حقيقة 14 تموز إنقلاب وليس ثورة وعبدالكريم الدكتاتور الأول
وجّـه موقع ( الناس ) مجموعة من الأسـئلة للسـيد جميـل روفائيـل بمناسـبة حلـول الذكرى السـنوية لحـدث 14 تموز 1958 ، وفيـما يلـي النص الكامـل للأسـئلة وأجـوبة السـيد جميـل روفائيـل بخصـوص رأيـه متوخيـا الأمانـة التـأريخيـة الصريحـة والواضحـة والواقعيـة في شـأن هـذه القضـية . .1. كثرت التسميات لثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، فمنهم من سماها ( ثورة) ومنهم من سماها (إنقلاب) ومنهم من سماها (إنقلاب ثوري)... الخ من التسميات، فكيف تنعتون هذا الحدث؟ ولماذا؟
جـواب :
ــــ الثـورة ، تـتطلب تغيـيرا في الأوضـاع السـياسية والإجتماعيـة تغيـيرا أسـاسيا ويتـولى الشـعب ذلـك في كل مراحله ، أمـا الإنقـلاب فهـو تغيـير مفاجئ في نظـام الحكم يقـوم بـه في العادة بعض رجال الجيش من خلال الإسـتيلاء على السـلطة . . ونحـن الذين عايشـنا حال ما حصـل حيث كنّـا شـبابا في حيـنه ، تصـورنا الحـدث ثـورة نتيجة وجـود الزخم الشعبي مع العسـكريين الذين قامـوا بـه ، لكـن بعـدما اسـتـتب الأمر لفصيل من العسـكريين القائمين بالحـدث بزعامة عبدالكريم قاسـم وجدنـا أن هـؤلاء الذين كانوا قسـما من قادتها وتوافر لهـم المجال بعد تصفيات معارضيهم أن يصبحوا كـل القادة لوحدهم ، لجـأوا إلى إزاحـة أصحاب المبادئ الثورية الداعـمين لهم ووضعـوا في محلهم الوجوه التي كانـت المسيرة للأوضاع سـابقا أو مـن الذيـن تشـبهوا بـهم في سـلوكهم ، وأصبحت الحال في حقيقـتها لاتـتجاور إحلال كلمة الجمهورية مكان الملكية وأسم عبدالكريم قاسم مكان اسم نوري السـعيد . .
وتصاعدت الفوضى بتواطؤ مع المهـيمنـين على السـلطات بصـور لم تكـن معـروفة سـابقا وصـار الذين تآمروا وواصلوا التآمر أحـرارا ، وغصت المعتقـلات بالمناضلين مـن الـنوع نفسـه الذي كان سـابقا في العـهد الملكـي فيـها ، ولوحقـت وسائل الإعلام الوطنية ومنحـت الإجازات والعطاءات لأحزاب وهميـة أعتبرت بديلة للأحزاب الوطنية الحقيقة وهكذا دواليك . . وحتى ما تضمنه البيان الأول لحـدث 14 تمـوز من ديموقراطية وحرية وحياة حزبية وانتخابات نيابية وفتـرة انتـقالية ظلت حبـرا على ورق البيان الأول . .
نعـم صـدرت قرارات ثورية منهـا نقدية ونفطية وإصلاحية زراعية وحقوقية للمرأة . . أثنـاء زخم الحال بفضل وجود وطنيـين مناضلين ، ولكن بعد إزاحة هؤلاء الوطنيين صـار تطبيق تلك القرارات مبتـورا . . أما الزعيم الأوحد الآمـر الناهي فقـد ظل في عرينه لايرى ولايسـمع وعزاؤه التـشـبث بـدم قميصه الذي كان يرتـديه حيـن محاولـة إغتـياله والذي صـار ذريعة لـه كلما أراد التهـرب من مطلب . . فهـل هـذا يمكن أن يكون ثـورة ؟ بالتأكيد لا إلاّ إذا أردنا الإنتـقائية وإضـفاء الصـفات على هـوانا . . إنـه في الحقيقة إنقـلاب لاغيـر .
2. يرجع عدد غير قليل من الكتاب والباحثين ما عاشه العراق من إضطراب سياسي، ومن دكتاتوريات متعاقبة، ويلقون تبعات كل ذلك على ثورة الرابع عشر من تموز. ما هو تقييمكم لهذه الرؤى؟ وما هو رأيكم هذا الموضوع ؟
جـواب :
ــــ وأنـا صـرت أرى ذلك بعد عـام من الحـدث ، ولكي نضع النقـاط على الحـروف ، أرى أن كل ما عاشـه العراق من إضطراب سياسي ومن فوضى وقتـل وإعدامات وامتـلاء السجون والملاعب والمدارس والمستوصفات بالمعتـقلين السياسيين وتعاقب الدكتاتوريات وكبت للحريات والحقوق واشـعال الحروب وصولا إلى الحال المأساوية الراهنة سـببه ( قائد ثورة ) الرابع عشر من تموز الزعيم الأوحد ( الدكتاتـور الأول ) عبدالكريم قاسم . .
هـذه حقيقة الأمـر ومـن شـاء تبرئة الجاني في وضح النهـار فهـذا شـأنه ، وأنـا لسـت معـه ، لأن ما عشـته ورأيته وقاسـيته أقـوله بجـلاء ووضوح . . نعـم هنـاك مجرمون ارتكبوا ما حصل ولكن لولا سـلوك عبدالكريم قاسم ونزعتـه الفوقية واسـتبداده برأيـه والفلـتان الـذي تعـمده لمـا ظهـر هؤلاء المجرمون إلى الوجود . . فالبـادئ أظلـم . . أنـا لسـت حاقـدا على أحـد ، فقـد كـنت أحـد الناس الأكثر تأيـيدا لما حـدث عندما كان ثورة ولكـن من الخطـأ الجسـيم أن أبقى على ما كنت عليه بعدما صار الوضع إنقـلابا على الثورة وعلى خيرة مناضليها ، وعليّ أن أكـون صـريحا ما دمت أكتب مـن خلال الإعـلام للحـق والتأريـخ .
