حكامنا وحمار جحـا
حين ضاقت سبل المعيشة بجحا وصعبت حاله, استنفر كل مافيه من ذكاء وطرافة وراح يتفكر في طريقة أو حيلة يؤمن بها لقمة عيشه من السلطان, لما تبقى له من عمر. فكانت قصة تعليم الحمار القراءة. تلك القصة المعروفة. ولأن الحمار كما هو معلوم من أغبى الحيوانات ولا يتعلم بالسرعة المطلوبة, على حد تعبير جحا, لهذا طلب جحا من السلطان مهلة عشر سنوات لإنجاز هذا العمل الكبير. وكان يأمل من طلبه هذا أن يموت أحدهم: جحا أو السلطان أو الحمار فيلغى العقد نهائياً بغياب أحد أطرافه. وهكذا يتمكن جحا أن يتكسب رزقه لأمد معلوم.حكايتنا مع حكامنا هذه الأيام تشبه إلى حد بعيد حكاية جحا هذه مع سلطانه وحماره, مع بعض الفوارق. فبالنظر إلى أن حكام هذا الزمن أذكى بكثير وأكثر حذاقة من سلاطين أيام جحا وليس من السهل أن تنطلي عليهم حيلة كهذه. فهم تخرجوا من الكليات العسكرية ونالوا شهادات جامعية عليا, وكانوا دائماً الأوائل على أقرانهم في كل المراحل الدراسية بدليل سجل العلامات الممتازة التي كان أساتذتهم يمنحونها لهم حين كانوا بعد مجرد أبناء للحكام. ولما ورثوا السلطة, أو كما يُقال: انتخبهم الشعب, تنازلوا طوعاً وتواضعاً عن دور السلطان للشعب الذي هو بحسب النظم الديمقراطية التي نتفاخر بها (ليس إلا), ومفاهيم العصر التي تنص على أنه مصدر كل السلطات. ولا سيادة تعلو فوق سيادته. , وأقصد هنا الشعب وليس ما قد يُخيَّـل إليكم!!! وارتضى هؤلاء الحكام لأنفسهم أن يكونوا من عامة الناس حرفياً وبحسب القانون. يعانون ويجهدون ليكسبوا رزقهم. ولا يميزهم شيء إلا تلك المسؤولية الوطنية الثقيلة التي رماها الشعب على أكتافهم, فارتضوا حملها على مضض ومن منطلق الحرص على الوطن والمواطن عندما لم يقبل غيرهم حملها, بدليل عدم ترشيح أياً كان نفسه لهذه المهمة عـداهم. فكرسوا تواضعهم وزهدهم ذاك في دساتير كتبوها بعصارة أفكارهم النيِّـرة, وطرحوها للاستفتاء الشعبي, ونالت كما هو متوقع لها 100% من الأصوات.
ولهذا ومن باب التواضع ذاته, فقد تنازلوا عن دور السلطان واختاروا لأنفسهم دور جحـا في هذه الحكاية, مستنفرين عبقريتهم والمحيطين بهم وكل ما خبروه وتعلموه من أساليب ومناهج في الحكم, ليتكسبوا رزقهم ورزق عيالهم, وذوي القربى ممن أفسح الله لهم مكاناً واسعاً في قصور "الشعب" لما تبقى لهم من العمر كحكام. والأعمار بيد الله. ومنحوا شعوبهم عن طيب خاطر وبكل أريحية وروح رياضية, دورَ السلطان الذي لا تعلو كلمته كلمة "وفق الدساتير" ومبادئ الثورات البشرية.
أما الحمار, فقد كان له زمانه. وهو لم يعد يصلح لعصر الإنسان الآلي والكومبيوتر, ناهيك عن غبائه الشديد الذي لم يعد يتوافق مع متطلبات جحـا هذا الزمن. ولأنه في النهاية ومهما طال الزمن, لا بد له من تقديم امتحان القراءة الذي سيفشل فيه دون ريب, فتنكشف الحيلة. لذلك وانسجاماً مع روح العصر مرة أخرى, فقد تمت إحالته على التقاعد, واستعيض عنه بمفاهيم عامة عصرية لا تقبل القياس مثل: الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية. وقد تُضـاف إليها رتوشات تزيينية أخرى مثل (التحرير) إن كان لك أرض محتلة. أو (الانجازات العظيمة) إذا اعتُـبِرَ بناء مدرسة أو سجن أحد تلك الانجازات. وما أكثرها في طول البلاد وعرضها. مع ملاحظة تناقص نسبة المتخرجين من الأولى وعدم فاعليتهم, وتزايد ملحوظ في أعداد الداخلين إلى الثانية.
