Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

حرية التفكير وشجاعة التعبير عن الرأي

حرية التفكير على الطريقة العراقية:

أثار الدكتور هاشم العقابي في مقاله المعنون "دفاعاً عن حرية التفكير" موضوعاً في غاية الخطورة. في الحقيقة، تناول السيد هاشم موضوعين يُكمل أحدهما الآخر من أجل تحقيق فائدة الفرد الفكرية للمجتمع، وهما: حرية التفكير أي حرية إنتاج الفكرة أي بلورة الرأي الخاص غير المُسْتَمَد من الآخر عبر آلية الترديد الببغاوي، وشجاعة البوح والتعبير عن هذا الرأي الخاص.

أعتقد أن ظاهرتي عدم القدرة على التفكير المستقل وعدم القدرة على البوح بالرأي الصريح للفرد العراقي مَرَّتا بمرحلتين:

الأولى ترتبط بالتراث التأريخي للمسلمين والعرب. بعض جوانبه كان قامعاً لحرية الفكر والتعبير عنه، وبعضه كان متسامحاً أو مشجعاً.

الثانية وهي الأخطر لأنها تحدد معالم الوضع الحالي، وهي إمتدت منذ بداية عشرينات القرن الماضي. هناك عاملان فاعلان في هتين الظاهرتين وهما: السلطة والفرد.

السلطة: منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتي 9/4/2003 (بإستثناء فترة ثورة 14 تموز عام 1958 حتى سقوطها على يد الطغمويين* في 8/2/1963 الأسود) تعاملت السلطات المتعاقبة مع الحرية الفكرية بالقمع المطلق خضوعاً لمقتضيات الحرب الباردة التي إتسمت بسياسة محاربة الشيوعية عملياً وفكرياً.

أما ما يخص الفرد العراقي، فالبعض من الأفراد إقتنع أو إنصاع لنهج الحكومة والبعض إلتزم جانب السكوت على مضض رغم أنه يملك رأياً متبلوراً خاصاً به مناهضاً لرأي السلطة، والبعض الآخر تمرد وإنتظم في أحد الأحزاب السياسية السرية التي تحمل أفكاراً مغايرة لفكر السلطة وفيه مساحة واسعة نسبياً من حرية التفكير وشجاعة التعبير. ولكن هذه الحرية كانت محددة أيضاً بالإطار الإيديولوجي والنظرية التنظيمية لهذا الحزب أو ذاك فضاقت الحرية والشجاعة يوماً بعد يوم. الطامة الكبرى أن الحزب السري تنقصه الديمقراطية في حياته الداخلية بسبب قمع السلطة وبسبب الموروث وبسبب تخلف المجتمع من الناحية الإقتصادية وخاصة الصناعية إذ أن الصناعة تدفع بإتجاه الإنفتاح الفكري والحرية وتنمية شجاعة التعبير عن الرأي وخلق تنظيمات سياسية ناضجة تمارس النقد والنقد الذاتي بصدق.

مع مرور الأيام إزداد الأمر سوءاً إذ طورت قيادات الأحزاب السرية أساليب قمعية ضد المعارضين داخل الحزب ذاته ممن لهم فكر مستقل وشجاعة للإدلاء بآرائهم، لضمان الحفاظ على وحدة الحزب الفكرية والتنظيمية وهي ممارسة تؤول موضوعياً عن غير قصد إلى تشديد قبضة القيادة على القاعدة أي فرض الهيمنة ومصادرة حريتي التفكير والتعبير، وقد يشتط البعض فيقصد الولاء. من هذه الأساليب القمعية التشهير ووصم المخالف بالمنحرف وحامل آراء غريبة وبالمتخاذل والمهزوز والجبان والإنتهازي والشللي والنفعي والمرتد والضعيف فكرياً والمشوَّش والمتآمر والخائن والعميل والجاسوس وغير ذلك من الأوصاف حسب درجة الإختلاف. هذه الممارسات السيئة قتلت جو الحرية للتفكير المستقل وشجاعة التعبير عن الرأي الصادق النابع من صميم الفرد وضميره لا الترديد الببغاوي لما يريده المسؤول أو الآخرون (أي الجمع).



نمطان عالميان لحرية التفكير:

وقع العراق، وأغلبية بلدان العالم الثالث، وهي خليط من دول مستقلة ومستقلة شكلياً ومستعمرة وشبه مستعمرة، في القرن الماضي بين قطبين قامعين قتلا حرية التفكير المستقل أولاً وشجاعة الفرد في التعبير عن رأيه بأمانة ثانياً، وهما:

أولاً: ثقافة الحرب الباردة التي ألزَمَ بها الغرب الرأسمالي حكوماتِنا والتي إتخذتْ في دول العالم الثالث منحى قمعياً شمولياً متخلفاً مباشراً ومطلقاً ما نجمت عنه ثلاث أمور هي: غياب المعلومات الأساسية وهي المادة الأولية للتفكير، وقمع القدرة على التفكير المستقل أي قمع حرية التفكير، وقتل شجاعة التعبير.

إختلفَ هذا المنحى في بلدان العالم الثالث تماماً عما كان عليه الحال في الدول الرأسمالية نفسها حيث ساعد المستوى الإقتصاديُ المتطورُ هناك الطبقةَ الراسماليةَ الحاكمة على نشر ثقافتها بين شرائح واسعة من المجتمع بقناعة ودون إكراه فأصبح الجميع يفكرون والجميع يتحدثون بحرية... ولكن..... سأعود لهذا الأمر في نهاية هذه المداخلة.