3. هل كانت الثورة ضرورة حتمية أملتها عوامل اجتماعية - اقتصادية وسياسية، ام مغامرة لمجموعة ضباط طامحين للسلطة ، كما يقول البعض ؟
جـواب :
ـــــ قبل 14 تموز 1958 ، كنّـا نرى أن القضاء على النظام الملكي وخيوطه الإقطاعية والعشائرية وارتباطاته الإسـتعمارية ضرورة إجتماعية واقتصادية وسياسية ، كان الحكم على الأمور في ذلك الوقت بالعاطفة لأن الوعي الذي كان سـائدا يسـتبعد تحكيم العقـل الذي كان غائـبا أصلا بسـبب محدودية الإنفـتاح ، فـقـد كنّـا نـرى في جمال عبدالناصر ( وهـو أبـو كل بـلاوي الدول العربيـة ) بطلا ثـوريا تغيـيـريا يـنبغي الإقـتداء به ، كانـت إذاعـة صوت العرب و ( مهرجها ) أحمد سـعيد ومعها إذاعة العراق الحـر التي كانت تـبث من مصر ودعوات وأشعار مذيعها عدنان الراوي المملوءة عسـلا ودسـما تسـتحوذ على عقولنا ووحدة مصر وسـوريا ( الجمهورية العربية المتحدة ) نبراسا لمستقبل تقـدم البلدان العربية ، أما إتحاد العراق والأردن ( الإتحاد العربي ) فمشروع إستعماري خطيـر . .
ولكن بعـد أسابيع من 14 تموز إنقلبت الحال فصار عبدالناصر الذي كان أول المعترفين بثورة 14 تموز يحـوك المؤامرات ضدها بالإعتماد على كل من هـبّ ودبّ ، أمـا نحن فصارت أغنيتـنا المتـداولة لعبدالناصر ( يا حشاش أش وهدنك والدولار أش غيرك ، يجي يوم نبهدلك . . ) والباقي معلوم حتى جاء ملك المغرب محمد الخامس في زيارة للعراق ( لينصح عبدالكريم قاسم بالإستمرار ملتـزما الطريق الصائب عربيا وقوميا . . فـقبل قاسم النصيحة ووعد الألتـزام بها ولقب ملك المغرب بالملك الشعبي وأهداه سـرب طائرات حربية إكراما لنصيحته ) هذا كله جزء من الحقيقة كما نقلتـه إذاعة بغداد ونشرته الصحف العراقية في ذلك الوقت وأنا أنقل اليوم ما سمعته من الإذاعة وقرأته في الصحف ، والعهدة على الرواة . . وصـار عبدالكريم يـردد ( عـفا اللـه عـما سـلف ) وأصـدر قـرارات بتخفـيف الأحكـام عـن الذيـن نفـذوا محاولـة إغـتياله ورفـع المتآمـرون شـعار ( عـاش قائـد القوميـة العربية الأوحـد عبدالكريم قاسم ) ضـمن أسـاليبهم الخداعـية لتـمرير نواياهـم الشـريرة . .
هكـذا صـارت الحـال بعـدما تصارع ضباط 14 تموز بينهم وصار همهم المنافسـة والإزاحـة وصـفى الجـو لقاسـم ليكـون الزعيم الأوحد الباقي الذي يقـرر لوحده ولا أحد بإمكانـه الحـد من إجراءته مهمـا كان خطؤها كبيرا مثـل ضـرب القـوى الوطنية وتسليم الأمور إلى المتآمرين وغلاة الرجعيين ولايصغي لأحد مهما جعلوا فلتان البلاد سـائـبا وقتـل الناس مباحا ( أتـذكر في الموصـل أن طارق بـن عبدالـه كرموش وكان عمـره بحدود العشـرين سـنة وأعـرفه هـو ووالـده جيـدا ، كان يـتـبجح بأنـه قتـل أكثـر من مائـة شـخص وطنـي ويعـدد أسـماءهم في المقاهـي ولـم يعـتقله أحـد ، وكذلـك حازم الأعـور الذي كان مـن غـلاة القـتلة ، وغيرهما كثيرون يعرفهـم أهـل الموصل مـن جيلنـا ) وفـي المقابـل كان يتم سـجن ذوي الضحايا والوطنيـين . . وكيـف لايحصل كـل هـذا في الموصـل مـادام عبدالكريم قـد اختـار ( أحـد أقـرب المتعاونيـن مع عبدالسلام عارف والمتـآمر مع الشـواف ) عبداللطيف الدراجي محافظا للـواء ( محافظة ) الموصل ، وأختـار أيضا القـاتل المأجـور المطرود من الجيش لسـوء سـلوكه ( تاجـر المخـدرات الشـهير ) اسـماعيل عبـاوي مديـرا لشـرطة لـواء ( محافظة ) الموصـل ؟ ! !
وظـل قاسم حتى آخـر يوم لـه يصـر على عدم حـل القضية الكردية بالوسائل السلمية من خلال الحكم الذاتي لكردستان والديمقـراطية للعـراق ، ومـن قـراراتـه الفردية الأخرى ضـم الكويت وتقسيم الأحزاب الوطنية وإلغـاء دور الأصيلة منـها مثل خلق حزب شيوعي داود الصائغ ومنحه إجازة العمل الرسمي وإغداق الأموال الداعمة لـه ولجريدته العلنية ( المبـدأ ) وغلق الأبواب أمام الحزب الشيوعي الأصيل وملاحقة أعضائه ومؤيديه بذرائع مختلفة ومنـع صدور صحيفته طريق الشـعب ، وأيضا خلق حزب لمحمد حديد ومـن معـه من الإنتهازيين والرجعيين وغلاة البعثيين والقوميين وتسليمه بمختلف الوسائل الجمعيات الفلاحية والنقابات العمالية ليكون بديلا إنشـقاقيا للحزب الوطني الديمقراطي وقائـده التأريخـي كامل الجادرجي . . وهكذا دواليك من أساليب أعتـقد قاسـم معـها أنـها ستؤدي إلى تكريس هيمنة الزعيم الأوحد . .
