حملة "الأنفال" السورية
يبدو أن قدر الكرد في هذا الشرق هو العذاب. والانتقال من هولوكوست الى آخر. فبالأمس أعلن نظام الحكم السوري الديكتاتوري عن قيام حملة "أنفال" جديدة على كرد سوريا. فلم يكد الكرد في شمال العراق أن يتعافوا من حملات "الأنفال" الصدامية التي قادها المعدوم قريباً علي الكيمياوي، أو علي "السمّواي" (نسبة الى السمّ) ويحتفلوا باعدام مجرم حملات الأنفال في 1988، حتى قام نظام الحكم السوري، وهو فردة البسطار الأخرى للدكتاتورية البعثية النازية، ببدء حملة "أنفال" جديدة في منطقة الحسكة.سموم الديكتاتوريات واحدة
وليس بالضرورة أن يستعمل نظام الحكم السوري المبيدات الكيمائية نفسها لإبادة الكرد في سوريا، كما فعل العهد الهمجي البعثي السابق في العراق، وإن كان ربما سيستعملها إن اضطر إلى ذلك مستقبلاً. فسموم الديكتاتوريات واحدة. إلا أن نظام الحكم السوري معروف بمدى "رقيه وأناقته" في التخلّص من أعدائه وإنزال أشد مظاهر الخوف والرعب في قلوبهم. فهو لا يقوم بالتنكيل الجسدي الفظيع لأعدائه كان يقطع أعضائهم الجنسية، أو يضعهم في براميل الأسيد، أو يلقي بهم في مراجل الماء المغلي، أو يبني فوق أجسادهم أكواماً من الحجارة كما كان يفعل في الماضي. وإنما يستعمل وسائل قتل أكثر رقياً وتقدماً تقنياً كالسيارات المفخخة والقنابل الموقوتة كما تم في لبنان، أو يرمي بهم في غياهب السجون طوال العمر، كله كما فعل مع أعدائه من السياسيين، وكما يفعل الآن. إنه الإرهاب المهذب والموت المؤدب، أو يتبع جزءاً مما اتبعه صدام حسين في كركوك مثلاً، وهو تفريغ الأماكن الكردية من كردها، وإحلال عرب بدلاً منهم، لكي تطغى القومية العربية ( وهي القومية الوحيدة التي يعترف بها حزب البعث في العالم العربي) على القومية الكردية الموجودة على أرضها قبل آلاف السنين، وقبل العرب، وغير العرب، كحال الأقباط في مصر تماماً الذي كانوا أسياد البلاد فأصبحوا عبيد البلاد بفضل الإسلام السياسي المعاصر وبفضل خوف نظام الحكم المصري من هذا التيار وخاصة في هذه الأيام عندما أصبح نظام الحكم بين فكي تيار الإسلام السياسي المتمثل بالأخوين المسلمين في الداخل والإخوان المسلمين على حدوده في غزة متمثلاً بحركة حماس.
صفحة جديدة من عذاب الكرد
اليوم يبدأ النظام السوري بكتابة صفحة جديدة من عذاب وشقاء الكرد في هذا الشرق، رغم أنهم يمثلون القومية الرابعة في هذا الشرق بعد القومية العربية، والتركية، والإيرانية. وسوء حظ الكرد أن خلقوا بين العرب، واستوطنوا أرضاً أصبحت على حدود البلاد العربية، أو أصبحت البلاد العربية على حدود كردستان الكبرى. ولو أن جيران الكرد من الغربيين، لنالوا استقلالهم منذ زمن طويل، وأسسوا الدولة الكردستانية الكبرى بموجب القوانين وشرائع حقوق الإنسان الغربية.
يبدأ السطر الأول من هذه الصفحة الجديدة السورية لعذاب وشقاء الكرد، فيما أعلنته مجموعة من القوى السياسية السورية المتمثلة بـ "حزب آزادي الكردي"، و "الإتحاد الديمقراطي PYD"، و"الحزب الديمقراطي الكردي السوري"، و"الهيئة العامة للتحالف الديمقراطي الكردي في سوريا"، و"الجبهة الديمقراطية الكردية".
وأصدرت هذه القوى السياسية الكردية السورية بياناً مهماً، دقت به ناقوس الخطر لحملة الأنفال السورية القادمة، والتي بدأت بـ " توزيع أراضِ بمناطق كردية لـ 150 عائلة عربية من خارج المنطقة. وأن السلطات بصدد توزيع باقي الأراضي على فلاحين وافدين من خارج المنطقة الكردية في الوقت الذي تحرم فيه الآلاف الفلاحين الأكراد من الحصول على تلك الأراضي، رغم أنهم يعيشون في نفس القرى، وفي حالة حرمان يجبرون معها على التشرد والهجرة.
وقال البيان: إن من حق الفلاح الكردي المحروم أن يحصل على هذه الأرض التي حرم منها بموجب مشروع الحزام العربي وسياسة التمييز القومي".
وحمّلت القوى السياسية الكردية السورية السلطات السورية "مسؤولية ما يترتب على هذه السياسة من مخاطر تزيد من حالة الاحتقان الموجودة أصلاً، والتي تهدد الوحدة الوطنية التي تعتبر الأساس الذي تقوم عليه أية مواجهة للأخطار الخارجية والتحديات الداخلية".
ونددت هذه القوى بالقرارات واعتبرتها "قرارات استثنائية عنصرية تأتي في إطار السياسة الشوفينية المتبعة بحق الشعب الكردي" وطالبت "بوقف العمل بها، وإلغاء آثارها الضارة، وإنصاف الفلاحين الكرد وإنقاذهم من براثن الفقر والحرمان".
