حين يناقض المثقف نفسه بنفسه
أن الثقافة التي تربينا عليها في قراءة الكتاب المنهجي يومَ كنّا نجلس على مقاعد مدراسنا وجامعاتنا,لم تتعدّى تقنياتها سوى ثقافة الحفظ و الاجترار من أجل إجتياز الإمتحان للحصول على وظيفة للعيش,كما أنها لم تكن في ميكانيكيتها دراسة لترويض متلقيّها على إثارة السؤال النشط في شغبه الفكري التحفيزي, وهي في ذلك لم تكن تغرس فينا أي رغبة للحاجة الى البحث والتحليل من أجل صياغة الفقره المبدعه , لذلك ليس غريبا حين يقال عناّ بأننا معشر ٌ لا نستحمل ولا نستسيغ سماع من يتهّمنا بأننا لا نعترف بالمبدع, و ربمّا السبب يعود أيضا إلى عامل النشأة البيئية التي نمينا فيها ما بين اكناف القدسية الدينيه الممنوحة للأشياء الوارده في كتب السماء ولكل من يؤمن فيها بتزمّت يغيب فيه أي إبداع, وعامل العشائرية القبليه الذي كانت تنتعش في سلطانه السلطة الدينيه رهنا من الزمن هو الأخر سببا مضافا الى التي ذكرناها.الإبداع, بحسب فلسفة الدين وطريقة تفسير رجالاته له , والقانون العشائري المرتبط مصالحيّا بالمؤسسة الدينية بشكل شبه عضوي , يكون تفسيره هو خروج على القيم التي تعمّق جذور سلطة شيخ العشيرة ومصلحته العضوية المرتبطة مع المرجعية الدينيه.ففي رؤاهم ألتي تنطلق وهي صادقة في تعبيرها عن النزعه الشهوانية في حب البقاء أقوياء ومسيطرين على كل شارده ووارده, يبدو في نظرهم الإبداع على أنّه ضرب من الضلاله ليس إلا, وما على المبدع إلا أن يتحاشى الحمر من الخطوط التي يضعونها ليكون العبد مطيعا و مؤمنا مسالماً كلما كان ماشياً جنب الحيط كما يقول المثل المصري.
للحديث عن مفهوم محدد للثقافه, ليس بالأمر اليسير, خاصة في عصرنا هذا ألذي باتت تتهاوى فيه الكثير من النظم والأفكار وقواعدها المعرفيه,فهي ليست مسألة الإختزال والحصر في مجال محدد من الحياة , إنها حالة تحقيق تفوّق ذهني في درجة الإلمام الشامل والتعامل مع مجموعة من العلوم الإجتماعيه والتاريخية والسياسية وفلسفاتها التي تتمازج وتتفاعل مكونة شبكة او نسيج قادر على الإحتكاك والتحاور مع ما تحققه ثورة البشر في المعلومات الحديثة , بحيث تصبح في شموليتها تغطّي معظم ألوان النشاطات العلمية والعملية التي يمارسها الإنسان ونتائجها في مجتمعه الذي يتحرك فيه. ففي كل منحى من مناحي الحياة , سواء السياسية او الفلسفيه أو الدينيه والأخلاقيه,نشهد العديد من التطورات النسبية حسب المكان والزمان الذي يحصل فيه ذلك التغيير ,لذلك غالبا ما نتحسس بين فترة وأخرى ولأسباب شبه إستثنائيه إستشراء ظاهرة ركود تنتاب مجتمع ما في مجال معين من مجالات فعالياته مقابل ظهور حزمه او شلّه ترى في ذلك فرصتها الذهبية للإنقضاض على أهلها والإنفتاح الهزيل مع الخصم المتربّص, وهذا يبدو واضحا عبر أية مقارنة بين مجتمع و مجتمع أخر, لنرى بأن أحد أسباب تمايز مجتمع على أخر و تفوقه عليه في مجالات معينه هو دور المثقف الملتزم ومدى قدرته على إيصال مسببّات التطوير المبرمجة إلى عقول الناس من أجل تحقيق الخطوة الأولى نحو التغيير, وبغياب مؤهلات مواكبة حركة المجتمع و متغيّراته ألتي تركها فيه التاريخ يكون حينئذ سلاح تبرير الخطأ الواقع هو من أقوى الأسلحة التي يلجأ إليها هذا(المثقف) .