ثانياً: ثقافة المعسكر الإشتراكي وقائده أي الإتحاد السوفييتي الذي نُحرتْ الديمقراطيةُ في حزبه ثم في مجتمعه وفي الأحزاب الشيوعية على نطاق العالم منذ الفترة الستالينية ما نجم عنه قتلٌ لحرية التفكير ونحرٌ لشجاعة التعبير لم تستطع حتى "إنتفاضة" المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، وحتى "إنتفاضة" "الشفافية وإعادة البناء" (الكلاسنوست والبريسترويكا) على الستالينية بقيادة الأمينين العامين للحزب نيكيتا خروتشوف عام 1955 وميخائيل غورباشوف في بداية ثمانينات القرن الماضي، من تدارك آثارها الكارثية على الفرد الشيوعي والأحزاب الشيوعية حتى تفكك الإتحاد السوفييتي وإنتكس مشروعه الإشتراكي ولم يتحقق حلمه في بناء الفرد المستقل فكرياً والمعبر عن رأيه بثقة وبحرية تامة ويمتلك ثقافة متنوعة متكاملة الأركان.

أستدرك هنا وأقول إن هذا القتل والنحر لا يشمل ممارسة نقد الآخر (نظام آخر أو حكومة أخرى أو حزب آخر أو شخص آخر..إلخ) فهو يذهب، أحياناً، إلى أبعد مما ينبغي لحد الشتيمة دون رادع ذاتي.

بناءاً على ذلك نشأت حالة العقلية الببغاوية في الأحزاب السرية وخاصة "الثورية" منها سواءاً الصادقة كالحزب الشيوعي أو المدَّعية كحزب البعث وكلها أثَّرت تأثيراً كبيراً على فئات واسعة ونشطة من المثقفين. بقيت هذه العقلية الببغاوية تعشعش في رؤوس كثير من مثقفينا حتى يومنا هذا.

في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، الجميع يمتك حرية وشجاعة التفكير وشجاعة البوح بالرأي دون تردد. ولكن هناك موضوع "الأصالة" في ما يطرحه الفرد. فعموم الناس يردد من حيث لا يدري أفكار المؤسسة الرأسمالية في شؤون الحياة المختلفة التي تزحف وتتسلل إليه عبر وسائل الإعلام المتباينة التي يسيطر عليها، بصيغة أو أخرى، الرأسماليون بثقافتهم وأفكارهم وقيمهم بسبب مقدرتهم المالية. إذاً، هو ترديد مقارب للببغاوي أيضاً، خاصة في المسائل الكبرى وبالأخص في ما يتعلق بالخارج، ولكن بآلية غير مباشرة وأكثر حذاقة وهي لا تقبل بالكسل الفكري لكنها تتقبل الفكر المقولب.

وهناك نسبة ضئيلة من المواطنين ممن يمتلك "الوعي" لما يدور حوله وفي العالم، فينتج أفكاراً "أصيلة" غير متسللة إليه من الإعلام العام دون وعي، وأخيراً لديه "الشجاعة" (كما لدى الآخرين) للبوح بها علانية دون وجل. وهؤلاء هم قادة المجتمع الفكريون أي المفكرون.

أخيراً:

أعتقد أن المثقفين العراقيين، وخاصة اليساريين منهم، بحاجة إلى "ثورة فكرية" تشمل الموضوع والأسلوب، أي تشمل حرية التفكير أي حرية إنتاج الفكرة أي بلورة الرأي الخاص غير المُسْتَمَد، عبر آلية الترديد الببغاوي غير الواعي، من الآخر أو مما إستقرَّ ورسخَ في الذهن منذ عقود؛ وتشمل شجاعة التعبير عن هذا الرأي الخاص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*: الطغمويون والنظم الطغموية: هم أتباع الطغم التي حكمت العراق وبدأت مفروضة من قبل الإحتلال البريطاني في عشرينات القرن الماضي، ومرت النظم الطغموية بمراحل ثلاث هي: الملكية السعيدية والقومية العارفية والبعثية البكرية-الصدامية. والطغمويون لا يمثلون أيا من مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية بل هم لملوم من الجميع ، رغم إدعائهم بغير ذلك لتشريف أنفسهم بالطائفة السنية العربية وللإيحاء بوسع قاعدتهم الشعبية. مارستْ النظمُ الطغمويةُ الطائفيةَ والعنصريةَ والدكتاتوريةَ والديماغوجيةَ كوسائل لسلب السلطة من الشعب وإحكامالقبضة عليها وعليه. بلغ الإجرام البعثي الطغموي حد ممارسة التطهير العرقي والطائفي والإبادة الجماعية والمقابر الجماعية والجرائم ضد الإنسانية كإستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة الكردستانية والأهوار. والطغمويون هم الذين أثاروا الطائفية العلنية، بعد أن كانت مُبَرْقعَةً، ومار سوا الإرهاب بعد سقوط النظام البعثي الطغموي في 2003 وإستفاد الإحتلال من كلا الأمرين، فأطالوا أمد بقاءه في العراق بعد ثبات عدم وجود أسلحة الدمار الشامل. كان ومازال الطغمويون يتناحرون فيما بينهم غير أنهم موحدون قي مواجهة الشعب والمسألة الديمقراطية؛ كماإنهم تحالفوا مع التكفيريين من أتباع القاعدة والوهابيين لقتل الشعب العراقي بهدف إستعادة السلطة المفقودة.


Opinions