وأهابت هذه القوى بكل "القوى الوطنية والغيورين في سوريا، أن يتضامنوا مع الفلاحين الكرد والعمل على إنهاء معاناتهم، ودعم مطالبهم المشروعة في الحصول على حقهم من الأرض الزراعية، انطلاقاً من ضرورة صيانة التآخي العربي الكردي".
هولوكوست الأمس واليوم
هكذا بدأت حكاية الإرهاب البعثي للقومية الكردية في العراق.
تهجير الكرد من كركوك منذ عام 1958 لأسباب اجتماعية وقبلية، ويشير العديد من الباحثين إلى أن أولى محاولات التعريب في كركوك جرت إبان الحكـم الملكي ( عهد وزارة ياسين الهاشمي ) من خلال إسكان عشائر العبيد والجبور في الحويجة وذلك لتوفر الأراضي الزراعية الخصبة وبحجة منع النزاعات مع عشائر عزه في ديالى التي كانت قائمة مع عشائر عربية أخرى في مناطق أخرى من العراق. ثم جرى التهجير القسري بعد اتفاقية آذار 1970، ثم اشتدت عام 1979 بشكل أكبر عندما تولى صدام حسين المُلك في العراق، وبدأت حرب الخليج عام 1980. ومارس النظام البائد عملية مصادرة الأراضي للكرد والتركمان والآشوريين وتوزيعها على العرب وبخاصة منتسبي الأجهزة الأمنية ذلك لآن مدينة كركوك خاضعة لسلطتها المركزية وتمارس عملية نقل وطرد السكان الكرد وغيرهم من كركوك والمناطق المحيطة بها إلى مناطق أخرى في الجنوب أو ترحيلهم إلى كردستان للتأثير على الوضع السكاني في المدينة ومنع السكان الأصليين من الأكراد وغيرهم من نقل ملكية الأراضي والعقارات أو بيعها فضلا عن قيام الحكومة العراقية بتوزيع الأراضي على العرب من العراقيين والفلسطينيين من العاملين في الأجهزة الأمنية والعسكرية ومصادرة الأملاك للسكان الكرد و عدم السماح لهم بتسجيل الأملاك بأسمائهم كما يشير الباحث منذر الفضل في دراسته (الوضع القانوني لمدينة كركوك في ظل العراق الفيدرالي).
وتبع ذلك (قومجة) أو تعريب كركوك أو ما أطلق عليه سياسة التطهير العرقي Ethnic Cleansing. فتمَّ تغيير أسماء الشوارع والمدارس والمعاهد من الكردية إلى العربية. وتمت تهجير العائلات الكردية إلى مدن أخرى واسكان عائلات عربية بدلاً منهم. وتم تكليف مجموعة من مؤرخي السلطان لكتابة تاريخ كركوك العربي. وتم طمس تاريخ كركوك الكردي من كتب التاريخ التي كانت تدرس في المدارس في جميع المراحل الدراسية.
وما يفعله نظام الحكم السوري الآن في مناطق الكرد السوريين هو جزء مما فعله العهد العراقي البائد في كركوك وفي مناطق أخرى من العراق كخانقين وكركوك والموصل ومخمور وكفري وتلعفر وداقوق ومناطق كردية عديدة و أخرى يسكنها التركمان .
موقف المثقفين العرب
هل سيسكت المثقفون العرب والنخب السياسية الثقافية عن مثل هذه الجرائم كما سكتوا في السابق على جرائم عهد صدام حسين التي تفاقمت إلى أن وصلت إلى حملات "الأنفال" الثماني، والتي كانت بدايتها تهجير أهالي كركوك الكرد منها تمهيداً لنفي الكرد وتشتيتهم، وتمهيداً لإنكار حقهم في بناء دولتهم الكبرى التي تضم أجزاء من العراق وسوريا وتركيا وإيران.
صوت المثقفين يجب أن يرتفع عالياً حتى يصل أسماع الشرعية الدولية في منظمات حقوق الإنسان، والأمم المتحدة ومجلس الأمن. فاغتيال شعب كالكرد على هذا النحو هو جريمة أكبر في حق الإنسانية من اغتيال رئيس وزراء، أو وزراء، أو نواب، أو أي مسئول سياسي أو إعلامي آخر.
وصوت المثقفين يجب أن لا يكون عزفاً منفرداً على الربابة العربية يخاطب الصحراء العربية القاحلة، بقدر ما يجب أن يكون نشيداً أوركسترالياً جماعياً، يخاطب العالم باللغة التي يفهمها ويستوعبها، ويتحرك ايجابياً من جرائها.
إن مأساة الكرد السوريين امتحان جديد للمثقفين العرب وقدرتهم على استنهاض همم الشرعية الدولية والعدالة الدولية، حيث لا شرعية عربية ولا عدالة عربية، حتى للعرب أنفسهم داخل الوطن العربي. وما لم يقم الغرب ومؤسساته بحماية حقوق شعوب الشرق الأوسط، فلن تصل هذه الحقوق إلى أصحابها. وأما تجربتنا المريرة مع الغرب في المشكلة الفلسطينية (وهي قميص عثمان المرفوع دائماً)، فنحن العرب ونحن الفلسطينيين الذين أضعنا هذه الحقوق، بالتهاون حيناً، وبالخيانة حيناً آخر، وببيع الأرض حيناً ثالثاً، وبالنزاع على السلطة حيناً رابعاً، وبالمراهنة على عون الخاسرين (هتلر والحاج أمين) حيناً خامساً، وبتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية صراع ديني بين العرب واليهود حيناً سادساً..الخ. وهذا ما جرى منذ ما يزيد على نصف قرن. وأبوابنا كانت مخلوعة ومشرعة، وباب البيت المخلوع والمشرع، هو الذي يدع الحرامي يعبث بالبيت ويسرقه. وقد كان.
السلام عليكم.