حقيقتنا في إيماننا
حقيقتنا في إيماننا
المونسنيور د. بيوس قاشا
في البدء
لعديد من العصور والسنين ولا زال حتى اليوم يعاني المسيحيون من الاضطهاد الديني، وارتبط اضطهاد المسيحية ارتباطاً استشهادياً وهو يسير معها جنباً إلى جنب حتى الموت، فلقد بدأ الاضطهاد في وقت مبكر وفي وسط يهودي حيث صُلب المسيح، كما رفض اليهود رسالة المسيح وتلاميذه فحكموا عليهم بالقتل والتعذيب والتهديد والصلب والموت. وسارت مسيرة الاضطهاد والأسشهاد ، حيث دخلت المسيحية الناشئة في صراع من الوثنية المتمثلة بالإمبراطورية الرومانية، ووصل هذا الصراع في أحيان كثيرة إلى حد الإبادة إذ لم يكن للإيمان الجديد ما يشهده من قوة زمنية أو سلاح اللهمّ "إلا ترس الإيمان ودرع البر وخوذة الخلاص وسيف الروح" (أفسس16:6-17).
الضحايا الابرياء
الضحية أو ضحايا أبرياء: إنهم أشخاص أبرياء، أصيبوا بسبب مرض أو صدمة أو حادث أو خطأ أو نزاع أو حرب وهو خارج عن إرادتهم ، وهم بريئون . والضحايا تشمل الإصابات والوفيات، وضحايا الحروب تشكل نسبة كبيرة من المدنيين. فقد أفرزت الحرب العالمية الثانية أكثر من (97) مليون ضحية، كما أفرزت ضحايا الإرهاب بسبب التفجيرات، أكثر من مليون ضحية. والعراقيون يشكلون أكبر ضحايا الارهاب في العالم بسبب القاعدة وداعش وغيرها ، وغالبيتهم هم من النساء والأطفال. ذنبهم أنهم يعيشون في تلك المنطقة التي تشهد أعمالاً إرهابية. والضحايا هم مَن يموتون، أما مَن يبقى على قيد الحياة فيعيش إلى آخر عمره في إعاقة معينة جرّاء الأعمال الارهابية، والشعب العراقي كان ضحية لمختلف أنواع الإرهاب،
في العربية
في العربية يقال "استشهد" بمعنى "قُتل في سبيل الله"، هذا هو المعنى الإصطلاحي. أما المعنى الإيماني، فالاستشهاد مشتق من الشهادة، و"استشهد" بمعنى "سُئل الشهادة" أو "طُلب للشهادة". والشهادة هنا هي الشهادة لحقيقة الإيمان الذي يدين به ويذود عنه ، لأن إنكار المسيح خيانة "مَن ينكرني قدام الناس لأنكرته قدام أبي الذي في السماوات" (متى33:10). والإعتراف به وفاءً وتكريماً لِدِينه، ، مؤمناً أن الإيمان رسالة تعاش في مسيرة الحياة وليس فخراً وجاهاً أو تباهياً أمام حكّام الزمن وكبار الدنيا ورجال المعابد وأعدادٍ من شعوب حوالينا.
إيمان الشهداء
يقول القديس يوستينوس الشهيد(100-165) : ها أنت تستطيع أن ترى بوضوح أنه حينما تُقطَع رؤوسنا، ونُصلَب، ونُلقى للوحوش المفترسة، ونُقيَّد بالسلاسل، ونُلقى في النار وكل أنواع التعذيب، إننا لا نترك إيماننا ولا نترك وطننا ولا نرحل بعيداً من أجل الحياة والرفاهية والعيش الهنيء، فالرب يقول "مَن آمن بي وإنْ مات فسيحيا" (يو25:11)، بل بقدر ما نعاقَب بهذه الضيقات بقدر ما ينضمّ مسيحيون أكثر إلى الإيمان باسم يسوع المسيح. فالكرّام يقطع أغصان الكرمة التي تحمل ثماراً حتى تنمو أغصان أخرى.