ومـن خلال قراءة موضوعـية لكـل هـذا وغيـره كثـير ، يظهـر جليـا أن مـاحصـل في 14 تموز لـم يكن في حقيقـتـه أكثـر من مغـامرة لمجموعة ضـباط طامعيـن في السـلطة خدعـوا ضـباطا آخرين لمساعدتهم في الإطاحة بالنظام الملكي وبعـد ذلك إنقسـم هؤلاء الضباط إلى فريقين كل منهما يسعى للإستحواذ على السلطة أحدهما بقيادة عبدالكريم قاسم والآخر بقيادة عبدالسلام عارف وأخـذا في تحقيق طموحاتهما الخاصة بكل وسائل التصفيات وهو ما جعل الأوضاع فـي أسـوأ الأحوال والمواطنين في خوف وقلق وتشـرد وهـم يترحمـون على الإستقـرار الذي كان سـائدا في العهد الملكي على رغم كل إنتـقادات ومواقف الشـعب منه .
4. ألم يكن بالإمكان تطوير النظام الملكي إلى نظام ديمقراطي منتخب من الشعب دون ثورة كما جرى في 14 تموز عام 1958 ؟
جـواب :
ــــ عـندما نحاسـب أي نظام ، ينـبغي أن تكون محاسـبته على أسس تقـوم على الأوضاع الداخلية من أحوال إجتماعية واقتصادية وسياسية ومتطلبات البنـاء والإستـقرار والسـماح بالحريات والـعلاقات الديمقراطيـة . . وأيضـا الأخـذ في الإعتـبار الأوضاع الإقليمية والعالمية وكيفيـة التعامل معـها آنيـا بحسـب منظور النظام وطبيعتـه وخلفيـة قادتـه ومتطلبات علاقاته ومـا يراه مناسـبا . . . وإزاء كـل هـذا فإنه مـما هـو جدير بالذكر في هـذا الصدد : لو نظرنا الى ماكان عليه الوضع في مصر في عهد الملك فاروق والعراق فيصل الثاني وليـبيا السنوسي وافغانستان ظاهر شـاه وإيران شـاه محمد رضـا ، وقـارنا ذلـك بما آلت إليه الأوضاع بعدهم وواصلت حتى اليوم لعرفنا حقيقة أن هذه الملكيات بالرغم من كل مساوئـها كانت عهود اسـتقرار وتحسن متواصل في الأوضاع الإقتصادية والسياسية ووسائل الحكم وحتى الحريات . .
والدليل على ذلـك مـا نراه في الأردن حيث ـ مثلا ـ الحزب الشيوعي يعمل علنـا وبحرية كاملة في المقرات والإعلام وكل مؤسسات الأحزاب الأخرى والمغـرب إن الشيوعيين يشتركون في السلطة حاليا بوزيرين ، ولنتصور كيف كانت سـتؤول إليه الأوضاع لو نجحت الإنقلابات في هذين البلديـن . . وهكـذا نخرج بنتيجـة نقول من خلالـها : كان ممكنا تطوير النظام الملكي في العراق إلى نظام ديمقراطي من دون ثـورة بدليـل أن عهـد النظـام الملكي تميـز بالعدالة في كل المجالات باستـثـناء السياسية وتخللتـه فتـرات إتسـمت بمجالات لابـأس بـها من الديمقراطية وأتاحت حريـة مناسـبة إلى حـد مـا في العمل الحزبي والنـقابي والإجتماعي والإعلامي والإنتخابـي لعـل أحدهـا الذي رأيته في بداية شـبابي وزارتـي فاضل الجمالي وأرشـد ةالعمري عـامي 1953 و1954 . . أمـا الأنظمـة العراقيـة التي تلـت النظـام الملكـي فقـد تميـزت بضـياع العـدالـة فيـها وفـي كل المجـالات وبمـا فيـها السياسـية .
5. هل يبرر إستخدام العنف والجيش لتحقيق أهداف نبيلة ؟
جـواب :
ـــــ بمعـزل عـن تصوراتـنا السابقة وعواطفنـا التي كانت تـتحكم بـها ، نقـول ـ مـا دمنـا نتحـدث اليـوم وبحسـب مسـتلزمات هـذه الأيام ـ إن العـنف لايمكـن أن يؤدي بنتيجـة دائمـة إلى أهـداف نبيـلة لأن عواقبـه وتطوراتـه وأسـاليبه كثيـرا مـا تخرج عـن أسـسها المبدئيـة وتضـل في المتاهـات . . وأمـا إسـتخدام الجيش فـإن الوقائع أثبـتـت أن طبيعـته في الضبط والسـيطرة والطاعـة الصارمـة مـن الصعب أن تؤدي إلى السـماح بخـروج السلطات عـن تحـكم الجيش ولهـذا نـادرا جـدا مـا أسـفرت حركـات الجيوش عـن أهـداف نبيـلة حتـى النـهاية . .