بالعربي الفصيح, أنّ المثقف في يومنا هذا يبدو وكأنه لم يعد بنفس الحضور القوي الذي كان فيه على سبيل المثال في الخمسينات أو الستينات و السبعينات من القرن الماضي و يمكننا القول في هذا المنوال بأن مساعي تمييع القضيه(الوطنيه/القوميه) قسريا من قبل أثرياء عصر الإحتلال وقرارات القيادات السياسية العليا قد أسقطته (المثقف) في هاوية الببغائيه ثم إستمرّت تلاحقه بشتى الأساليب من(مغريات مناصب, مسكن بلاش, تذكره سفر مجانيه مع فندق مبيت خمس نجوم,نثريه جيب,,,والقائمة تطول) كي تستطيع تفريغه وعقله من كل مقومات التفكير المتسيّد والمستقل في رأيه , ثم تعاود تنفيذ مهمة حشو جديده في عقله بحجة أنّ الزمن يتطلّب إحترام الواقع والسير وراء ما يفرضه و ما تقتضيه مصلحة صنّاع ذلك الواقع المستحدث , ومعنى ذلك بأنّ مهمة النقد التي هي من صميم واجبات المثقف قد تمّ وضعها في رف المشاكسين الفوضويين او الإرهابيين او المتخلفين.
وهنا يقينا تتجلّى لنا قيمة و أهمية المثقف الملتزم في إبداعاته , وألتي كما نوهنا في عدم جواز مساومته لأي سبب حتى تصل به الأمور كي ينغمس في مستنقع تبرير المواقف المهزوزه وتمجيد مالك الدراهم وما علينا إلأ بقبول ركاكته والخضوع لمشيئته , مهمّة المثقف هي ليست كمهمّة أي إنسان عادي محدّقا إلى إزرقاق السماء ليقول لنا لا مطر اليوم.ممارسة النقد لكل ما هو غير طبيعي والتصريح به علنا وبما يستوجب أن يكون هي من صميم واجبات المثقف الحقيقي,وبإستطاعته القيام بذلك بأمان و سلام مع بني قومه من خلال إختياره المجال السلس الذي يتقبّل مفرداته النقدية التي يستخدمها في مساعيه التنويريه دون ورطة الذهاب حيث سلاسل وقيود المتربصين تنتظره عارضة أمامه ما يستلذ فيه من أكياس الذهب والفضة .
إنّ ظاهرة البيروقراطيه الإعتقاديه ألتي ورثناها من حضائن أروقة معابدنا ممثلّة في رموز من البشر, والأتوقراطية العشائريه ألتي عشعشت في مناحي حياتنا , هي بمثابة الخمبابا المفترس الماثل دائما أمامنا كحائل دون أي إبداع, وهي تمثل تلك القبضة ألتي لابد من كسرها ولجمها وذلك لن يتحقق بمجرد إعلان رفضها أو شتمها ,بل عن طريق إستيعابها أولا, ثمّ دراسة القيم الروحية والمادية التي ترتكن عليها في ممارسة ما نراه ظلما , ومهمّة المواجهة هي بالتأكيد صعبة, ويسبب صعوبة المهمّه ترى البعض من (مثقفينا) قد إختار الكره البلاستيكية الخفيفه للتهديف , بينما المطلوب من المبدع النزيه في ثقافته هو البحث عن الخيارات التي تحفظ له ولشعبه حالة الرزانه والتوازن , وما الخطا لوأنه يفكر في طريقة لتعزيز موقعه من خلال التضامن مع كل من يلتقي معه في تطلعاته السياسية الوطنيه الإنسانيه من أجل الإستفادة المتبادله.