوله {قلب الاحمق في فيه، ولسان العاقل في قلبه}.
لقد شدد القران الكريم على هذا الامر بقوله عز وجل {ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد} كما اكد رسول الله (ص) على ذات المعنى بقوله {من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرا او ليصمت} اما امير المؤمنين عليه السلام فيقول {ايها الناس، اتقوا الله الذي ان قلتم سمع، وان اضمرتم علم}.
لقد لاحظت ان الكثير من السياسيين العراقيين يدلون باي كلام امام الاعلام بمجرد ان يشعر احدهم بانه محاصر في زاوية حرجة، فيفكر بطريقة يتهرب منها فتراه يدلي بما يمر في خاطره، ظنا منه بان الناس لا يتابعون ما يدلي به من معلومات او انهم ينسون كما ينسى هو او يتناسى، ولذلك فلو عاد احدنا الى تصريحات الكثير من هؤلاء لوجد في تصريحاتهم الكثير جدا من الكذب والدجل والمعلومات غير الدقيقة، لو اراد القضاء ان يلاحقهم عليها لرمى بالكثير منهم في قعر السجون، الا ان المشكلة هو ان الكلام عندنا بلاش، لا يحاسب عليه صاحبه فترى كل واحد منا يدلي بما يحلو له من معلومات صحيحة وكاذبة، ويتهم وينم ويدعي ويبالغ بلا حسيب او رقيب، ولذلك اختلط عندنا الحق والباطل، والصحيح والسقيم، والكذاب والصادق.
فيما يلزم ان يكون من يتصدى للشان العام، على وجه الخصوص، ان يكون منتبها لما يقول لان قوله مسؤول والمعلومة التي يدلي بها يجب ان تكون صحيحة تعتمد الدليل والمصدر السليم، لا يخجل او يتهرب منها اذا سئل عنها يوما.
لقد وصف امير المؤمنين عليه السلام بعض اصحابه الذين فارقوا الحياة بقوله:
وكان اكثر دهره صامتا، فان قال بذ القائلين، ونقع غليل السائلين، ....، لا يدلي بحجة حتى ياتي قاضيا، ...، وكان اذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت، وكان على ما يسمع احرص منه على ان يتكلم}.
كم اتمنى ان يحفظ السياسيون هذا النص ليتخذوه شعارا ودثارا، فلا يثرثروا ولا يتسرعوا في الاجابة او يتشعبوا بها لانه {اذا ازدحم الجواب، خفي الصواب} على حد قول امير المؤمنين عليه السلام، ولا يتسابقوا في الكلام ولا يخجلوا من السكوت اذا غلبوا على الكلام، اذ انه {بكثرة الصمت تكون الهيبة} على حد قول الامام عليه السلام، فـ {اذا تم العقل نقص الكلام} كما يقول الامام عليه السلام.
16 نيسان 2011


Opinions