توجد بعض الحالات ضمن النادرة التي ذكرناها مثـل إستخدام الجيش في سـوريا بقـيادة عبدالكريم زهرالدين ( وكان درزيا كما أعتـقد ) في إنـهاء وحدتها مع مصر والتخلص مـن هيمنة جمال عبدالناصر ومخابراته عام 1961 وانسحاب زهرالديـن والجيش من الساحة بعـد فتـرة قصـيرة ، ولكن سرعان ما عاد الجيش ومعـه البعث إلى الإستيلاء على السلطة عام 1963 والذي هيـأ لنظام الأسـد المتواصل حتى اليوم معيـدا عهـود دكتاتوريات حسـني الزعيم وأديب الشـيشكلي العسكرية وعبدالحميـد السـراج الناصرية في سـوريا . . وأيضا كمثال في السودان إستخدام الجيش بقيادة سـوار الذهب لإطاحة دكتاتورية النميري العسكرية وانسـحاب سـوار بعـد سـنة وتسليم الأمور إلى حكومة منتـخبة ، ولكن سـرعان ما عـاد الجيش بقيادة البشير ليواصل الحكم الدكتاتوري كمـا كان في عهد النميري وغيره ويتحكم بالسلطة حتى اليوم . . وهـذا ما يؤكد أن لا لـزوم لاسـتخدام الجيش إلاّ في حالات نـادرة جـدا شـريطة أن يكـون الإسـتخدام في إطار أهـداف وطنيـة مرحليـة ووقتـية .
6. هل كان ممكناً لمسار الحدث أن يأخذ إتجاها أخر غير الذي سلكه وكيف؟
جـواب :
ــــــ لـو كـان قـد تـم التـغيـير مـن قبـل قيـادات أخرى ذات إلتـزامات وطنية لربمـا كان يـأخذ مسـارا آخـر ، ولكـن أيضا كان مـن الصعـب إسـتقرار التغيـير بسـبب معـاداة كل الدول المجاورة للعـراق والمنطقة في ذلـك الوقت لأي إتجـاه كان يمكن أن يحدث في المنطقـة باتجـاه اليسـار ، وأن عـدم وجود مخرج بحـري واسـع وحـر للعراق يجعـل وضعـه في كماشـة سياسية واقتصادية وتحريك القـوى المعادية لليسـار في الداخـل سـهلا ، وطبعـا إن إعتـماد الوضع على الأتحاد السـوفيتي والدول الإشتراكية كان صـعبا بسـبب عـدم وجـود للعـراق حدود مشـتركة مـع أي منـها إضافة إلى إفتـقاره لمخرج بحـري مضمون يؤدي إلى ميـاه دوليـة . . لـذا كان الأفضـل التـعامل مـع تقلبـات وصـراعات وتغييرات حكومات النظام الملكي وتطوراتـه أفضل وبالتأكيـد لـو تواصـل النظام الملكي لكان عـراق اليـوم في أفضـل حـال ، إعتـمادا في المقـارنـة إلى مـا آلـت إليـه الأنظمـة الملكية الأخرى التي أخفـقت فيـها الإنقـلابات وواصلـت البقـاء .
7. هل تعتقد أن العامل الذاتي، أي الضباط الذين أشعلوا فتيل الثورة والقوى الوطنية التي ساندتهم والقوى المعادية في الداخل والخارج، أم هناك عوامل موضوعية هي من قادت مسار الحدث على الطريق الذي نعرفه ؟
جـواب :
ــــــ الوضع الدولي بما فيـه الحرب الباردة بين الشـرق والغـرب في حينه لا أرى فيـه تأثيـرا قويا وإنما هامشـيا ، لكن جمال عبدالناصر باعتـباره تأثيـرا إقليميا سـاهم في الأحداث المأسـاوية التي أعـقبت 14 تموز ، ولكـن العـامل الموضوعـي والرئيسـي لكل مـا حصل كان الأطماع التسـلطية لعبدالكريم قاسم وعبدالسلام عـارف ، أمـا القـوى الوطنيـة فلم يكن لهـا مجـال غيـر سـبيل الإختـيار بينـهما ، وبالنسـبة للقـوى المعادية في الداخـل فلـولا هـذه النـزاعـات بين هـذين الضابطين اللـذين أشـعلا فتيـل 14 تموز وهيمنـا على السـلطة التي نتجـت عـنه لمـا تمكنت مـن التـحرك والظهـور . .
كان قـاسم يسـعى لتكريس سـيطرته من خلال مناصبه بهـدوء ، بيـنما كان عـارف يعمل لتـثبيت نفـوذه بواسـطة جولاته ، وأتذكر عـندما جاء إلى الموصل في مجـال جولاته وخطـب في الجموع التي احتـشـدت في سـاحة الطيران وكنت ضمنها مع عـدد من أهل تللسـقف الذين حضـرنا في الباصات ، أنـه قـال ضمـن كلمتـه الطويلـة " لاخاكيـة ولا دكتاتورية ولا إقطاعية ولا رجعية وإنمـا ديمقراطية شـعبية " وعـرفنا فيـما بعـد أن هـذه العبارات كانـت في حقيقـتها موجهـة لكسـب التأيـيد الشـعبي لـه ضـد عبدالكريم قاسـم .
8. من المعروف أن النظام الملكي قد سقط خلال ساعات ، وإن جماهير الشعب إحتضنت قادة الثورة وباركت لهم عملهم ، بحيث يمكن القول أن الحدث لم يكن معزولاً ولا نخبوياً. إذن كيف ولماذا تغير مسار الأحداث بعد أشهر من وقوعه؟
جـواب :
ــــــ ليس مـن شـك أنـه كان يوجـد إسـتـياء شـعبي من النظام الملكي ، وغالبيـته سـببه الحـكم عليـه من خلال مواقفـه المجارية للغـرب التي كانت تلقى معارضة من القـوى الوطنيـة والقومية على حـد سـواء ، والتي تصاعـدت نتـيجة العاطفـة التـي أجـجتها وسـائل الإعلام الناصـرية التي كانت أقـوى وأشـهر وأوسـع إنتشـارا في المجـال العربي في حيـنه ، كـل هـذا كان السـبب في احتـضان الشـعب للحـدث ومباركتـه وتأيـيده القـوي لـه ، ولكـن هـذا لـم يكن السـبب في سـقوط النظام الملكـي خلال سـاعات وإنـما أن النظام كان يعـتـقد أن ( دار السيد مأمونـة ) فلم يكن لـه إجراءات وقائية ، فمثـلا عـندما ذهب بهجت العطية ( رئيس الشعبة الخاصة ـ الأمن ) وهـو متألم من عـدم تعاون قيادة الجيش معـه وقـدم لنوري السـعيد أسـماء ضباط يشكلون تنظيما يتـهيأ للقيام بالقيام بانقـلاب عسـكري قريب ، فإن رئيس أركان الجيش الفريق رفيق . . ( وهو جزء من النظام ) أصـر بأن كل الجيش مخلص للنظام ولا صحة لهذه المعلومات وأنه لايقبل أي مسـاس بالجيش ( هذا ما كان يؤمن به وأكده عندما كان يحاكمه المهداوي رئيس محكـمة الشـعب ) . .
