حق النقد وجرائم التعبير في معايير الفصل بين أسباب الإباحة والتجريم
(البحث الفائز بالجائزة الثانية ـ البحوث ـ مؤسسة النور للدراسات ـ السويد)ملخص البحث:
يتناول بحث (حق النقد وجرائم التعبيرـ في معايير الفصل بين أسباب الإباحة وجرائم التعبير) دراسة المعايير التشريعية التي يهتدي بها المشرع وهو بصدد سن التشريعات التي تنظم ممارسة حرية التعبير وحق النقد بشكل خاص، وكذلك المعايير التي يهتدي بها القضاء وهو ينظر في الدعاوى المتعلقة بحسن ممارسة تلك الحريات وحق النقد، من وجهة نظر الفقه والقضاء المقارن.
وتعد المعايير التشريعية وأراء فقهاء القانون وأقضية المحاكم التي تتضمن مبادئ جديدة، من أهم المصادر التي يستقي منها المشرع أحكامه وهو بصدد سن التشريعات المختلفة، فضلاً عن انها محل استئناس القضاء . خاصة وان من المتوقع ان يباشر المشرع العراقي في سن التشريعات التي تنظم حرية التعبير ومنها حق النقد وفقاً للقواعد الدستورية.
وتناول البحث معايير التمييز بين ما يعد من جرائم الرأي وما يعد ممارسة لحرية التعبير وحق النقد التي نصت عليها الدساتير والمواثيق الدولية صراحة او ضمنا من خلال إطلاق الحريات العامة مقترنة بضابط النظام العام والآداب العامة، ولما كانت الدساتير والقوانين لا تتضمن عادة تفصيلاً لمثل هذه المعايير وان الدستور واجب التنفيذ والاحترام، فقد تولى الفقه والقضاء في مختلف دول العالم وضع هذه المعايير مشتقاً إياها من مفهوم النظام العام والآداب العامة السائدة في المجتمع وقواعد المنطق والأعراف المهنية وقواعد العدالة ومبادئ القانون الطبيعي باعتبارها مصادر لما فات المشرع ان ينص عليه في الدستور والقوانين المختلفة، وقد يكون ذلك عن قصد منه إيمانا منه ان مثل هذه الأفكار تتطور بفعل الزمن وانه ليس من الحكمة حصرها في نصوص قد لا تتطابق مع التطورات المتسارعة والمذهلة في حياة البشر فترك أمرها لحسن تقدير ونظر الفقه والقضاء ، ايماناً منه بان القضاء المستقل هو من يتولى خط الدفاع الاول عن الحقوق والحريات العامة ضد كل اعتداء يرد عليها من أية جهة كانت.
وقد تناول البحث دراسة جريمة القذف وحق النقد كنموذجين لاشتقاق المعايير اللازمة للتفرقة بين ما يعد جريمة وما يعد ممارسة لحق دستوري.
وينبغي ملاحظة ان البحث الفقهي في هذا المقام والاستشهاد بأقضية المحاكم لا يعني القول الفصل في الموضوع، لان الكثير من الوقائع المتصلة بمثل هذه المسائل تتصل بالسلطة التقديرية لقاضي الموضوع حسب ظروف كل قضية، إلا ان تكييف تلك الوقائع وإسنادها إلى نص قانوني معين يخضع لرقابة محكمة التمييز، وفائدتها العملية انها تصلح كدفوع مستندة إلى العلوم القانونية وقواعد المنطق وأعراف المهن التي لا يخطئها عقل القاضي الحصيف، ونظر محكمة التمييز السديد.
مقدمة: حرية الفكر نظراً وعملاً
لحرية الرأي والتعبير قيمة عليا في حياة الناس، وهي من مصادر الخلق والإبداع وتنمية الخيال الأدبي والفني في كل الاتجاهات الممكنة، فضلاً عن انها تعطي الأمل والثقة للناس في قيام نظام اجتماعي وسياسي سليم يحترم الفرد ويقدر مشاعره وضميره الأدبي. وتعطي حرية التعبير للإنسان قدرة المشاركة بإخلاص وفعالية في الحياة الاجتماعية العامة والمساهمة في دفع التقدم الاجتماعي إلى الأمام مما لا يفسح المجال أمام نمو النفاق الاجتماعي وطغيان الانتهازية وسيادة العلاقات المزيفة القائمة على المصالح الشخصية البحتة التي تجد ضالتها في عهود الظلام وكبت الحريات. ويقول الشاعر بيرم التونسي، وهو يتعرض لأهمية حرية التعبير وممارسة حق النقد، (.. ولولا النقاد لهلك الناس، وطغى الباطل على الحق، ولامتطى الأراذل ظهر الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال).(1)
ذلك ان الإنسان كائن فكري، ويغطي الفكر مجمل نشاطاته العقلية والبدنية، فما نقوم به من نشاطات ذهنية وما نتحرك مادياً إلا بناءاً على فكرة مسبقة، وحركة الفكر الإنساني، هي الحركة الأهم في حياتنا جميعاً، لما يترتب عليها من رؤى ونشاطات تتمظهر بصور منوعة من الإبداع الإنساني كالنتاج الفني والأدبي والعلمي فضلاً عن السلوك الاجتماعي اليومي لبني البشر ونشاطهم البدني ، ومثلما تحكم قوانين المنطق نظام الكون، فانها تحكم سياقات الفكر الإنساني أيضا باعتباره جزء من ذلك النظام، وحينما تتحق الحرية بأنواعها وتفصيلاتها الدقيقة فان ذلك يدفع بالفكر الإنساني إلى أقصى حدوده الممكنة، وهذا ما يذكرنا بالأفكار الخلاقة التي نمت وازدهرت في عصور النهضة الأوربية التي كانت نتاجا وابنا شرعيا لنمو وتطور الحريات العامة، وحينما تتعرض حركة الفكر لقيود خارج حدود قوانين المنطق، او حينما تستبعده عن العمل والتأثير سلوكيات مثل التعصب والهوى والإرادة الطائشة والرغبات الآنية وخاصة السياسية منها، التي لا تنتهي حججها يوماً ما في مواجهة الفكر وحريته، بما يذكرنا بالعصور المظلمة، فان الناتج هو توقف الإبداع والتطور في المجتمع فيكون سبباً لانتشار الجهل وسيادة الأفكار المتخلفة محله، لان الفكر لا يمكن إلغاؤه كلياً من حياة البشر، فان حُجب الفكر الحر النير المتطور عن عقول الناس ونظرهم فلا شك في ان يحل محله ما هو متخلف وسلفي.
