Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

حرب الخنادق الأهلية في العراق

3 تشرين الثاني 2011

في مثل هذا الوقت قبل قرن، وبالتحديد عام 1914 كانت الحرب العالمية الأولى قد دخلت مرحلة الخنادق. فقد تم إيقاف الزحف الألماني على فرنسا، فانسحبوا إلى ارض مناسبة وحفروا الخنادق، وفعل الحلفاء الشيء نفسه. كانت النتيجة حوالي 800 كلم من الخنادق تمتد من القنال الإنكليزي وحتى سويسرا! هناك دارت المعارك العنيفة وسالت الدماء ودفن الكثيرين أحياء، ليستقر الوضع تدريجيا إلى حالة من الجمود والهدوء.

جمود وهدوء لم يرق لجنرالات الحرب الذين يعيشون على إدامة الحرب واشتعالها ، وصار كل منهم يخترع الطرق لإعادة "الحيوية" الى الحرب، فنتجت إختراعات مختلفة مثل قاذفة اللهب، والدبابات المتطورة وغيرها. لكن الجانب المقابل كان يصنّع بعد فترة نفس الأسلحة فيعود "التوازن" ويجبر المتحاربين على العودة إلى الهدوء المزعج للجنرالات.

زار الجبهة يوماً، الجنرال البريطاني اللورد أدوارد كلايكن، وروى منزعجاً، أنه سأل أحد الجنود عن آخر مرة رأى فيها المانياً، فقال له أن هناك ألمانيا أصلع ذو لحية يتطلع إليهم بين فترة وأخرى من وراء السواتر. فقال له الجنرال: ولماذا لم تطلق النار عليه؟ فأجابه الجندي: أقتله؟ لماذا يا سيدي..لم يؤذني بشيء! هذا كان مؤشراً في منتهى الخطورة للجنرال!

كتب ظابط إنكليزي: إنها سهلة كلعبة أطفال ان نقصف خطوط إمدادهم الخلفية، لكن ردهم سيكون سهلاً ايضاً: إن لم تسمح للطعام أن يصل إلي، لن أسمح للطعام أن يصل إليك!

كتب جندي الماني في مذكراته: كنا نطبخ في إحدى المرات، فسمعنا صيحة من الخندق المقابل، وكان هناك جندي فرنسي شم رائحة الطعام وطلب أن يشاركنا به، فدعوناه إليه، وبالفعل جاء وتمتع بالأكل، وصار كلما طبخنا يأتي ويشاركنا الطعام.

وكتب آخر من الجانب الآخر: إستلمنا من الخندق الألماني تقول: سوف نضربكم هذا المساء بقنبلة من زنة 20 كغم. نحن لا نريد أن نفعل ذلك لكنها الأوامر. لكننا سنطلق صفارة إنذار لتتمكنوا من الإختباء قبل أن نفعل ذلك. وبالفعل جرى الأمر كما جاء في الرسالة.

أثارت هذه الوضعية التي وصلت إلى القيادة القلق لدى قادة الجيش، فصاروا يصدرون الأوامر الإجبارية للهجوم، حتى من أجل الهجوم فقط، أو لإحتلال أراض لا قيمة لها، لكن متابعة ذلك لم تكن سهلة في جبهة بهذا الحجم. وتفتق ذهن أحد قادة الحلفاء عن فكرة، فصار يطالب وحداته بأن يقوموا بهجوم كل يوم، وأن يرسلوا له دليلاً على ذلك متمثلاً بقطعة من الأسلاك الشائكة الألمانية. لكن جنوده حصلوا من "أعدائهم" على كمية من تلك الأسلاك وصاروا يرسلون له قطعة منها كل مساء!