ووقف رئيس الأركان أيضـا ضـد مضمون الإبلاغ الذي قدمـه الملك حسـين ، بنـاء على معلـومات مخابـراته ، للحكومة العراقية بوجود تحرك إنـقلابي عسـكري قريـب ، والغـريب أن نوري السـعيد ( رئيس حكومة الإتحاد العربي ـ العراق والأردن ) وهـو ضـابط كبيـر سـابق ، إلتـزم جانب قائـد الجيش ولـم يبـال بكل التحذيرات معتمـدا على قناعـة رئيس الأركان . . طبعـا موقـف رئيس الأركان لـم يكن ناتـجـا عـن معارضـته للنظام فهـو كان أحـد أركان النظام ولكن مـن قناعتـه بـأن الجيـش ( ضـباط الجيش لـن يخـونوا قسـمهم بالولاء للملـك ) . . ولهـذا كان ضـباط الجيش مـن دون رقيـب . .
وكان التعيـين في المناصب العسـكرية من دون تدقيقـات قوية في هويـة الشخص ، ولهـذا ـ مثـلا ـ كان وصفي طاهـر ( وهـو شيوعي ) مرافقـا لرئيس الوزراء ، وعـارف عبـدالرزاق ( وهـو قومي ناصـري ) طيـار الملك الخاص ، وصالح مهدي عماش ( وهو بعثـي ) ملحقـا عسـكريا في مكان مهـم جـدا وهـو لبـنان وهـو كان يقـدم كل التقارير التي تأتيه بخصوص لبنان ومصر وسـورية إلى المخابرات المصرية . . وبسـبب إنعـدام الرقابة فقـد كثـرت مجموعات الضباط المعارضين للنظام من التابعين للأحزاب وغيرهم ، ولـم يكن يوجـد حـذر لـدى السـلطة مـن الجيش بدليل السـماح ليلة 14 تموز لقطعات من منطقـة بعقـوبة بالعبـور بكامل أسـلحتها مـن بغـداد فجـرا للذهاب إلى الأردن من دون أي حراسـة عسـكرية لتحركها ومـن دون أي احتسـاب لمحاذير هـذا المرور ، وهي التي نفـذت الحـدث عـند وصولهـا بغـداد ، في الوقت الذي كان في الإمكان إرسـال قطعـات من منطقة الرمادي القريبة مـن الأردن مـن دون المرور بـبغداد . .
وأيضـا ـ كمـا ظهـر بعـد 14 تموز ـ أنـه لـم تكن للجيش خطـة طوارئ لمواجهـة قيام حركة عسكرية ولهـذا تمكنت المجموعات المعارضة من الإستيلاء على قطعاتها بسـهولة حـال سـماعها مـن الإذاعة ( التي لـم يكن يحرسـها سـوى ثلاثة أفراد شـرطة ) بـبيان الثـورة ، وحتى بيت رئيس الوزراء نوري السـعيد كان يحرسـه شـرطيان فقـط . . وأيضا فقـد اسـتولت سـرية واحـدة على القصر الملكي لأن آمـر فـوج الحرس الملكي طـه البامرنـي ( وهـو كردي ، ولـم يكن من ضـباط الثـورة ، ولكنـه كان شـخصا وطنيـا تقـدميا ولهذا جـرى تعيـينه بعـد 14 تموز آمـرا للمقاومة الشـعبية ) أمـر الفوج بعـدم المقاومـة وصـرح بعـد 14 تموز أنـه لـو قـاوم فوج الحراسـة الملكي لـربما كان أفشـل الثورة نظرا للمـعدات العسكرية المتطـورة وصـفوة الضباط والجنود التي كان يملكها هـذا الفـوج . .
هـذا هـو سـبب سـقوط النظام الملكي خـلال سـاعات . . أمـا سـبب تغيـر مسـار الأحـداث فكـان أطمـاع السـيطرة والإنفـراد التـي كانـت لـدى كـل مـن قاسـم وعـارف .
9. من الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية لما آلت اليه الآمور، حيث تم إجهاض ثمار نضالات وأحلام وأماني الجماهير خلال عشرات السنين؟
جـواب :
ـــــ يتحمـلها بصـورة رئيسـية عبدالكريم قاسـم وعبدالسلام في البداية ، وبعـد إخـراج عبدالسـلام من السـاحة يتحمل عبدالكريـم وحـده كل مـا حصل بـما في ذلـك إنقـلاب 14 رمضـان المشـؤوم .