وحرية التعبير لا تعني تعليق الحرية على صحة التعبير او على مدى مطابقته لمعايير جامدة لا يمكن ان تتطور بتطور المجتمع، وانسجاما مع ذلك ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر في حكم لها بشأن حرية الرأي بشكل عام إلى القول (... حق الفرد في التعبير عن الآراء التي يريد إعلانها، ليس معلقاً على صحتها، ولا مرتبطاً بتمشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التي يمكن ان تنتجها، وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير ان تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة في أعماق منابتها بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام فلا تكون معاييرها مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه ولا عائقاً دون تدفقها.
وحيث إن من المقرر كذلك إن حرية التعبير ، وتفاعل الآراء التي تتولد عنها ، لا يجوز تقيدها بأغلال تعوق ممارستها ، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة عليه نشرها ، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تتوخي قمعها • بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها -وعلانية - تلك الأفكار التي تجول في عقولهم ، فلا يتهامسون بها نجيا ، بل يطرحونها عزماً ولو عارضتها السلطة العامة - إحداثا من جانبهم - وبالوسائل السلمية - لتغيير قد يكون مطلوبا • فالحقائق لا يجوز إخفاؤها ، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكنا في غيبة حرية التعبير • ).(2)
تقسيم البحث:
نتناول في هذا البحث دراسة حق النقد مقارنة بجريمة القذف والدعاوى المقامة على المؤسسات الإعلامية وعلى الأفراد من جانب التمييز بين ما يعتبر جريمة قذف وبين ما يعد ممارسة مشروعة لحرية التعبير وحق النقد، بمعنى اخر إيجاد الحد الفاصل بين الجريمة المعاقب عليها وبين ممارسة حرية التعبير وحق النقد ، وعلى النحو الأتي:
الفرع الاول: الديمقراطية وحقوق الانسان وجهان لعملة واحدة
الفرع الثاني: في أركان جريمة القذف
الفرع الثالث: مشروعية حق النقد
الفرع الرابع: أركان وشروط حق النقد
الفرع الخامس: تطبيقات قضائية في التمييز بين القذف وحق النقد
الفرع السادس: المقصود بالنظام العام والآداب العامة كقيود ترد على ممارسة الحريات العامة
خاتمة البحث: النتائج المترتبة على التمييز بين الجريمة وممارسة الحق.
التوصيات
الفرع الاول
الديمقراطية وحقوق الانسان وجهان لعملة واحدة
الواقع ان الديمقراطية وحقوق الانسان وجهان لعملة واحدة، ولسنا بحاجة في هذا المقام إلى براهين وأدلة خاصة لإثبات العلاقة بين الديمقراطية وحرية التعبير وممارسة حق النقد العام لأنها علاقة مشهورة ومؤكدة نظريا وعمليا،
وحين يطالب الفرد بحقه في ممارسة حرية التعبير والنقد واحترام رأيه ومعتقداته فأنه يطالب بما هو مستحق له بوصفه عضواً في المجتمع.
وجاء في إعلان حقوق المواطن الفرنسي الوارد في مقدمة دستور سنة 1789 بالنص على انه ( ان ممثلي الشعب الفرنسي ، المجتمعين في جمعية وطنية ، قد راعهم الجهل ، والنسيان ، وعدم المبالاة بحقوق الإنسان ، باعتبارها سبب المآسي العامة وأساس فساد الحكومات . فقرروا النص في إعلان رسمي على حقوق الإنسان الطبيعية، المقدسة، غير القابلة للتصرف، حتى يكون هذا الإعلان ماثلا على الدوام في ذهن أعضاء الجسم الاجتماعي ، يذكرهم أبدا بحقوقهم وواجباتهم ....
المادة الاولى : يولد الناس ويظلون أحرارا ومتساوين في الحقوق ولا تقوم التمييزات الاجتماعية إلا على أساس من المنفعة العامة .
المادة الثانية :ان الغاية من كل تجمع سياسي حفظ حقوق الإنسان الطبيعية غير القابلة للتقادم . هذه الحقوق هي الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومـة الطغيـان.... )(3)
وقد تبنى ميثاق منظمة الأمم المتحدة موضوع إشاعة قيم الحرية وحرية التعبير والرأي بمختلف صورها ووسائلها، وتوجت ثمرة الجهود الدولية في هذا المجال بصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948، وجاء في المادة (19) منه ( لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية).
ويلاحظ الباحثون ان الأمم المتحدة وان سارت خطوات متقدمة في مجال دعم الحريات العامة وإشاعة ثقافتها نظرياً بين الشعوب من خلال اتفاقيات دولية وتوصيات لمؤتمرات عديدة، إلا أنها لم تتبنى دعم الوجه الآخر وهو الوجه العملي لهذه الحريات ونقصد به دعم الشرعية الديمقراطية، ففي الوقت الذي نص فيه الإعلان العالمي في الفقرة الثالثة من المادة الحادية والعشرين على انه:
( إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة, ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري علي أساس الاقتراع السري وعلي قدم المساواة بين الجميع أو حسب رأي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت)، ولم يشر ميثاقها صراحة الى الصلة الوثيقة بين حقوق الإنسان والشرعية الديمقراطية ولم تتخذ هذه المنظمة تنفيذا لنصوص الإعلان العالمي أية مواقف تجاه الانقلابات العسكرية حتى ما كان مها في مواجهة أنظمة ديمقراطية ناشئة ولم تتعرض لبروز الديكتاتوريات وما ألحقته من مآس بحق العديد من الشعوب، وكان ذلك على أساس من فكرة كانت سائدة مفادها ان التعرض لهذه الشؤون يعد مساساً بالشؤون الداخلية للدولة، إلا ان تحولاً جذريا قد حصل بعد انتهاء الحرب الباردة والتطورات الحاصلة في فقه القانون الدولي الحديث، وبدأت منظمة الأمم المتحدة تخرج عن نطاق ما كانت تعتبره حيادا مغلبة معيار الشرعية الديمقراطية عندما أعلنت ان الديمقراطية ليست مجرد شعار وإنما هي أداة حتمية للتنمية الإنسانية أيضا وجاء في قرارها رقم 34/751 بتاريخ 8 كانون الاول من سنة 1988أن إرادة الشعب التي تعكسها انتخابات نزيهة تجري دوريا هي أساس لسلطة وحكم الشعب. وان ( التجربة العملية تثبت أن حق كل فرد في الاشتراك في حكم بلده عامل حاسم في تمتع الجميع فعليا بمجموعة من حقوق الإنسان والحريات الأساسية الأخرى)
وتناول المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان الذي عقد في فيينا في يونيو عام 1993 هذا التكامل بين حقوق الإنسان والديمقراطية, ليثبت أن الديمقراطية وحقوق الإنسان وجهان لعملة واحدة. وبهذا التحول الجوهري أضحت الشرعية الديمقراطية هدفاً عمليا من أهداف الأمم المتحدة ومنظماتها الذي تجسد في أشراف المنظمة على الانتخابات الوطنية والاستفتاءات الشعبية في مختلف أنحاء العالم ومنها العراق، أثناء الانتخابات والمراحل اللاحقة لها وذلك (بغية ضمان استمرار وترسيخ عملية إقامة الديمقراطية في الدولة العضو التي تطلب الحصول علي مساعدة). (4)
وانسجاما مع السعي الجاد لإنشاء نظام سياسي ديمقراطي يحترم الحريات العامة نصت المادة (38) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005على انه: ( تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:
أولا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل .
ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً : حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون).
وجاء في المادة (42): (لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة).
بينما نصت المادة (46): ( لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه، على ألا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية).
ويستفاد من النصوص المتقدمة ان مشرعنا قد اعترف ضمناً بجميع أنواع الحريات المتعلقة بالتعبير والنقد والبحث العلمي والأدبي وأية حرية أخرى تعترف بها المواثيق الدولية لأنه لم يقيدها إلا بقيد ان لا تكون مخالفة للنظام العام الآداب العامة.
ويراد بحرية الرأي حق الفرد في التعبير عن أفكاره سواء كانت سياسية او اقتصادية او اجتماعية او دينية بالوسائل والصور المختلفة دون حاجة الى موافقة او ترخيص سابق ولو انفرد برأيه، لذلك يقول فولتير (إني استنكر ما تقوله ولكني أدافع حتى الموت عن حقك في قوله) (5)
ويقصد بحرية الصحافة حق الأفراد في إصدار الصحف او المجلات او اية مطبوعات دون رقابة من السلطة العامة.
ووضع قيود غير مبررة على حرية الرأي وحق النقد هو بمثابة انتقاص من أهلية المواطنين والحجر على عقولهم، فضلاً عن كونه اعتداء على حق جوهري من حقوق الانسان.
ومما جاء في إعلان الدوحة 2009 (نحن... المشاركين في مؤتمر اليونسكو لليوم العالمي لحرية الصحافة في الدوحة، قطر، في 3 أيار/مايو 2009.... نعيد التأكيد على أن حرية التعبير حق أساسي ضروري لتحقيق حريات أخرى مضمونة في الوثائق الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان،.... ونشدّد على ضرورة استقلال وتعددية وسائل الإعلام لضمان الشفافية والمساءلة والمشاركة، باعتبارها عناصر أساسية للحكم الرشيد والتنمية القائمة على حقوق الإنسان،.. ونرى أن حرية الرأي والتعبير تشكل حجر الأساس في المجتمعات الحرة والديمقراطية وتسهم في تحسين فهم مختلف الثقافات وإرساء الحوار فيما بينها....ندعو اليونسكو إلى ما يلي:الاستمرار في توعية الحكومات والمشرّعين والمؤسسات العامة، إلى أهمية حرية التعبير، بما فيها حرية النفاذ إلى المعلومات وإنتاجها...)(6)
والحال ان تطابق الفكر مع وعي مفهوم الديمقراطية كنظام قانوني وسياسي، هو أساس التمييز بين الديمقراطية الحقيقية والديمقراطية المزيفة.
الفرع الثاني
في اركان جريمة القذف
عرفت المادة (433) عقوبات عراقي القذف في الفقرة (1) منها بالقول ( القذف هو إسناد واقعة معينة إلى الغير بإحدى طرق العلانية من شأنها لو صحت ان توجب عقاب من أسندت إليه أو احتقاره عند أهل وطنه).(7)
وعرف المشرع المصري القذف بنفس الأسلوب في المادة (302) عقوبات مصري بالقول:
(يعد قاذفاً من اسند لغيره بواسطة احدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون اموراً لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانوناً أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه)
وفي ضوء ذلك يذهب الشراح إلى وجوب تحقق ركن مادي وركن معنوي لتحقق جريمة القذف:
أـ الركن المادي:يقوم الركن المادي على ثلاثة عناصر، نشاط إجرامي هو فعل الإسناد وموضوع لهذا النشاط هو الواقعة المحددة التي من شأنها ان تعتبر جريمة توجب عقاب فاعلها، او انها توجب احتقاره عند أهل وطنه ولو لم تشكل جريمة، وصفة لهذا النشاط هي كونه علنياً.
1ـ فعل الإسناد: هو تعبير عن فكرة صراحة او دلالة، تصدر قولاً او كتابة او إشارة او رمزاً او رسماً فحواه نسبة واقعة الى شخص معين علناً، بغض النظر عما اذا كانت نسبة الواقعة على سبيل اليقين او الشك، او كانت مجرد نقل عن الغير. وعلى هذا وصف القذف بأنه ( جريمة تعبير ).
وعلى هذا تقوم الجريمة بالإسناد الصريح الذي لا يحتاج من السامع الى مجهود ذهني لاستخلاص المعنى المراد من التعبير، او انه كان تعبيراً ضمنياً يحتاج كشف المراد منه بذل مجهود عقلي لتحديد المعنى الحقيقي المستتر خلف معناه الظاهر.
فالجريمة قائمة ولو استعمل الجاني أسلوب التورية او التلميح او انه افرغ عباراته بصيغة استفهامية او افتراضية.
ويتحقق النشاط الإجرامي ولو كان الإسناد عن طريق الإجابة عن سؤال بـ (نعم) او (لا)، فلو سأل مقدم برامج شخصاً في مقابلة في إحدى وسائل الإعلام ، هل تعتقد ان فلان مرتشي؟ فأجابه بنعم . فان كلا من مقدم البرنامج وضيفه قد ارتكب جريمة القذف، الاول عن طريق الافتراض والثاني عن طريق التأكيد.
وانه سأله عن طريق القول، ان فلان معروف عنه النزاهة في العمل، فأجابه بالنفي صراحة او إشارة ، فان الضيف مسؤول عن جريمة قذف.(8)
2ـ تحديد الواقعة: وواقعة القذف يجب ان تكون محددة، والتحديد هو ما يميز جريمة القذف عن جريمة السب الأخف من حيث العقوبة، لان من الشروط الطبيعية للواقعة محل الإثبات حسب القواعد العامة في قانون الإثبات ان تكون الواقعة محددة (9) وهذا ما هو مطلوب في جريمة قذف موظف عام في حين لا يسمح بالإثبات في جريمة السب للاستحالة القانونية لان القانون لا يشترط في واقعته التحديد.