ليس هذا الأمر مقتصراً على الحرب العالمية الثانية، بل ربما في كل حرب أتاحت ظروفها للجنود من الطرفين أن يتحدثوا مع بعض فأكتشفوا ليس فقط أن لا مصلحة لهم في القتال، وإنما أيضاً أن العدو المقابل لهم ليس ذلك الوحش الذي أفهمهم رؤساؤهم إياه، بل إنسان عادي مثلهم وله اسبابه التي لا تقل منطقية عن اسبابهم لتحديد تصرفاته، وبالتالي يمكن التفاهم معه. حدث هذا أيضاً في الأشهر الأخيرة بعد وقف إطلاق النار بين الجيش العراقي والإيراني عام 88، وفي انتظار الأوامر الرسمية بنهاية الحرب، التقى جنود الطرفين وتحدثوا عن الحرب والحياة ووجدوا كل في الآخر غير ما قيل لهم عنه.

كما خمن بعضكم بلا شك، فأنني أكتب هذه المقدمة الطويلة "الدرامية" لأتحدث عن العلاقة المتدهورة بين الشيعة والسنة في العراق وما وصلت إليه من مرحلة خطيرة. وقد يعاتب البعض ويقول أن الأمر لم يصل إلى تشبيه الوضع بجيشين يتقاتلان في خندقين متقابلين، لكن التشابه كبير في تقديري للأسف.
كتبت قبل فترة عن ضرورة "الذهاب إلى المقابل" كأحد أهم وسائل محاربة الأجندات الإرهابية (1) وأكدت ذلك قبل بضعة أيام فكتبت مقالة بشكل أسئلة (2)، أدعو فيها الشيعة والسنة إلى بذل الجهد ومحاولة فهم الآخر ودوافعه وأسبابه، إنطلاقاً من الفرضية بأنه إنسان إعتيادي مثله، وأن الإعلام الذي يصوره وحشاً لا بد أن يكون خاطئاً ومغرضاً. ورغم أني لم أطرح أي رأي في اي شيء على الإطلاق، وأن المقالة كانت عبارة عن مجموعات من الأسئلة التي تخيلتها في رأس ألسني للشيعي والشيعي للسني، رغم ذلك لم أنج من الكثير من التهجم والإتهام بالتحيز (!!) وحتى النوايا السيئة، كما أشار أحد الكتاب في مقالة مخصصة لذلك نالت استحسان القراء، وعلق قارئ وقع باسم إمرأة محذراً من "صائب خليل الذي يخترق مواقعنا". ألا تجبر هذه العبارة المرء على تذكر الخنادق والجيوش المتحاربة فيها؟

لكن التركيز على المواقف السلبية لن يكون عدلاً، وكان هناك ردود فعل إيجابية ايضاً، وساهمت بعض التعليقات في الحوار ، لا أقصد الجدل حول مواقف كل من الجانبين فهذا كان تشويشاً غير مرغوب فيه، وإنما عن ضرورة "الذهاب إلى الآخر" في "الخندق المقابل" وخلق الحوار حتى ولو بإجبار المقابل وإحراجه، فالعراق في خطر شديد تتكاثر عليه المؤامرات، وكل خطوطه الأمنية والسياسية والإعلامية مخترقة إلى درجة غير معلومة العمق، ومن الواضح أن من يريد تقسيمه قد حقق نجاحاً كبيراً في غياب أي رد ثقافي حكومي أو غير حكومي على ذلك. ويتمثل النجاح الأكبر ليس فقط في عزل المناطق الشيعية والسنية عن بعضها، وإنما العزل الإعلامي الشديد بين الطرفين، فكل طرف يستمع ويشاهد ويقرأ محطات وصحف ومواقع إنترنت مختلفة. وهكذا قلما يختلط الطرفان ليتبادلا الحديث وتصحيح فكرة كل منهما عن الآخر، وهو ما لا يرجوه من أسس ذلك الفصل وهندسه وأداره بمهارة متناهية لا تكشف إلا بعد وقت طويل من عملها، وربما يكون الوقت قد فات لمواجهتها. هذه القنوات الإعلامية لم تعد موجهة للإعلام والأخبار بقدر ما صارت تهتم بكل ما يسيء إلى الجانب المقابل من أكاذيب وحقائق أيضاً، وتثبيت الصورة السلبية للمقابل في ذهن مشاهدها، الذي صار يتمتع بهذه العملية التي تؤكد له أنه هو الأفضل والأصدق والأعلى، وينزعج تماماً إن جاءه أي رأي يقول بغير ذلك، أو يعامل سياسييه المفضلين الذين صار يقدسهم، معاملة أعتيادية ومراجعة أقوالهم وتصريحاتهم بتمحيص لا يعتمد على الثقة التي يبديها هو لهم، ويطالب الجميع بمثلها، ويعتبر أي خلاف لذلك، "اختراقاً لمواقعه".