10. إختلف الكثيرون في تحليل شخصية قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم. فمن قائل يقول إنه دكتاتور، وآخر يقول إنه وطني حقيقي و عراقي صميمي، أو يتهم بالتناقض والتقلب. في أي موقع يمكن وضع هذا الرجل؟
جـواب :
ــــــ لا يمكن إنكار أنـه كـان لعبدالكريم قاسـم جوانب وطنيـة وعـراقيـة صميميـة وأيضـا كان نزيـها جـدا مـع نفسـه ، ولكـن هـذا كان مـمزوجـا بالنـزعة الدكتاتوريـة والتسـلط والرغبـة الجامحـة لـديه للإحتـفاظ بالسـلطة وفـرض شـخصه باعتـباره ( الزعيـم الأوحـد ) حتى أنـه كان يجاوب الذين ينـقلون إعتـداءات العناصر الحاقـدة على الوطنيين لدرجة الإغتـيالات وانتهاكات المسؤولين الحكوميين لحقوق المواطنين : كـل هـذا طبيـعي لأنـه ما الضرر على مسـيرة القطار إذا تشـاجر المسـافرون داخله ، طبعـا القطار كان برأيـه هـو الذي يواصل الحكـم . .
وحتى عـندما طلبت منـه الجموع المحتشـدة أمام وزارة الدفاع صـبيحـة 8 شـباط 1963 السلاح لمقاومـة الإنقـلابيين جاوبـهم : لاحـاجة أشـخاص معـدوديـن سـأقضي عليهم بأقـل مـن سـاعة إذهبـوا إلى بيـوتكـم . . هـذا كان وضـعه الذي جـرى تفسـيره بأنـه لخشـيته مـن الوطنيـين أكثـر من المتآمـرين عليـه . .
أمـا مسـالة التناقض والتـقلب فـإن هـذا ظهـر في مسـيرته ولكنـه بالحقيقـة كان تحصيل حاصـل لمـا يجـده مسـاعـدا لـه في سـعيه لتـرسـيخ تسـلطه . . والإسـتـفادة مـن موقعـه القيـادي لتكريس كل تحركاتـه ، وفـي أي إتجـاه ووقـت ، مـن أجـل طموحـه المتـواصـل في السـلطة .
11. جبهة الأتحاد الوطني وّحدت القوى الوطنية الآساسية قبل الثورة، لماذا غاب دورها وتصدّعت بعد الساعات الأولى من نجاح الثورة؟ هل يعود ذلك إلى أن أطرافها لم يضعوا برنامجاً يتعلق بالفترة التي تلي هذا النجاح؟
جـواب :
ـــ غـاب دورها لأن طمـوح العسـكريـين بالسـلطة لـم يسـمح لقـوى جبهـة الإتحـاد الوطنـي إلاّ بالمسـاهمة في الحكم بصـورة منفـردة وليس مجتمعـة في الجبهـة ، وكان الحزب الشيوعي الوحيد الذي أسـتثني من المشاركة في الحكومة الأولى بعد 14 تموز ، وكان الوحيد القريب منـه في الحكومة هو وزير الإقتصـاد إبراهيـم كبـة مع العلم أن إبراهيـم كبـة كان هـو الذي صـاغ بيـان الجبهـة عام 1956 ، في حين أن الأحزاب الأخرى : الوطني الديمقراطي والإستـقلال والديمقراطي الكردستاني كانت ممثلـة بوزيرين وحزب البعث بوزير واحـد هـو فـؤاد الركابي ( الأمين العـام للحزب ) وزيـرا للإعمـار . . مـا أدى إلى إنقسـام هـذه القـوى بيـن عبدالكريـم وعبدالسـلام ، وتحـوّل إتحادهـا في الجبهـة إلى صـراع بيـنها ضـمن إطار صـراع العسـكريـين . .
وهـذه الحـال أدّت إلى غيـاب دورها كجبهـة وكقـوى وتصـدعها . . والسـبب لـم يكن البرنامج ، لأن ميـثاق الجبهـة كان البرنامج وتطبيقـه كانت المهمـة ، ولكن لـم يسـمح العسـكريون لـها بالتأثيـر في الأحـداث كجبهـة موحـدة لقـوى وطنيـة منـذ اليوم الأول لبـدء النظام الجـديد .
12. الصراع الذي أندلع بُعيد إنتصار الثورة سواء على نطاق الضباط أو على نطاق القوى التي ساهمت للتحضير لهذا الإنجاز، هل دار حول قضايا سياسية أو اقتصادية - اجتماعية، أم على قضايا تتعلق ببناء الدولة الجديدة ؟ وهل كان هذا الصراع يتعلق بالصراع الإقليمي أم جزء من أفرازات الحرب الباردة المستعرة في تلك الفترة؟
جـواب :
ــــــ هـو كان فـي نطـاق صـراع الضباط لاغيـر ، فلـو إتـفق العسـكريون مع جبهـة الإتحاد الوطني على نـهج مرحلي ، والضرب بعنف على كل مـن يخرج عـن هـذا الإتـفاق ، لمـا كان هـناك صـراع كالذي حصـل ، لا على نطاق قـوى الجبهـة ولا حـول قضايا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ولا إقليمية ودوليـة أو غيـر ذلـك ، فقـد كان الأمـر يتطلب مرحلة إنتـقال مدروسـة يتسـلم بعـدها الشـعب من خلال الإنتخابات السـلطة ، ويعـود العسـكريون إلى ثكناتـهم لحراسـة الوطن والثـورة والإنجـاز مـن الأخطـار .
13. الحزب الشيوعي العراقي لعب دوراً هاماً في التهيئة للثورة وفي توجيه الشارع بعد نجاحها. كيف يقيم أداء ومواقف الحزب بإيجابياته وسلبياته؟
جـواب :
ـــــ الحزب الشـيوعي ، نعـم قـام بكـل هـذا ولكـن دوره الهام ذهب هبـاء في مجـال طموح الضباط ولـم يهتـموا بـه ، وتـوجيـه الشـارع سـمح بـه عبدالكريم في الفتـرة التي كان فيـها بحاجة إليه في ترسـيخ سـلطته ، وبهـذا فقـد أصـبح الحزب الشيوعي العراقي جـزءا مـن صـراع الضـباط ، وبالتـالي إنـقلب عليـه شـر إنقـلاب عبدالكريم وركز ضرباته على الحزب ومـن معـه ، والحقيـقة أن أن الحـزب مـن خلال الصـراع بين الضباط أصبح بيـن المطرقـة والسـندان ولـم يكـن لـه سـبيل آخـر ، ولكن مشـكلته أن عبدالكريم كان إنتـهازيا معـه بعيـدا عـن كل وفـاء واعتـراف بالمعـروف . .