ومن جانب اخر فان تحديد فكرة الواقعة يقتضي التمييز بينها وبين الحكم القيمي كحد فاصل بين القذف والسب، فمن يسند إلى غيره واقعة محددة كسرقة دار معينة او تزوير مستند معين فانه يرتكب قذفاً ، ولكن من يحكم من باب الرأي والاستنتاج بان فلان سارق او مزور دون ان يسند ذلك الى واقعة محددة او القول انه يتوقع ان فلان سيصبح سارقاً في المستقبل فانه يرتكب جريمة سب وان يكن قد استخلص هذا الرأي من واقعة يعلمها ولكنه لم يصرح بها، لاستحالة إثبات الاستنتاجات في الغالب .
وللواقعة المحددة صورتين حددهما القانون، هما:
ـ الواقعة المستوجبة للعقاب: ويقصد بها إسناد واقعة محددة الى شخص لو صحت لاعتبرت جريمة أوجبت عقوبته، فمن يسند الى شخص وقائع محددة، قولاً او كتابة، بأنه سرق او زور محرر او اختلس مالاً عاماً او استلم رشوة للقيام بعمل او الامتناع عن عمل يدخل في اختصاص وظيفته فانه يرتكب جريمة قذف على اعتبار انه فيما لو كان ذلك صحيحاً يؤدي الى عقابه قانوناً. والمعيار في هذا المقام معيار موضوعي لأنه لا يتعلق بحالات شخصية او اجتماعية، وانما هو مستمد من القانون العقابي.
ـ الواقعة المستوجبة للاحتقار: ويقصد بها إسناد واقعة محددة الى شخص من شأنها ان تقلل من الاحترام الذي يحق للمجني عليه ان يتمتع به في المجتمع، وهي تكون كذلك اذا كانت تخالف الأخلاق الاجتماعية او الأعراف العامة او تثير النفور لدى المجتمع، ومثل هذه الأمور هي نسبية تختلف من مجتمع الى أخر ومن زمن الى أخر في ذات المجتمع ، فوصف شخص في المجتمعات الغربية بأنه يتهرب من دفع الضرائب تعتبر وصمة عار على الشخص تستوجب احتقاره ، بينما لا تعتبر كذلك ولا تثير الاحتقار في مجتمعات أخرى، بينما القول ان الشخص يتردد على الحانات والملاهي يعتبر امراً طبيعيا في بعض المجتمعات وعاراً في مجتمعات أخرى.
ويدخل في مفهوم الإسناد الرواية عن الغير او ترديد إشاعات او نقل خبر عن صحيفة ولو أتيح للمجني عليه حق الرد، وجاء في حكم لمحكمة النقض في مصر على انه (متى كانت العبارات المنشورة دالة على ان الناشر إنما رمى بها إلى إسناد وقائع مهينة إلى المدعية بالحقوق المدنية هي انها تشتغل بالجاسوسية لمأرب خاصة وتتصل بخائن يستغل زوجته الحسناء وانه كان لها اتصال غير شريف بآخرين فان إيراد تلك العبارات بما اشتملت عليه من وقائع مقذعة يتضمن بذاته الدليل على توافر القصد الجنائي ولا يعفي المتهم ان تكون هذه العبارات منقولة عن صحيفة أجنبية وانه ترك المجني عليها تكذب ما ورد فيها من وقائع او تصححها فان الإسناد في القذف يتحقق ولو بصيغة تشكيكية متى كان من شأنها ان تلقي في الأذهان عقيدة او ظنا او احتمالا في صحة الأمور المدعاة).
وتقدير ذلك يدخل في نطاق السلطة التقديرية لقاضي الموضوع ليرى ان كانت نسبة الواقعة للمجني عليه قد قللت من احترام الشخص بين أبناء وطنه أم لا.
والمعيار في هذا المقام، معيار ذاتي يتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة،وهذه مختلفة من بيئة الى أخرى حتى في الوسط الاجتماعي العام.(10)
ـ تحديد المجني عليه: يستفاد من التعريف الوارد المادة (433) عقوبات ان القذف يجب ان يوجه الى شخص معين بالذات، بحيث يتمكن من يسمع القذف مباشرة او من خلال وسائل الإعلام او النشر من تحديد شخصيته سواء ذكر اسم المجني عليه صراحة او استخدم القاذف رموز او صور او إشارات يمكن ان تدلل عليه ولو من قبل المجتمع او البيئة التي يعيش او يعمل فيها دون عناء او شك، أما إذا لم يكن تحديد شخص المجني عليه ممكناً بالطريقة التي ذكرناها فلا تعد الجريمة متحققة.
ذلك ان محل الحماية القانونية في هذه المادة هو الحق في الشرف الذي انتهكه القذف، باعتباره جزء من حقوق الشخصية.ويترتب على ذلك ان بعض الوقائع لا تعتبر قذفاً فإن انتقد شخص ولو بقسوة مذهباً سياسياَ او اقتصادياً او مدرسة فنية او رأياً علمياً مما يدخل في استعمال حرية التعبير فلا يعد ذلك قذفاً ولو كان لتلك المدارس والاتجاهات الفكرية مؤسسون وأنصار معروفون وذكرهم بالاسم، ولكنه يرتكب جريمة القذف إذا نسب الى أشخاص معينين بالذات من تلك الاتجاهات افعالاً تستوجب العقاب او الاحتقار.(11)
صفة المقذوف: إذا كان المقذوف مواطناً من عامة أبناء الشعب فلا يقبل من القاذف إثبات صحة ما أسنده الى المجني عليه وتتحقق الجريمة إذا توافرت أركانها الأخرى.
أسباب الإباحة: اما اذا كان المقذوف موظفا عاما او مكلفا بخدمة عامة أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو كان يتولى عملاً يتعلق بمصالح الجمهور وكان ما أسنده القاذف متصلاً بوظيفة المقذوف أو عمله فإذا أقام الدليل على كل ما أسنده انتفت الجريمة.
ـ القذف الموجه لشخص معنوي وسائر تجمعات الاشخاص: ، رغم ان للشخص المعنوي شخصية وكيان مستقل عن شخصية مؤسسيه وله الحق في السمعة والاعتبار، إلا ان هناك إشكالية في هذا المقام ،وتتجسد هذه الإشكالية في التوفيق بين حماية اعتبار الشخص المعنوي، ، وبين إتاحة الحق للمواطنين والباحثين من مختلف الاختصاصات العلية والفنية في نقد اداء هذه المؤسسات خاصة العامة منها باعتبار ان ملكيتها عامة وان من حق أبناء الشعب توجيه النقد إلى ادائها بهدف تقويمه وتصحيح مساره حماية للمال العام من الهدر والفساد. ويبدو ان التدخل التشريعي في هذا المقام امراً ضرورياً لحماية القيم الدستورية المتعلقة بحرية الرأي وما يتفرع عنها من حقوق ومنها حق النقد. كالنص على انه ( لا يعد قذفاً توجيه النقد إلى الاشخاص المعنوية العامة إذا كان لأغراض البحث العلمي او لتحقيق مصلحة عامة وتم ذلك بحسن نية).