حقيقة الاستشهاد
فما هي حقيقة الاستشهاد في المسيحية؟، هل هي نوعاً من الجنون والجهل والحماقة؟، أم هي نوعاً من الهروب من الحياة أو الانتماء تحت ظروف قاسية؟. بالطبع لم يكن هذا، بل كان مجداً لأولئك الشهداء ، فقد سنحت فرصة لبعض منهم للهروب من الموت، لكنهم رفضوا وثبتوا- عكس ماحصل في بلداننا،حيث تخلوا عن الأرض وقدسيتها ، والوطن واصالته - وهذه كانت شجاعة لم يكن يألفها العالم بدكتاتورية حكّامه، ومسلَّطي كراسيه، ومحسوبية كباره، فقد كانت البشارة بالإيمان بالاستشهاد أكثر من التعليم، لذلك قال ترتليانوس العلامة ( 160-220) "دماء الشهداء بذار الإيمان"، إذ لم تنجح الشدائد في أن تجعلهم يتخلّون عنها حتى بعد الموت. ولولا الإيمان بالقيامة والدينونة الأبدية لما كان الشهداء يجدوا ما يدفع بهم إلى قبول العذاب في سبيل إيمانهم.
مسيحيون شهداء
لا يوجد في كل تاريخ البشرية شهداء مثل شهداء المسيحية في حماسهم وشجاعتهم وصبرهم واحتمالهم أيام زمانهم، فقد كانوا يقبلون الموت في فرح وهدوء ووداعة تُذهل مضطهديهم، وجعلتهم يقبلون الاستشهاد على أن ينكروا إيمانهم، فقد كان أول سؤال يوجَّه إليهم "هل أنت مسيحي؟"، وكان مجرد اسم "مسيحي" في حد ذاته يحمل أبشع جريمة تلصق بصاحبها الشبه بالعصيان وتدنيس المقدسات، فكان لهم رداً واحداً لا يتغير "نعم، أنا مسيحي"، فيجاهر بإيمانه ويعلنه في جرأة مذهلة فيصرخ الحكّام "الموت للمسيحي".
صبر الشهداء
في رسالة كتبها أهل أزمير في القرن الثاني (107) إلى القديس اغناطيوس النوراني ، في وصف الصبر الجميل قالوا: إن المعترفين ضُربوا ضرباً عنيفاً بالسياط حتى ظهرت عروقهم وأعصابهم، وكانوا في معمعة هذا العذاب ثابتين بلا ضجر، في حين أن الحاضرين كانوا ينفرطون شفقة عليهم. فما كنا نسمع من جند المسيح هؤلاء أدنى صراخ أو أنين بل بالعكس كنا نشاهد الدماء تجري من جراحهم في غزارة، ومع ذلك ما كانت ألوانهم تتغير. تقدموا للعذاب بسرور وابتهاج، وتألموا وهم صامتون، لم يفتحوا أفواههم إلا ليباركوا الرب ويسبّحوه كأنهم ليسوا في أجسادهم أو منزَّهون عن الآلام، لأنهم أصغوا بالحري إلى صوت الرب يسوع يناجي قلوبهم، ومن فرحهم بحضوره إزدروا جميع العذابات وعدّوا أنفسهم سعداء لاجتناب العذابات الخالدة في الأبدية باحتمال عذاب لبعض دقائق، وهذا كله احتمله الشهداء بصبر ليس له نظير، وعيونهم شاخصة إلى السماء. وأحياناً كان المعذِّبون يتوبون إلى رشدهم كما فعل الشهيد أريانوس ( مستشار في الامبراطورية الرومانية ) الذي ـــ بعد أن قتل الألوف ـــ مات هو نفسه شهيداً بعد أن رأى صبر الشهداء وقوة إيمانهم. واليوم أين نحن من هذا الإيمان؟، نبكي على حالنا قبل أن تحل ساعة الألم والإضطهاد، ونناجي دولاً كي تنقذنا من الاضطهاد الآتي كي لا نقع في غياب الموت، وكي تفتح لنا حدود بلدانهم من أجل تأشيرة الدنيا الزائلة ، وننسى حقيقة استجابة رب السماء لنا إذ قال:"إنَّ أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (متى8:6).