وهكذا تبقى هذه المفاهيم غير قابلة للقياس أو الممارسة العملية, بل لاجتهاد الألسنة المشرعة كالسيوف من أدوات أجهزة الحكام الإعلامية. فتتحول إلى طلاسم في عيون الناس لا تُفكُ رموزها إلا عبر تلك الأجهزة المجندة ليل نهار لتسويق اجتهاداتها المجافية لكل منطق والمهووسة بالتصفيق للهزائم الموصوفة عربياً بالإنجازات وكتابة قصائد المديح للتقدم الذي لم يحصل قط.
من هذا المنطلق تغدو حفلات (المولِـد) الشعبية, والتي تسمى أحياناً (برلمانات) مشاركة شعبية في الحكم!! كما تتحول صناديق العطارين التي كل شيء فيها معروض للبيع وهي تجوب أزقة الحارات والقرى البعيدة المتناثرة, تلك القرى التي كل ما فيها (زفت) بحسب التعبير الشعبي إلا الطرقات, هذه الصناديق تتحول إلى صناديق "انتخاب" تجاوزاً. أما المسيرات الشعبية, (ويجب الانتباه هنا إلى تحول كلمة تظاهرة إلى مسيرة) التي تخرج بين الحين والآخر, هي شكل متميز من أشكال الديمقراطية والتعبير الحر عن الرأي في تأييد الحاكم وافتدائه بالروح والدم. في حين أن التظاهرات الاحتجاجية ممنوعة بالطبع. وستقمع بكل وحشية وبأعنف الوسائل, لأنها تمثل فوضى وتهديداً للاستقرار "الأمني" الذي تتميز به بلداننا عن بلدان العالم قاطبة. ونستثني منها الحالات التي تأمر بها الأجهزة الأمنية للحاكم لتوظَّـفَ ضد موقف ما من دولة ما, أو لنشر صحيفة أجنبية مقالة أو رسماً ما قد لا يستسيغه الحاكم أو لغاية في نفس يعقوب. بشرط ألا تتعدى التظاهرة حرق بعض السفارات المحددة بعناية.
أما السيادة والشموخ والإباء الوطني, فجرب إن كنت تستطيع قياسها أمام هذا الزعيق المتواصل والممزوج بحداء رعاة الإبل المنبعث من الإذاعات والتلفزيونات العربية والذي يدعونه أغانٍ وطنية إذ تجعلك تعتقد أن العالم أجمع راكع تحت أقدامنا يستجدي منا الرحمة والإحسان, في حين أن أطفالنا ينفرون من قلم الرصاص الذي تنتجه معاملنا الوطنية, لرداءة نوعيته. في الوقت الذي لا يعجب المقتدر منا أن تكون حتى سراويل نسائه إلا مستوردة من الخارج. فهل كان ذلك الاستبدال موفقاً بين ذلك الحمار, وهذه المفاهيم؟
أما مدة العقد, فحدث ولا حرج. والسنوات العشر التي ارتضاها جحا ذلك الزمان لنفسه, مرفوضة عند جحا زماننا جملة وتفصيلاً. كما إن مبدأ التحديد ذاته مرفوضٌ أيضاً. والعقد الذي بينه وبين السلطان, الذي هو الشعب تجاوزاً, لا مدة له وسيبقى قائماً إلى ما شاء الله. أما ما يُـشاع بين الحين والآخر في القوانين عن تحديد مدة, فهذا ليس إلا من قبيل الرتوشات التزيينية التي تحدثنا عنها سابقاً. وهي صالحة فقط على الورق. والورق كمايعلم الجميع مادة سريعة التلف, وبخاصة إذا طالتها نار الخصوم. أما الحاكم فهو خالد بحسب كل الشعارات والتحليلات التي تقدمها لنا أجهزة إعلامه معلبة وجاهزة على طبق من ذهب. فهل يمكن بعد مقارنة الفاني بالخالد؟
ومع ذلك فإننا نُدعى كل بضع سنوات لإبداء رأينا فيه. وهذه منتهى الديمقراطية. ولكن لم يحصل أن قالت الأغلبية ولو لمرة واحدة (لا). ذلك لأن لك الحق بينك وبين نفسك أن تعتقد ماتراه صواباً شرط أن تضع كلمة (نعم) في صندوق العطار. وما دام رأي الأغلبية هذا, وهو هكذا دائماً, فهو باق وخالد إلى الأبد.
إنها الحكاية ذاتها مع بعض التعديلات التي يتطلبها العصر.
فلكل زمان جحـاه, ولكل جحـا حمـاره!!!