ـ القانون يحمي الاعتبار المهني ولكنه لا يحمي المجد المهني: وهذا ما يذهب إليه اغلب الفقه القانوني، ومفاد ذلك ان من يناقش مستوى اداء شخص معين مقارنة بغيره او بمستوى اداء الآخرين بصورة عامة لا يعد قذفاً بل ممارسة لحق النقد وما تتطلبه الإجابة عن السؤال من أمانة، فلو سأل شخص اخر ولو علانية عن اداء شخص او فنان او طبيب،فأجاب مسلماً للشخص بأهليته في ممارستها ولكنه يناقش مستوى أدائه فيذكر انه متوسط او ضعيف او يقارن بينه وبن زملائه في ذات المهنة ويقرر انه اقل منهم، فانه لا يرتكب قذفاً وانما ممارسة لحق النقد، وتقدير ذلك يعود لقاضي الموضوع حسب ظروف كل واقعة. (12)
3ـ علانية الإسناد: لا يقوم القذف إلا إذا كان إسناد الواقعة إلى المجني عليه إسنادا علنياً في مكان عام بحيث يمكن سماعه من الجمهور المتواجد في هذا المكان ،والإسناد العلني يتحقق ايضاً بإحدى وسائل العلانية المرئية والمسموعة والمقروءة.
وتذهب محكمة النقض في مصر بهذا الصدد الى انه: ( لا يكفي ان تكون العبارات المتضمنة للاهانة او القذف قد قيلت في محل عمومي بل يجب ان يكون ذلك بحيث يستطيع ان يسمعها من يكون في هذا المحل، أما إذا قيل بحيث لا يمكن ان يسمعها إلا من ألقيت إليه فلا علانية).(13)
ويقصد بالمكان العام ، هو المكان الذي يحق للجمهور ارتياده، سواء على وجه دائم او في أوقات محددة، سواء كان ارتياده بدون قيد او شرط او كان بقيود وشروط محددة.
أما اذا كان المكان خاصاً ولو توفر فيه عدد كبير من الاشخاص تربطهم صلة سابقة كاجتماع للأقارب او حفلة عرس خاصة او اجتماع مجلس إدارة شركة او ناد للمشتركين فلا يعد مكاناً عاما ولا تتوفر العلانية المقصودة بالنص . (14)
القذف بغير علانية:
نصت المادة (435) عقوبات عراقي على انه: ( إذا وقع القذف في مواجهة المجني عليه من غير علانية او في حديث تليفوني معه او في مكتوب بعث به إليه او ابلغه ذلك بواسطة أخرى فتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين دينارا او بإحدى هاتين العقوبتين).
ولا يشترط صدور عبارات القذف في حضور المجني عليه، وعلة ذلك ان المشرع لم يستهدف بالعقاب على القذف حماية شعور المجني عليه من ان تجرحه عبارات القذف وإنما هدف إلى حماية مكانته الاجتماعية وشرفه واعتباره الشخصي. (15)
ب ـ الركن المعنوي في القذف(القصد الجنائي): ان خطورة المجرم على المجتمع وتحديد مدى العقوبة التي يستحقها تكون على أساس الركن المعنوي للجريمة بصورتيه العمدية والخطأية لا على مجرد الأعمال المادية للجريمة، فالسلوك الإجرامي الذي يقود الى نتيجة واحدة تختلف عقوبته حسب ما اذا كان عمداً او خطئاً، فعقوبة القتل العمد قد تصل الى الاعدام بينما قد تكون عقوبة القتل الخطأ هي الحبس.
ان جريمة القذف من الجرائم العمدية التي لا تتحق بطريق الخطأ ، أي انها لا تقوم الا بتوافر عناصر القصد الجنائي وهما العلم والإرادة ، أي ان يكون الفاعل عالماً ان الواقعة التي تسبب بحدوثها بسلوكه تشكل جريمة قذف وان إرادته متجهة لاقترافها بالشروط التي نص عليها القانون لتوافرها.
وفي جريمة القذف فان الواقعة المسندة الى المجني عليه تكون أحدى تكييفين، اما انها تستوجب عقابه او انها تستوجب احتقاره، ويعتبر التكييف بحد ذاته احد أركان الجريمة وحسب القواعد العامة في القصد يجب ان يعلم المتهم انه يرتكب جريمة قذف، والعلم المطلوب هو العلم الفعلي ولا تكفي استطاعة العلم او افتراض العلم، فإذا ثبت ان المتهم كان يعتقد ان الواقعة لا تستوجب عقاباً او احتقاراً، فأن القصد لا يعد متوافر لديه، ويتصور ذلك اذا كان للعبارة التي تستوجب العقاب دلالة اصطلاحية غير معروفة في موطنه او ان لها دلالة عرفية محقرة في بيئة المجني عليه، ولكن المتهم يجهلها لانه لا ينتمي الى هذه البيئة، من ذلك ان المناداة على شاب بعبارة ( يا ولد ) مسألة طبيعية في العراق الا انها غير مقبولة اطلاقاً في مصر.
والعلم بتكييف بالواقعة او بتكييفها غير العلم بالقانون لان الجهل بالقانون ليس بحجة، فمن استولى على مال يعتقد انه له ثم تبين انه لغيره لا يعد سارقا لعدم علمه انه يرتكب جريمة سرقة ولم تتجه إرادته لذلك كما لو اخذ شخص حقيبة تشبه حقيبته في مطار ثم تبين انها لغيره، ولا تقوم جريمة قذف او سب اذا كان الفاعل لا يعلم ان العبارات التي أطلقها تشكل قذفاً او سباً ولا تقوم جريمة قذف او سب موظف العام اذا كان الفاعل لا يعلم ان المجني عليه موظف.
والقول ان بأن العلم بالواقعة بانها تستوجب العقاب لا يتطلب من الشخص العادي التبحر في علم القانون ليسأل عن قذف وانما يكفي العلم بان الواقعة تنطوي على مساس بحقوق أساسية للأفراد لا يتصور شخص معتاد ان القانون يتركها دون عقاب، والقول ان العلم بان الواقعة تستوجب الاحتقار يكون بالنظر الى القيم السائدة المعلومة للشخص المعتاد الذي ينتمي الى هذه البيئة.
وعليه لا تتحقق هاتين الجريمتين عن طريق الخطأ،ومفاد ذلك ان الخطأ غير العمدي ولو كان جسيماً لا يؤدي الى قيام هاتين الجريمتين، فمن اسند الى غيره واقعة محقرة جاهلاً دلالتها لا يسأل عن قذف، ولا يسأل عن قذف كذلك من دون في مذكرة خاصة عبارة قذف فاطلع عليها بإهماله شخص وقام بنشرها علانية،وانما يسال عن ذلك من قام بالنشر عند توفر جميع أركان الجريمة.