كما قال أحد الضباط: من السهل أن نضرب خطوط "العدو" ونحرمه الطعام، لكن الرد أيضاً سيكون سهلاً عليه، ومثلما سيتضرر، سنتضرر نحن أيضاً. وكذلك من السهل والرخيص أن يتجمع كل من الطرفين حول مواقع إعلامية خاصة بهما وتبادل الأخبار والتحليلات التي تؤكد تفوق كل منهما الأخلاقي على المقابل، وتجمع كل ما هو سيء عنه وكل ما هو جيد عنا. بل وتخترع السيء والجيد المناسبين إن لم تجدهما، وتصدق كل الأخبار المناسبة، حتى لو لم تكن معقولة ، أو لم تكن لها أية مصادر غير "مصدر موثوق" أو "مصدر رفض أن يذكر اسمه" أو أمثالها من الحيل الإعلامية التي تتيح لمن يريد، أن يقول كل ما يشيء دون أن يتحمل مسؤولية الخبر. تلك أمور سهلة ، بل وممتعة للنفس البشرية الراغبة في تأكيد تفوقها، لكنها في النهاية متعة مسمومة، لا يحس بأثرها إلا عندما تشعر أنك لم تعد تطيق الآخر، أو تصدق أي خبر جيد عنه أو تتحمل أي دفاع عنه، وتختفي صورته الإنسانية وراء صورة إعلامية شديدة الحدية والتشويه. لكن بالمقابل يجب أن تتذكر أن المقابل يتعرض لمثل هذا القصف الإعلامي، وأنه سيكون عاجلاً أو آجلاً عدائياً تجاهك غير قادر على تحملك أو التفاهم معك لأن صورتك شوهت لديه كما شوهت صورته لديك. إن لم يكن ذلك يهمك، فليس لدي ما أقوله، أما إن كنت تعتبره أمراً خطيراً، يهدد أشياء غالية عليك كالوطن، فالوقت ضيق لمواجهة هذا الإتجاه.

لقد اكتشف الجنود الألمان والحلفاء أن لا مصلحة لهم بالحرب المدمرة التي اثارتها أطماع قادتهم بالمال والسلطة، وكذلك اكتشف الجنود العراقيون والإيرانيون الأمر، ولكن بعد أن دفعوا جميعاً ثمناً غالياً وكارثياً. فهل يجب أن ينتظر المتواجهون تلك الكوارث ليتحدثوا مع بعض؟ إني آمل أن أثير في نفوس البعض القرار بأن يصل إلى الخندق الآخر، وأن يكون جسراً ينقل مفاهيم كل طرف إلى الآخر والمساعدة على الوصول إلى الحقائق التي تعطي كل جانب حقه، وإلى التفاهمات والحلول الوسطية التي تتقاسم التضحيات (وليس السلطة)، بإصرار من يعتبر القضية قضيته والفشل فيها فشله ومكسبها مكسب شخصي له. هكذا فعل ناشطو ومثقفوا البلدان التي وصلت إلى القمة في كل مرة مرت فيها بلادهم بأزمة تهدد وجودها أومستقبلها.

(1) توصيات لمواجهة الإرهاب (1) صمود العقل وتصحيح الصورة / صائب خليل
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=55506

(2) هل نثق بمصادرنا عن الآخر، أم نذهب للبحث عنه؟
http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=8896&start=0&page=1



Opinions