Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

حين يتربع الثوار على عرش السلطة

علي حسين عبيد/
لم تخلُ صفحات ومراحل التأريخ من حلقات الصراع المستمر بين الثوار والطغاة، وغالبا ما يقدم الرجال الثائرون أغلى ما يملكون من أجل الإطاحة بالحكام المستبدين وفي بعض الاحيان يخسر الثائر حياته وهو يحث الخطى في طريق إسقاط السلطان المتجبر، وإذا ما سقط شهيدا فإن راية الحق تُرفع بأيدي الثوار الآخرين حتى تتم عملية إسقاط الحاكم المستبد والقضاء على نظامه وحاشيته وكل ما يمت له بصلة، لتبدأ مرحلة حكم جديدة يقودها (الثائر قديما/ الحاكم جديدا).

وهذا ما حدث ويحدث في الشعوب التي لا تعرف ولم تتعلم بعد التداول السلمي للسلطة، أما الشعوب التي تجاوزت هذه المرحلة السياسية العرجاء فإنها لم تعد بحاجة الى ثوار بسبب غياب الطغاة تماما وشيوع التداول الدستوري للسلطة.

ولأننا من الشعوب التي سادت فيها الانظمة السياسية العشوائية التي أنجبتها الانقلابات والصراعات الدموية للوصول الى السلطة، فإن الثوار والمعارضين كان لهم حضورهم الدائم في تأثيث المعادلة بين الحاكم والمحكوم، سواء كانوا في الداخل أم الخارج، وكانت شعاراتهم (الثورية) تلهب العقول والقلوب والمشاعر معا، فحين يُطلق المعارض او الثائر الفلاني كلمته او جملته المضادة للحاكم المستبد يتلقفها الناس جميعا ابتداء من المثقفين الى الشباب ثم عموم الشعب وتصبح أداة فاعلة في تحريك الوضع المضاد للسلطة القائمة كونها تصب في الصالح العام وتهدف الى اثارة نوازع التحرر المكبوتة في أعماق الشعب.

وهكذا يكون الثائر او المعارض للسلطة الجائرة نموذجا يُحتذى به كونه يتصدر المضحين في سبيل الشعب ويقودهم نحو سكة الخلاص من الظلم والطغيان، فتتصاعد وتيرة التأييد للثوار والمعارضين وتتنامى باضطراد حتى يسقط الطاغية ويبدأ المعارضون بقيادة الشعب، فيجلسون على الكراسي السحرية للسلطة والنفوذ والمال والجاه وما شابه، ويبدأ مفعول السلطة يتدفق في عقولهم رويدا كما يتدفق الماء في الأرض العطشى، ثم ماذا يحدث حينذاك؟.

إن التأريخ البعيد والمنظور يؤكد لنا بأن المعارضين الذي قارعوا النزعات المتجبرة للسلطان يبدؤون بتناسي مواقعهم السابقة ومواقفهم الثائرة التي أوصلتهم الى أماكنهم الجديدة في قيادة الشعب، وتبدأ حالة جديدة من تضخم الذات تتنامى في دواخلهم وتتشكل في شخصياتهم الجديدة لدرجة أن المعارض والثائر القديم يتحول (من دون أن يشعر بذلك) الى حاكم رئيسي او فرعي مستبد، ينسى او يتناسى سيرته الكفاحية التي وقفت الى جانب الشعب ضد الحكام الظالمين وانتهت به ومن معه الى عرش السلطة المسحور والساحر في الوقت نفسه، فيتحول الى طاغية صغير او كبير وحسب موقعه القيادي في السلطة التنفيذية او التشريعية او غيرها.

وهكذا يصبح الثائر المعارض في زمن مضى حاكما لا يرى سوى ذاته ومصالحه او مصالح حزبه، فيحاول أن يستحوذ على كل شيء يصب في تعضيد سلطته وتقويتها بغض النظر عن الاضرار التي قد تلحقها بالآخرين، ويصبح الفقراء في خبر كان بعد أن أدّوا ما عليهم في إيصال المعارضين والثوار الى كراسيهم.

وهكذا تكبر الذات الحاكمة للثائر القديم وتتعاظم لديه نزعة التسلط وحب النفس فتُمحى بصيرته القديمة التي كانت تنتصر للفقراء ولم يعد يرى سوى الارباح الذاتية التي يلهث وراءها بشتى السبل والوسائل اللامشروعة، مدفوعا بشراهة التسلط المنبثقة من عرش السلطة المسحور، واضعا شعاراته ومبادئه خلف ظهره، متنكرا لذلك الماضي الذي قوّض عرش الطاغية وأطاح به من عليائه الذي كان قائما على معاناة الفقراء وحرمانهم وآلامهم وجهلهم وفقدانهم المزمن لحقوقهم المشروعة.

ولكن كلنا قرأ أو سمع بالقول المأثور ذائع الصيت (ماذا يفيد لو ربح الانسان العالم كله وخسر نفسه) ومثل هذه الاقوال الخالدة لا يمكن أن تخرج الى الوجود إلّا بعد تجارب عظيمة تُستخلَص منها، فالثائر القديم الذي صار حاكما فرعيا او رئيسيا على رفاة الطغاة قد يستحوذ على كل شيء وينسى تأريخه ويستأثر بما يحلو له ويطيب من كنوز الدنيا على حساب الفقراء ويربح العالم بمختلف الأساليب والطرق الشريرة ولكن هل ثمة من فائدة لكل ذلك؟.

من هنا على السياسيين أن لا ينسوا ماضيهم قط، بل عليهم أن يستعيدوا جوهر سيرتهم الكفاحية في كل لحظة تمر عليهم وهم يتربعون على كراسي مناصبهم مهما ارتفعت وتضخّمت، وعليهم دائما أن يتذكروا ما آل إليه من سبقهم من الحكام والقادة الذين وصلوا الى السلطة بقطار المعارضة ثم تحولوا الى حكام مستبدين، فكانت نهايتهم تنم عن أفعالهم التي أساءت للجميع وأولهم الفقراء.

وعلى السياسيين أيضا أن يتصدوا لمسؤولية التحول من حالة الصراع على السلطة بالعنف والانقلاب الى حالة تناقلها سلميا دستوريا وفقا للمؤسسات القانونية المنتخبة التي تدعم هذا الاتجاه، وترسّخ النظام الديمقراطي التحرري الذي لايسمح للذات المتسلطة بالتضخّم على حساب الآخرين، لاسيما الفقراء الذي تعرضوا لأقسى حالات الحرمان والعوز المزمن.

* مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام

http://annabaa.org


Opinions