اثبات القصد الجنائي: بما ان القصد الجنائي ركن من اركان الجريمة، فان محكمة الموضوع تلتزم اذا ادانت المتهم بان تثبت توافر القصد لديه، ومفاد ذلك ان القصد الجنائي ركن في القذف وركن في العلانية، والمحكمة تلتزم بإثبات جميع اركان الجريمة، الا انه حين تكون عبارات القذف فاحشة في ذاتها فانه يفترض توافر القصد الجنائي ولكن هذا الافتراض قابل لإثبات العكس كأن يثبت المتهم انه أراد بعباراته معناً عرفياً سائداً ومتداولاً لا معناها اللغوي في هذه الحالة يجب اثبات الوقائع المتصلة بهذا المعنى العرفي.
اما اذا كانت عبارات القذف غير فاحشة فلا محل لافتراض توفر القصد الجنائي، ومثال ذلك افراغ عبارات القذف في عبارات من المديح او المجاز اللغوي او الاستعارة، فان عبأ اثبات ان المدح او العبارات المجازية كانت بقصد القذف يقع على عاتق سلطة التحقيق والمجني عليه.
وخلاصة القول انه لتحقق جريمة القذف ان تتوفر جميع اركان الجريمة بجميع عناصرها ، فان تخلف ركن او عنصر من العناصر انتفت الجريمة لعدم توافر شرائطها القانونية.(16)
ان الركن المعنوي هو اهم معيار من بين عدة معايير للتمييز بين جريمة القذف ممارسة حق النقد كما سنلاحظ لاحقاً.ً
الفرع الثاني
مشروعية حق النقد
لا يعتبر قانون العقوبات العراقي ممارسة حق النقد وحرية التعبير جريمة، لان القاعدة وفقاً لمبدأ الشرعية ان لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، فلا عقوبة على فعل او سلوك لم ينص القانون على تجريمه، الا ان الإشكالية تتجسد في كثير من الأحيان في صعوبة التمييز بين الفعل المباح وهو ممارسة حرية التعبير وحق النقد وبين ارتكاب جريمة القذف او السب، خاصة والملاحظ ان بعض المحاكم تدخل في موضوع البحث عن اركان الجريمة وما يتطلبه ذلك من إلقاء عبأ الإثبات على عاتق المتهم في الأحوال التي ينص فيها القانون على ذلك قبل تكييف الفعل فيما اذا كان فعلاً مباحاً وممارسة لحرية التعبير وحق النقد ام انه يشكل جريمة من خلال المقارنة بين اركان الجريمة وأركان الفعل المباح وخاصة الركن المعنوي ، مما يتطلب إيجاد معايير للتمييز بينهما حتى لا تكون الخشية من إقامة الدعوى وإجراءاتها الطويلة او احتمالية التجريم عائقاً أمام ممارسة أهم الحقوق الدستورية.
في الواقع ان معيار التمييز بين القذف والسب وممارسة حرية التعبير هو من أعمال الفقه القانوني والقضاء لا من أعمال المشرع، لان المشرع وخاصة في ظل النظام القانوني اللاتيني لا يغوص في تفاصيل فروض القاعدة القانونية وهذا من مقتضيات التجريد كخصيصة من خصائص القاعدة القانونية (17) ولا يضع تعريفات إلا ما ندر، بل تعتبر وضع التعريفات احيانا من العيوب التشريعية،خاصة إذا كانت هناك حركة فقهية نشطة باعتبار ان ترك هذه الأمور للفقه والقضاء من عوامل تطوير القانون ومواكبته للوقائع المستجدة في حياة المجتمع وعلى هذا النحو نصت المادة (5) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 على انه ( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )، ولا ينكر هذا التغيير في ظل القيم التي جاء بها دستور جمهورية العراق لسنة 2005 مما يتطلب إيجاد قوانين وابتداع أحكام واجتهادات فقهية وقضائية في مستوى ذلك الحدث القانوني والسياسي والاقتصادي المهم في حياة العراقيين.
فالمشرع في مثل هذا النظام قد يحدد عقوبة للقتل مثلاً ولكنه لا يعرف هذه الجريمة او لا يعدد أركان تحققها ولا يضع معيارا للتمييز بين القتل العمد والقتل الخطأ والضرب المفضي إلى موت وإنما يترك هذه الأمور للفقه وشراح القانون.
ومع ذلك قد يرى المشرع ان هناك ضرورة لتبني اتجاه فقهي معين في التعريف ويضمنه في تشريعه عندما يرى ان دواعي امن واستقرار المعاملات امراً مطلوبا في مجال معين من العلاقات الاجتماعية.
وقد عرف مشرعنا في طار نصوص قانون العقوبات كلا من جريمتي القذف والسب في المواد (433 ، 434 ) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، إلا انه لم يضع معيارا للتمييز بين هاتين الجريمتين وبين ممارسة حرية التعبير وحق النقد وهو أمر ضروري في ظل توقف الحركة الفقهية في العراق او شبه توقفها، وربما كان ذلك امراً مقصوداً في ظل أنظمة دكتاتورية متعاقبة ترى في أمر إتاحة حرية التعبير وممارسة حق النقد تهديدا لوجودها غير الشرعي اصلاً، فهي اذا مهمة الفقه والقضاء في هذا المقام.
فلو دفع المدعى عليه أثناء نظر دعوى القذف او السب بأنه مارس حرية التعبير التي كفلها الدستور ولم يقصد الإساءة الشخصية، فان القاضي ملزم قانونا بالفصل في هذا الدفع وليس له ان يحتج بعدم وجود نص يعالج هذه الواقعة وهكذا قيل انه لا يجوز للقاضي ان يرد الدعوى بحجة عدم وجود نص لأنه في هذه الحالة يعتبر منكرا للعدالة (18)، حيث نصت المادة (30) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل على انه ( لا يجوز لأية محكمة ان تمتنع عن الحكم بحجة غموض القانون او فقدان النص او نقصه وإلا عد القاضي ممتنعاً عن إحقاق الحق ، ويعد أيضا التأخر غير المشروع عن إصدار الحكم امتناعاً عن إحقاق الحق ).
