حين تشكل اهداب الدين خارطة الوطن الجغرافية والقومية
تعد ارض ما بين النهرين من المحطات الاول ان لم اقل البكر التي ساهمت بتفريخ ورعاية ما نطلق عليه اليوم الفكر الديني،ولو تسنى لاي منا واطلع على الكم الهائل من الروايات النهرينية التي تتحدث عن الفكر الديني السومري والبابلي والنينوي،لتبين له ان الارضية الدرامية في حياكة ونسج تلك القصص والروايات كانت تعبيرا واقعيا لدفع الانسان الى التمسك بأرضه اولا ومن ثم ولائه لطبقة رجالات اكليروس تلك الازمنة،ولعل رواية بناء برج بابل التي توردها التوراة ورغم تناقضها الخارجي مع ما نقول تصلح ان تكون انموذجا يحتذى به للتدليل على ما سوف آتي عليه لاحقا
تقول الرواية:انه بعد الطوفان ونجاة نوح واولاده وعوائلهم وتكاثر عددهم،وبعد ان كانوا قد استقروا في سهل شنعار،قرروا ان يمكثوا على هذه الارض الى ما لانهاية ،ولكي يرسخوا فكرة البقاء هذه في وجدانهم شرعوا ببناء مدينة وبرجا ارادوا له ان يصل اعنان السماء،كعلامة دالة على وجودهم وكصلة وصل تصل بينهم وتمنع عنهم التشتت(نقلت عن سفر التكوين الفصل 11 بتصرف)اي ان نظرية ضرورة الاستقرار على بقعة جغرافية نسميها اليوم وطن هي قديمة قدم الانسانية،ولان اولئك القوم كانوا يتكلمون لغة واحدة ومؤكد كانت تصل بينهم اواصر اجتماعية مشتركة،فمعنى ذلك: ان الهاجس القومي ليس اختراعا حديثا كما يروج البعض
مؤكد لا احد يقدر ان يحدد العمر الزمني لهذه الحكاية الذي لا بد يتجاوز العدة الاف من السنين،فقد اثبتت التنقيبات الاثرية مدى تأثر القصص الديني عموما بالموروث الحضاري لكل الشعوب والشعوب التي مرت على ارض ما بين النهرين خصوصا،اضافة الى عجز من يدعي بنسب هذه القصص الى المشيئة الالهية عن تقديم دليل علمي يتسق ومنطق العقل،ناهيك عن تناقض الكثير من تلك القصص ومفهوم الله الذي اتفقت البشرية اليوم عليه
يورد لنا سفر التكوين من خلال سلالات النسب التي يأتي عليها ان ابراهيم هو من نسل سام ابن نوح،وابراهيم هذا كان قد ولد هو الاخر في منطقة ما بين النهرين، اطلق عليها البعض خطأ اسم <اور>وحاول هذا البعض ان يقنعنا بأن اللفظة هي اسم علم،فيما لو تقدمنا قليلا سنجد ان لفظة اور تعني الارض، لو قارناها بلفظة اور-شليم (على سبيل المثال وليس الحصر) اي ارض السلام،لذلك تكون عبارة<اور الكلدانيين>مجرد صفة او اشارة الى ارض المنجمين وليس ارض قوم كنوا بالكلدانيين،ثم ينتقل ابراهيم الى ارض الكنعانيين(لاحظ معي عزيزي القاريّ كيف ان صاحب التوراة يصر على تسمية المنطقة الجغرافية بأسماء محددة كدلالة على فرزها عن مناطق اخرى تسمى بأسماء اخرى،وشعوب هذه المناطق تتباين عن بعضها،اي ان مفهوم الوطن والقومية كان متلازمان)وفي ارض الكنعانيين تحققت بعض وعود الله لابراهيم بعد ان يستقر نهائيا،وبعد عودة بيت يعقوب من مصر على يد موسى كما هو معروف(اهملت ذكر انعزال بني اسرائيل في مجتمع خاص بهم في مصر كدلالة على تطور مفهوم النزعة القومية،وبعكسه كان يفترض ان تذوب الاجيال الاسرائيلية المولودة في مصر في غمار معترك الحياة لولا تمسكها بهذه النزعة التي كان الدين الابراهيمي يدعمها الى حد ان حرم عليها اختلاط الذكور بالاناث المصريات فشرع لهم الختان كعلامة دالة الى انتمائهم الى هذه المجموعة البشرية التي كان ينفر منها المصري)اسسوا دولة اتخذت الدين دستورا الهيا وبشريا يسيرون دفة السلطة وفق بنوده،حتى ان الشعب الساكن ضمن الحدود الجغرافية لتلك الدولة اتصف فقط بالصفة القومية قبل الدينية(وهنا احب ان اهمس في آذان الدكتور سرهد جمو والسيد عامر فتوحي وغيرهم:لو صحت نظرية وجود الكلدان كشعب وجد فعلا بهذا الاسم،فمن الاولى ان يكون اليهود اليوم هذا الشعب،لانه حتى هذه اللحظة ليس هناك ما ينفي انتساب اليهود الى ابراهيم،والحال ينطبق على العرب ايضا رغم عدم وجود اي دليل مادي سوى القرآن الذي يعتبره العربي المسلم اقدس كتب الله المعمول بها عند اهل الاديان التي يطلق عليها سماوية)لانهم تسموا بأسم ابيهم يعقوب الذي صار اسرائيل