ولكـن يجب الإعتـراف بأن الحزب الشـيوعي وقـع في أخطاء الهيـمنة على الشـارع ، حيـث جـرى تحميلـه مسـؤوليـة كـل الممارسـات غيـر الصائبـة التـي حصلـت فـي الشـارع والتـي غالبيـتها إرتكبـتها عنـاصر منـدسـة ، مثـل ( عبدالسـلام الذي كان يوصـف برئيس فـرق سـحل اعـداء الثورة ـ رئيس السـحالين ـ في الموصل خلال تمـرد الشـواف ، وحيث ثـبت بعـد فـوات الأوان أن هـذا عبدالسـلام كان عميـلا للمخابـرات الإنكليـزية ) ومـن ذلـك أيضـا أن القتـل الذي حصـل في كركوك عـوقب عليـه بأقسـى العقـوبات قـادة الحزب الشـيوعي في حيـن أن الحزب الشـيوعي لـم يكن على علاقـة مباشـرة بهـذه الأحـداث . . وهكـذا أيضـا تصرفات جماعات في المقاومـة الشـعبية . . وأخطـاء أخـرى اعتـرف بـها الحـزب الشـيوعي ناقـدا موقـفه منـها . . بيـنها نقـل مطلبـه للمشـاركة في الحكم إلى الشـارع الذي صـار يـردد شـعار ( حزب الشـيوعي بالحكـم مطلب عظيـمي ) والذي جـرى تفسـيره بأن الحزب الشـيوعي يريـد الإسـتيلاء على الحكـم وليس المشـاركة فيـه .
14. كيف نقيم أداء ومواقف الحركات القومية العربية على الساحة العراقية، إضافة إلى أداء ومواقف الحركة القومية الكردية والحركات القومية الأخرى بعد الانتصار ودورها سلباً أو أيجاباً في مسار الأحداث اللاحقة؟ وكيف نقيم تيارات سياسية أخرى كالحزب الوطني الديمقراطي في التعامل مع الأحداث العاصفة التي تلت انتصار الثورة؟.
جـواب :
ــــ هـي أيضـا سـلكت سـبلا متـباينة ، نتيجـة صراعات الضباط وعـدم قبـول العسكريين ببرنامج مرحلـي إنتـقالي محـدد للتغيـير من النظام الملكي إلى النظام الجديـد ، الحركات القومية العربية ( بسـبب الصراعات وعـدم وجود برنامج وضوابط ) إتـجهت نـحو تحقيق أهدافها القومية على السـاحة العراقية ، بمـا فيها الوحدة مع ( وحدة مصر وسـورية ) بكل السـبل بما في ذلـك العـنف ، الحركة القومية الكردية وقفـت في الصراع مع عبدالكريم قاسم ولكنها بعـد ذلك اتجهـت نحـو العنـف لتحقيق أهدافها عندما عجزت عـن تحقيقها من خلال التفاهم مع عبدالكريم ، الحركات القومية الأخرى ( التركمان ) وقفـت مع القومية العربية لأنـها وجدتـها الأقرب إلى تفكيرها الرجعي المرتبط بتركيا ، الحزب الوطني الديمقراطي وقـف مع عبدالكريم في الصراع مع عبدالسلام ولكن قيادته المتمثـلة بكامل الجادرجي كانت تتطلع إلى عـراق ديمقراطي نيابي مـن دون هيمنـة تسلطية عسـكرية فضرب عبدالكريم الحزب بشـق محمد حديد عـنه ودعـم حديـد وتحجيـم دور فريـق الجادرجي . .
أمـا أدوار هـذه الأطـراف السـلبية أو الإيجابية فهـذا لـم يـكن سـالكا بالمطلق نـهج مبادئـها ، لأنـه كان متأثـرا بالوضـع ومرتبطـا بالصراع بين الضباط ومـن ثـم مواقـف عبدالكريم في التصـرف بالحكم والمجالات التي يمنحها للقـوى المختـلفـة بحسـب أهـوائـه .
15. موقف عبد الكريم قاسم من الحقوق القومية للشعب الكردي والحرب التي شنها ضد الشعب الكردي. هل كان تعاون قيادة الثورة الكردية مع حزب البعث لاسقاط حكم قاسم صحيحاً؟ وإن لم يكن صحيحاً، فماهي خياراتها الأخرى؟
جـواب :
ـــــ ليس المهم هـل كان موقـف قيادة الثورة الكردية صحيحا أم لا ، ولكـن الثورة الكردية كانت في قتال مع عبدالكريم فليس معـقولا أنـها تقف بجانبـه ضـد مـن يتصـدى لـه ، الثـورة الكردية أكـدت عـند تعـاونـها مع إنقـلاب 8 شـباط في أشـهره الثلاثة الأولى أنـها في قتـال مع عبدالكريم وهي سـتواصل ذلك مع غيـره إذا لـم يسـتجب لمطاليـبها وهـذا ما فعلـته حيث دخلـت في قتـال مع البعثـيين أشـد ضـراوة مـن قتالـها مع عبدالكريم . .
ولا أتصـور أنـه كان لقيـادة الثورة الكرديـة خيـارات أخـرى ، لـو كان هـناك حـل واضـح بيـنها وبيـن عبدالكريم لربـما كانت سـلكت سـبيلا آخـر ، ولكـن في مجـال ضـياع أي حـل مـع عبدالكريم فخيارها هـو عـدم الدفاع عـنه ، وأمـا بالنسـبة لمـن يأتي بعـده فإن الحال لـن تـتغير بالنسـبة لهـا عمـا هي عليه مـع عبدالكريم ، إذا توافـر الحـل فأهـلا بـه وإلاّ فالقتـال قـائم . . وهـذا مـا حصـل .
16. ما هو تقييمكم لأهم أجراءات النظام الجديد بدءاً من أعلان الجمهورية والخروج من حلف بغداد ودائرة الاسترليني وأعلان قانون الأصلاح الزراعي وتوفير الحريات المهنية والنقابية وحتى السياسية، رغم محدوديتها، وأصدار الدستور المؤقت الذي يعلن البلاد شراكة بين القوميات القاطنة في العراق، وأصدار قانون الأحوال الشخصية ووضع البلاد على سكة التنمية والإعمار، وأخيراً أصدار قانون رقم 80 الهام الخاص بالثروة النفطية العراقية؟ ما دور هذه الإجراءات في استثارة قوى الردة في الداخل والخارج للأجهاز على الثورة في 8 شباط عام 1963؟.
جـواب :
ـــــ الجمهورية هي نتيجة الإنقلاب على النظام الملكي ، والجمهورية ظلت إسـما فقـط بدليل أن عبدالكريم صـار ملكا دائميا بصلاحيات أكثـر من فيصل الثاني واسـتبداد لـم يكن موجودا عـند فيصل ، الخروج من حلف بغـداد ودائـرة الإسـترليني هـذا لم يكن إنجاز شـخص واحد فقـد كان محل إجماع كل اللأطراف العسكرية والوطنية والقوميـة وكان مدرجـا في ميثاق جبهة الأتحاد الوطني ، وقانون الإصلاح الزراعي كان أيضا من أهـداف جبهة الإتحاد الوطني ولـم تكـن لـه معارضـة علنيـة من أي طرف وطني أو قومـي . .
وأمـا الحريات المهنية والنقابية والسياسية فقـد توافرت في السنة الأولى من 14 تموز ولكنـها أصبحت تعـطى بحسـب مزاج السـلطة ، فالجمعيات والنقابات المهنية أصبحت غالبيتها بيـد القوى غير الوطنية من الجمعيات الفلاحية إلى نقابة المعلمين واتحادات الطلبة ومعظم النقابات ، أما الحريات السياسية العلنيـة والواضحة فالحزب الديمقراطي الكردي تـم منعـه وصار ملاحقـا والحزب الشيوعي منحت الإجازة لحزب داود الصائغ وتمت ملاحقـة الحزب الحقيقي والحزب الوطني الديمقراطي صار المسيطر فيه الحزب البديل الذي شكله محمد حديد أما الأحزاب القومية فلم يسمح لها بالعمل ، هـذه كانت الحرية السياسية ، فهـل هي حقـا حريـة سـياسيـة أم حرية عبدالكريـم على التنظيمـات السياسية ؟
الدسـتور صـدر ولكـن ليس المهـم إعـلان الدستور وإنـما تطبيقـه بأمانـة مـن قبـل السـلطة ، قانون الأحوال الشـخصية حقيقـة كان إنجـازا وقبـل بـه عبدالكريم بعـدما وضعـته لجنة أشـرفت عليها الوزيـرة نزيهـة الدليمي ( دخلت عام 1959 ممثلة وحيدة للحزب الشيوعي في الحكومة ورئيسـة رابطة المرأة العراقية وبقيت في الحكومة إلى أن أقـالها عبدالكريم من منصـبها الوزاري عام 1961 ) أمـا سـكة التنـمية والإعمـار فهـذا طبيـعي أن يقـوم بـها أي شـخص يتطلـع إلى دعـم الشـعب لشـخصه ، وإصدار قانـون 80 الخاص بالثروة النفطية كان إنجـازا أيضا ولكنـه على الأرجح جـاء متـزامنا مـع تأسـيس منظمة الدول المصدرة للنفط أوبـك والعراق من دولـها المؤسـسة في عهـد عبدالكريم . .
لـم تكن هذه الإجراءات السبب في إسـتـثارة قـوى الـردة لأن هـذه القـوى كانت موجـودة ونشـطت بفضـل تصـرفات عبدالكريـم ، و8 شباط 1963 لـم يكن سـببه المباشـر هـذه الإنجازات وإنـما كان إمتـدادا للصـراع بين عبدالكريم وعبدالسـلام واسـتـقطاباتـه وتمكـن هـذا الصراع من الإطاحة بعبدالكريـم نتيجـة مـا أوصـل الأوضـاع إليـه مـن فوضى ومآسـي عبدالكريم نفسـه . .
ولكـن فاتـنا أن نضيف إلى إنجازات عبدالكريم الوقوف ضـد مطالب الأكراد بالحكم الذاتي وتوجيـه الجيش العراقي وقسـم من موارد الدولة ضدهم وتشـكيل ميليشـيات شيوخ العشائر ( الجـتـة ) لضربهم . . إضافـة إلى إنجازه بضـم الكويت وجعل الكويت قضـاء تابعـا للبصـرة وإصـدار مرسـوم بتعيـين أمير الكويت قائمـمقامـا للقضـاء ، ومزايـداته مع عبدالناصر على فلسـطين حيث كان يذكر كلما وجـد فرصـة بطولاتـه في قرية كفر قاسـم التي منعت اليهود من الإستيلاء عليها وأعقب هـذه المزايدات مع عبدالناصر بتشكيل جيش القدس من الفلسطينيين الموجودين والذين جاءوا إلى العراق للإستفادة من نعـم عبدالكريم واللافت أن منتسبس هـذا الجيش كانوا مشتركين في إنقلاب 8 شباط . . وإنجـازات مماثلـة عـديـدة أخـرى لامجـال لذكرهـا .