تعذيب الشهداء
وأما وسائل تعذيب الشهداء فكانت متنوعة بقدر ما كانت قاسية، كان من بينها الضرب والجلد، والإلقاء للأسود الجائعة والوحوش الكاسرة والنيران المتأججة، والإنزال في براميل كبيرة من الزيت المغلي، والسلخ ونزع الأظافر والكي بالحديد في مناطق مختلفة من الجسم، وأيضاً تقطيع الأعضاء وتمشيط الجسم بأظفار من حديد وضعت على صفائح محميّة، وتعذيبه بسكاكين حادة حيث يتمزق جسم الشهيد إرباً إرباً، ووسائل أخرى متعددة إضافة إلى الصلب في وضع عادي أو في وضع مقلوب، وكان أسهلها قطع الرأس بالسيف أو الفأس إما على حجر أو على هواء .
دور الكنيسة
يؤكد تعليم الكنيسة الكاثوليكية (رقم 2473) أن الشهيد هو ذاك الذي يشهد للمسيح حتى الموت. وانطلاقاً من هذا التعليم كانت الكنيسة تقف وراء المقبوض عليهم في السجون تمهيداً لاستشهادهم، وتشجيعهم لبسالتهم وعمق إيمانهم، وتعزّيهم عمّا هم فيه من ضيقات وآلام. وقد كتب مرة القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة(200-285) قبل استشهاده للسجناء تمهيداً لقتلهم قائلاً لهم:"وكأننا محبوسون معكم لأننا بالقلب معكم، نشعر مثلكم بما أنتم مدينون به من الشرف لعطايا السيد المسيح. إن القيود التي في أيديكم وأرجلكم ليست سلاسل من حديد بل هي جواهر ذهبية تزيّنكم في أوقات الاضطهاد. الموت يغلبنا لكن الخلود ينتظرنا. تنتهي هذه الحياة القصيرة وتبدأ الحياة الأبدية... فيا له من شرف، يا له من فرح، أن نرحل هكذا في مجد وسط الاضطهاد والضيق والهوان، ونغمض أعيننا عن العالم والبشر لنفتحها هنا في الفردوس أمام وجه حبيبنا القدوس".
كلنا شهداء
إن سحابة الشهداء في عمق بعض مؤمنينا ما زالت مضيئة في الكنيسة إلى يومنا هذا، فعيشنا لإيماننا ـــ وبالرغم مما يحيط بنا من ضنك ومن ضيق ومن ألم ومن مرض ومن ظروف قاسية، ومن ظلم وحكم فاسد، وتدنيس للحقيقة وتشويه لوجه الله بسبب كبريائنا وأنانية مصالحنا ـــ فلا زلنا نعيش مبادئنا على الرغم مما يعترضنا من أجل الحفاظ على حقيقة عقيدتنا التي ورثناها من جرن عماذنا، ونحيا على الرغم من مثيرات الخطيئة والشهوات والظلم والمصلحة المزيفة والكبرياء المتباهي. فصمودنا أمام الإغراءات والمثيرات وشهادات الزور الكاذبة والتقارير المزيفة والاحكام الكبريائية ، وأمام العذابات والاضطهادات يجعلنا أن نحيا شهداء لحقيقة الحياة. فالمؤمن الشهيد هو مَن يكون أميناً حتى الموت، فالآية تقول "كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" ( رؤيا 12:2) ، وهذا يعني أن السماء هي للإنسان الهدف الأسمى، وليس الدنيا وأخضرها وعبادة كبار زمانها وتبجيل مناصب كراسيها وهنائها، في بيعها أو شرائها أو تحقيق مصالحها، والحقيقة قالها الرب يسوع في إنجيله المقدس "تعالوا يا مباركي أبي، رثوا المُلْكَ المُعَدّ لكم منذ إنشاء العالم" (متى34:25).