ما بين الموسوية والمسيحية هناك فترة زمنية اتفق اغلب المؤرخون انها بحدود الثلاثة عشرة قرنا،وخلال هذا المدى الزمني ظهرت دول وامبراطوريات تسمت بأسم مدن او دول او اسماء اشخاص،كالاشوريين الذين رافق اسمهم الخطوات الاولى للخليقة كما تقول التوراة(التكوين8:2-14)والرومان والفرس واليونان وغيرهم كثير،ولو تتبعنا نشأة هذه المجموعات البشرية والدور الذي لعبه الدين في حياتها،سنجد اننا لا نجانب الحقيقة اذا قولنا:ان الدين ساهم بشكل فعال في تحديد الخارطة الجغرافية لموطن تلك الشعوب،كما انه فرض على تلك الشعوب التقيد بملمح قومي متميز جدا،مع بعض التحفظ في الحالة الفارسية ربما
في المسيحية لا نجد اي مكان لمفهوم الوطن والقومية مطلقا،فالمسيح يقول بصريح العبارة:ان مملكتي ليست من هذا العالم،لو كانت من هذا العالم لدافع عني اتباعي(يوحنا36:18)في اشارة صريحة الى دعوته الى ملكوت السماء،لكن هذا لا يدل مطلقا على ان العقيدة المسيحية ترفض فكرة الوطن،انما ترفض ان يقوم حكم بشري على اهدابها،فالمسيحية تعزل عزلا تاما بين العبادة وممارسة السياسة(اعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر)،كما ترفض المسيحية ان يكون للانسان سيدان متناقضان في جوهر وجوب الطاعة اليهما(فأنتم لا تقدرون ان تخدموا الله والمال\متى24:6) اما فيما يخص المسألة القومية فأننا نجد ان المسيحية تجل هذه النزعة ايما اجلال،وليس ادل على ذلك من تبشير تلاميذ المسيح بعقيدة سيدهم بلغة القوم وليس بلغتهم القومية هم،واحتفاء الكنيسة بذكرى حلول الروح القدس على التلاميذ يؤكد ذلك بشكل واضح جدا،حيث بشروا الوافدين الى اورشليم بمناسبة الفصح كل بلغته(اعمال الرسل2)اي ان المسيحية لا تنهي عن العمل بالنزعة القومية انما تسانده شريطة انسجام ممارسة هذه النزعة والعقيدة التي تقول بها
يعد الاسلام اكثر الاديان تأكيدا على المسألة القومية،حتى يبدو لمطالع القرآن ان الاسلام يفقد آهليته اذا ما انفصم عن العروبة(انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون\زخرف3،وكذلك وردت في يوسف2،وكذلك في الاحقاف12 وطه113ونحل103وارعد37وكثير غيرها من النصوص)،الا انه لا يولي مسألة الوطن المسور بحدود جغرافية سوى اهمية بسيطة،ويعتقد البعض ان ذلك عائد الى كون كل الناطقين بالعربية والذين جاء القرآن ليهديهم الى عبادة الله الواحد الاحد كانوا يعيشون اصلا في منطقة محددة جغرافيا بالجزيرة العربية واليمن وبعض اطراف الشام والعراق ومصر وفلسطين،الا ان البعض الاخر يجد في هذه الحدود مبالغة كبيرة مستشهدين بالنصوص القرآنية:وكذلك اوحينا قرآنا عربيا لتنذر ام القرى ومن حولها....شورى7،ولكل قوم هاد...الرعد7،وانه ذكر لك ولقومك...الزخرف44،كدلالة على سكان مكة وما يحيط بها من احياء العرب
لم ترد لفظة وطن في القرآن مطلقا الا ان هناك اشارات صريحة اليها واعم تلك الاشارات هي لفظة<الديار>،ولكننا لو اخذنا بالاعراف السائدة يوم ذاك سوف نجد ان تلك الاشارات لا تصلح ان نميز وفقها بين مكة والمدينة على سبيل المثال،لان الانساب كانت متداخلة بين اغلب القبائل العربية،وكانت الجزيرة العربية بعمومها موطنا لاي عربي وليس ادل على هذا من المواسم سواء الدينية او الدنيوية،كما في اجتماعهم في عكاظ او الحج الى مكة
بعد توسع فتوحات وغزوات الكيان الاسلامي السياسي الجديد نجد ان الامصار التي احتلها الفاتح المسلم تعرضت الى محاولة سلخها عن قوميتها الاصلية وفرض القومية العربية عليها بالترغيب تارة والترهيب مرات كما حصل في العراق ومصر والشام وشمال افريقيا كما فرض على مواطني هذه الامصار الولاء لعاصمة الخلافة من خلال الولاء للامير وليس للوطن الاصلي،لان الاسلام الغى الحدود بين امصاره اصلا،وظل هذا النير جاثما على اعناق تلك الشعوب الى ان تحررت تلك الشعوب من قبضة سلطة الخليفة او الامير،واظن شخصيا انه هذا هو السبب في تبني بعض المجموعات الدينية الفكرة الدينية على حساب اصالة الانتماء الوطني
ملاحظة:تجنبت الخوض في الحديث خشية اتهامي بما انا في غنى عنه
yakoballo@yahoo.co.uk