ومن جانب أخر إذا تعارضت أحكام الدستور مع أحكام القوانين فان الدستور هو الذي يقدم عند التعارض لان الدستور هو الذي يعطي الشرعية للقوانين والسلطات او يمنعها عنها، ويزال التعارض بعدة أساليب منها إقامة دعوى الغاء القانون المخالف للدستور او تفسير القانون المتعارض تفسيرا يتلاءم مع الدستور القائم اذا كان ذلك ممكناً، ويكون ذلك ممكناً اذا لم تكن نصوص القانون قد جاءت مفصلة ومتوسعة في التعريفات والأركان ومعايير التطبيق، بما ان نصوص قانون العقوبات العراقي قد جاءت خالية من معايير للتمييز بين جريمتي القذف والسب من جانب وممارسة حق التعبير وحق النقد من جانب أخر فان تفسير هذه النصوص تفسيرا يتوافق مع الدستور امرا ممكنا.ً
ورغم وجود نصوص صريحة في قانون العقوبات المصري تعاقب على جرائم القذف والسب ونشر الاخبار الكاذبة مع عدم وجود تحديد واضح للتمييز بينهما وبين ممارسة حرية التعبير فقد استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا على تبني معايير للتمييز بينهما تطبيقاً واحتراما للنصوص الدستورية التي تقرر هذه الحقوق، ونأمل من قضائنا ان يسير على هذا النهج في ظل أوضاع دستورية تفوق ما هو متوفر للغير خاصة في نطاق الحريات العامة.
الفرع الثالث
أركان وشروط حق النقد
قضت محكمة النقض في مصر بأنه ( للصحافة الحرية في نقد التصرفات الحكومية وإظهار قرائها على ما يقع من الخطأ في سير المضطلعين بأعباء الأمر وإبداء رأيها في كل ما يلابس الأحوال العامة) (19)
ولم يشر القرار إلى نص معين وإنما هو مستفاد من النصوص الدستورية التي تبيح حرية التعبير والمعتقد ومنها حق نقد كل ما يتعلق بالصالح العام.
ولم ترد شروط حق النقد لا في القانون العراقي ولا في القانون المصري، اذ انه مستمد من اعتراف الدستور بالحريات العامة مادام انه لم يقيدها بقيد سوى قيد عدم مخالفة النظام العام والآداب العامة، والمطلق يؤخذ على إطلاقه ما لم يرد دليل التقيد صراحة او ضمنا. وضمن حدود القيد.
إلا ان هذه الشروط يمكن استخلاصها من القواعد المتعلقة بالنظام العام او الآداب العامة او من العرف او من قواعد العدالة لانها متعلقة بأسباب الإباحة لا بالتجريم و يلاحظ ان خلق جريمة او عقوبة يستند الى مصدر واحد هو التشريع حصراً، اما قواعد التفسير وتفسير أسباب الإباحة فيمكن للقاضي ان يستخلصها من مصادر متعددة، وللقاضي ان يلجأ في هذا المقام الى جميع وسائل التفسير وطرقه بدون استثناء ومنها اللجوء الى القياس.(20)
ويستخلص الفقه لاعتبار حق النقد سبب من أسباب الإباحة ايا كانت صفة من وجه اليه الانتقاد ، الشروط التالية :
1ـ ان ينال النقد أعمال وتصرفات الاشخاص العامة لا شرفهم واعتبارهم الشخصي:
ويذهب اغلب فقهاء القانون الى ان الحد الفاصل بين ممارسة حق النقد والقذف يتجسد في التفرقة بين توجيه اللوم او العبارات القاسية الى شرف واعتبار الشخص المُنتقد ذاته وبين توجيهها الى عمله وتصرفاته او الى شخصه دون المساس بشرفه واعتباره ،وهذه التفرقة هي التي تجد عندها الحد الفاصل بين دائرة النقد الذي يعد ممارسة للحرية العلمية والأدبية والثقافية ودائرة السلوك الذي يعد قذفاً او سباً.
فإذا تناول النقد عملاً او خطة او إجراءات حكومية او مذهباً سياسياً او بحثاً علميا أو عملاً أدبيا او فنيا، وحدد قيمته، وكان منصباً على الأعمال والإجراءات والأفكار التي قامت او جاءت بها من حيث كشف عيوبها وتفضيل غيرها عليها دون ان يمس ذلك اعتبار او شرف الاشخاص العاملين او القائلين او المؤمنين بها ولو ذكر أسمائهم فان أركان القذف لا تعد متوفرة.
ويورد الفقه أمثلة على ذلك النقد كالقول ان أداء الوزير الفلاني ضعيف او انه لم يكن بالمستوى المتوقع منه عند توزيره أو انه مسئول عن أرواح الضحايا أو أن وزارته فاسدة ويجب أقالته..... طالما أن الغرض منه إبراز وتوضيح هذه التصرفات للجمهور وبشكل يستطيع أن يفهمها ويدرك أبعادها وحقيقتها، فلا تعد جرائم ويترك الأمر لسلطة المحكمة التقديرية حسب ظروف وملابسات كل الدعوى. (21)
أما اذا كان النقد منصب على وقائع تعد لو كانت صحيحة جرائم وفقاً للقانون النافذ فيجب التحرز من ذكر الأسماء لأنها قد تعد قذفاً عند توفر أركانه الأخرى.
فاذا انتقد محلل سياسي او صحفي انتشار الرشوة او الإهمال او عدم الكفاءة في وزارة معينة دون ذكر الأسماء او عدم ذكره لواقعة محددة يمكن للجمهور معرفة أسماء القائمين بها مباشرة فلا يعد ذلك قذفاً او سباً، حتى لو كان الذي أوحى الى الناقد برأيه واقعة معينة صدرت من شخص معين طالما لم يحدد اسمه او لم يجعل تحديد اسمه من قبل الجمهور ممكناً دون عناء،وفي مثل هذه الأحوال. (22)
2ـ صحة الواقعة او الاعتقاد بصحتها:
يفترض في الناقد والمحلل السياسي او الأدبي انه يستهدف المصلحة العامة والتطور الاجتماعي وتقويم الأداء العام والخاص، لا يتحقق ذلك بالغش والخداع وتزييف الحقائق، فالناقد المحايد هو الذي يعرض الوقائع بحسب ما برزت في العالم الخارجي وبظروفها او ملابساتها المحيطة بها.