بذار وحدة
نحن اليوم مدعوون إلى السير على درب الشهادة الحقة ــ وليس عيش الإيمان المتباهي والإعلامي المزيّف ـــ برفقة هؤلاء الضحايا الأبرياء، الذي يُعتبر دمهم المسفوك بذار وحدة. ففيها مسكونية الدم(16 شباط 2015) كما يقول البابا فرنسيس " دماء أخوتنا المسيحيين شهادة صارخة قلّما يهم سواء كانوا من الكاثوليك أو الأرثوذكس أو الاقباط أو اللوثريون ، إنهم مسيحيون والدم هو عينه" ، فالاستشهاد ليس مجرد سفك دم، ولا هو مجرد اعتراف شفهي بالسيد المسيح، لكنه ممارسة كمال الحب حتى بذل الذات "ما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه" (يو13:15)، وهذا ما يجعل إيماننا ثابتاً بقول المسيح "إنْ لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتموت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يو24:12). فنحن شهداء وإن لم نمتْ ـــ وإنْ لم نُعلَن بعدد من الأوراق الخضراء والبيضاء والحمراء ـــ كما كان القديسون الشعبيون "بهنام الشهيد وأخته سارة والأربعين شهيداً والشيخ متى الناسك" فهم شهداء من الشعب وإلى الشعب من أجل السماء، كنّا ولا زلنا، كلنا شهداء في مسيرة الحياة، وسحابة شهادتنا لا زالت مضيئة أو تضيء دروبنا في هذا الزمن القاسي بعيش إيماننا والشهادة لمسيرة مسيحيتنا، وهذه هي حقيقتنا ولا شي أخر .
الخاتمة
نعم ، اليوم كلنا شهداء، وكلنا يجب أن ننظر إلى الصليب على أنه علامة الحب كما يقول مار بولس "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله" (فيلبي29:1)، وأيضاً "إنْ كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" (رومية17:8). وليس من المبالغة في شيء إنْ قلتُ: أن الإيمان المسيحي انتشر في العالم كله باستشهاد القديسين الأبرياء أكثر من انتشاره بوعظ المبشرين وتعليمهم، فنما الإيمان، وأتى بثمار كثيرة لحساب ملكوت الله، فقد كانوا فخورين بدينهم وبتبعيّتهم للمسيح، ولم يكن الصليب عندهم عاراً وإنما كان لهم عزّاً وافتخاراً رسموه على وجوههم وأياديهم.
أمّا اليوم نحن ، ومن المؤسف ، نحمل رزق زماننا بحيلة أو بمكر أو بقصة كاذبة أو حتى بإدّعاءات زائلة، لننال مآربنا ونفوز بدنيانا وبعيش رغيد، وننسى أن الحقيقة ما هي إلا شهادة الإيمان بالمسيح الحي. نعم علينا أن ننظر إلى الصليب ونسبّح الذي مات عليه من أجل خلاصنا، ونناجيه بفرح وحبور وليس فقط إلى لمّ الشمل من أجل الدنيا والزمن، أو الحصول على شهادة سفر حيث الجنة الزائلة والملكوت المباع وبعيش إيماننا كما نشاء ، فالكنيسة تقول "الإيمان شهادة حياة في وقت الألم وليس ساعة رحيل"، والرب يسوع قال " من أحبَ أباً أو أُماً اكثر مني فلا يستحقني " (متى 37:10) وما هذا الملكوت الدنيوي الذي نبتغيه في هذه الحياة إلا مزرعة للزؤان" ( متى 36:13) ، ومن المؤسف أن تكون هذه الحقيقة هي المتربِّعة اليوم على عرش الإيمان الصوري، بينما حقيقة السماء تدعونا لنحيا الإيمان بعمقه وصليبه وليس تباهياً وشهادةَ زورٍ وكبرياءً ومصلحةً وإعلاماً ، ، فما أجمل أن نحيَ حقيقتنا في مسيحيتنا وليس إعلاماً وإعلاناً ، فالرب يعرف ما في القلوب إذ ما من مكتومٍ إلا سيُعلَن ( لوقا 17:8) ، نعم وآمين.