ومن جانب آخر وحسب القواعد العامة في القصد الجنائي، فانه يكفي الاعتقاد بصحة الواقعة، حتى لو تبين فيما بعد انها غير صحيحة، الا انه يجب في هذه الحالة ان يكون الاعتقاد مبني على أسباب ومبررات معقولة وكان هذا الاعتقاد مستندا الى التحري الواجب على من كان في مثل ظروفه ، فيستفيد من الإباحة، ومن أمثلة ذلك انه استند في تعليقه على الواقعة الى ما نشرته وسائل الإعلام من اخبار عن الواقعة محل النقد ولم يصدر تكذيب بشأنها بعد، او ان الواقعة كانت مشهورة ومعلومة لدى الجمهور، وسند ذلك انه لا يمكن ان يطلب من باحث ان يضمن بصورة مطلقة صحة ما يذكر او صواب رأيه في كل الأحوال، لان ذلك غير ممكن في الحياة العملية في كل الأحوال فقد يكون من العسير او من المستحيل على الباحث في مجال اختصاصه ان يبدي رأياً لا يكون محل نقاش قط، فيكفي انه بذل ما في وسعه لتحري الحقيقة وادى واجبه تجاه المجتمع مما يستحق معه إباحة فعله، ولا تنتفي الإباحة اذا ثبت فيما بد عدم صحة الواقعة او عدم سداد الرأي كما سبق البيان، فأساس الإباحة هو الاجتهاد في خدمة المجتمع وهو ما ثبت تحققه. وهذا الأساس للاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ معترف به ومحمي من الشريعة الإسلامية الغراء، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قال: ( من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله اجر)، ومن هذه الروح الإسلامية الخالدة التي شرعت أبواب العلم والاجتهاد ينطلق القاضي لتقدير قيمة الاجتهاد في النقد.(23)
3ـ ان تكون للواقعة محل النقد والدراسة أهمية اجتماعية:
للنقد أهمية اجتماعية وهذه هي علة أباحته ، وهو لا يكون كذلك الا اذا تناول اموراً تهم ابناء المجتمع ويعرفون قيمتها وأبعادها، ولا يستفيد المجتمع شيئاً اذا تناول الناقد الحياة الخاصة للآخرين بل ان ذلك قد يشكل اعتداء على الحياة الخاصة للأفراد باعتبارها حق من حقوق الإنسان.
ولا يشترط في أهمية الواقعة انها متصلة مباشرة بحدث سياسي او اقتصادي قائم وقت النقد، وانما يكفي انها موجهة لعدد غير محدد من الناس بقصد تحقيق فائدة او مصلحة لهم.
ومن الأمثلة الفقهية على ذلك تناول أعمال أصحاب المهن التي تتصل أعمالهم بمصالح الجمهور كالأطباء والمحامين والمهندسين والتجار وكل من يحمل صفة اجتماعية عامة بالنقد، ومن ذلك القول في معرض النقد ان الباحث الفلاني لم يتبع المنهج العلمي في البحث او انه لم يعتمد على مصادر موثوقة، او القول ان الطبيب او المحامي الفلاني يغالي في أجوره او انه يعامل زبائنه بطريقة غير لائقة، وكذلك الحال عند نقد إعمال وتصرفات وأقوال وأداء وآراء الشخصيات التي تعمل بالسياسة، فهذا النقد مفيد للمجتمع كما ان حق الرد عليه متاح.(24)
4ـ عدم التعسف في استعمال حق النقد:
لا يجوز التعسف في استعمال حق النقد ولا الخروج عن حدود مقتضياته، فينبغي ان يلتزم الناقد بحدود النظام العام والآداب العامة، لان النقد من أعمال الثقافة والتحضر لا وسيلة للهجوم والانتقام من الآخرين، ولا يبيح حق النقد استعمال عبارات اقسى مما تتطلبه مقتضيات تحليل الواقعة وتقيم اداء المنتقد، ويفهم من أحكام محكمة النقض في مصر ان معيار ملائمة العبارة هو ثبوت ضرورتها لتعبير المتهم بحيث لو انه لو كان قد استعمل عبارات اقل عنفاً لم تكن فكرته لتحضى بالوضوح الكافي،أو ان رأيه لن يكون له التأثير الذي يهدف اليه، ومن عناصر الملائمة ثبوت التناسب بين العبارة من حيث شدتها او قسوتها وبين الواقعة و موضوع النقد من حيث أهميتها الاجتماعية.
وقاضي الموضوع هو المختص بتقدير ملائمة العبارة، الا انه لا يجوز للقاضي ان يضع في هذا المقام قاعدة عامة مؤداها ان تكون العبارة رقيقة هادئة، ففي حالات كثيرة يقتضي المقام استعمال عبارات قاسية، فإن ثبت ذلك فلا يكون الناقد قد تعسف في استعمال حقه.(25)
5ـ توافر حسن نية الناقد:
يستفاد هذا الشرط من القواعد العامة للإباحة، وحسن النية مفترض لان الأصل في الإنسان حسن النية، وعلى من يدعي خلاف هذا الأصل ان يثبت ذلك. وأساس حسن النية ان يعتقد الناقد بصحة الواقعة التي يسندها الى من وجه اليه الانتقاد وان يكون هدفه من النقد تحقيق المصلحة العامة لا مجرد التشهير أو التجريح، ومن أهم القرائن على سوء النية وتحقق نية القذف استعمال عبارات قاسية من غير مقتض وعدم تناسبها مع الغاية التي يستهدفها بنقده، ولا يشترط استخلاص سوء النية من عبارات المقال او البحث ذاته، فيمكن استخلاص من مصادر اخرى كحصول تهديد من الصحفي و الباحث للمجني عليه قبل نشر المقال ومطالبته بمبلغ من المال لقاء عدم نشره.
ومن جانب اخر للناقد أن يتمسك أمام محكمة الموضوع بالدفع بتوافر حسن النية في ما قرره من عبارات نقد وان يوجه أدلة الإثبات وان ينفيها وان يدلل على حسن نيته بكافة طرق الإثبات.(26)
الفرع الرابع
تطبيقات قضائية في التمييز بين القذف وحق النقد
جاء في حيثيات احد أحكام المحكمة الدستورية العليا في مصر على أن:
(... (حرص) الدستور على أن يفرض على السلطتين التشريعية والتنفيذية من القيود ما ارتآه كفيلا بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها كي لا تقتحم أحدها المنطقة التي يحميها الحق أو الحرية أو تتداخل معها بما يحول دون ممارستها بطريقة فعالة، ولقد كان تطوير هذه الحقوق والحريات وإنمائها من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة، مطلبا أساسيا توكيدا لقيمتها الاجتماعية، وتقديرا لدورها في مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها ولردع كل محاولة للعدوان عليها. وفى هذا الإطار تزايد الاهتمام بالشئون العامة في مجالاتها المختلفة، وغدا عرض الآراء المتصلة بأوضاعها، وانتقاد أعمال القائمين عليها مشمولا بالحماية الدستورية تغليبا لحقيقة أن الشؤون العامة، وقواعد تنظيمها وطريقة إدارتها، ووسائل النهوض بها، وثيقة الصلة بالمصالح المباشرة للجماعة، وهى تؤثر بالضرورة في تقدمها، وقد تنتكس بأهدافها القومية متراجعة بطموحاتها إلى الوراء، وتعين بالتالي أن يكون انتقاد العمل العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل